حتى في الأحوال العادية فإن ارتباط بريطانيا بمجريات الأحداث في الاتحاد الأوروبي يأتي كأحد عوامل التفرقة وسط البريطانيين. لكن دعاة الانتماء إلى الاتحاد أنفسهم لا ينكرون نواقصه. لهذا جاء نبأ نيله جائزة laquo;نوبل للسلامraquo; بمثابة صدمة ترجمت نفسها سريعًا إلى امتعاض عميق.


صلاح أحمد: الحقيقة التي لا تخفى على أحد هي أن بريطانيا - سواء الرسمية أو غيرها - على درجة عالية من الامتعاض إزاء فوز الاتحاد الأوروبي بجائزة laquo;نوبلraquo; للسلام. ليس هذا وحسب، بل من الواضح أنها تسعى بشتى السبل إلى أن يكون هذا الامتعاض واضحًا لا مراء فيه لكل من يهمّه الأمر.

وكانت اللجنة النروجية للجائزة قد أعلنت، في معرض شرحها أسباب اختيار الاتحاد الأوروبي لهذا الشرف الرفيع، أنه laquo;أدى الدور الأساسي في تحويل أوروبا من قارة للحرب إلى قارة للسلامraquo;. وأضافت اللجنة أن الاتحاد laquo;ظل قوة حقيقية وراء الديمقراطية والتصالح في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وكان حاسمًا في مساعدتها على دفن خلافاتها الداخلية مرة وإلى الأبدraquo;.

وطبيعي أن نيل الجائزة صار محل حفاوة عظمى في مقر الاتحاد الأوروبي العام في بروكسل. فوصفه خوزيه باروسو، رئيس اللجنة الأوروبية، بأنه laquo;شرف عظيم لـ500 مليون شخص هم مواطنو أوروباraquo;. كما قوبل بالفرح الغامر لدى اللاعبيْن الأساسييْن، برلين وباريس. فقالت المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، إن هذا التطور سيحفّزها شخصيًا على المزيد من العمل لأجل أوروبا وعملتها الموحدة.

لكنّ وسائل الإعلام والمحللين في بريطانيا أجمعوا تقريبًا على أن الجائزة التي قصد منها أيضًا تسليط الضوء على نوع السلام الذي تتمتع به أوروبا، إنما فعلت العكس، لأنها أبرزت خلافاتها الآنية الحادة، ولهذا وصفت في الأروقة السياسية هنا بأنها laquo;هزلية ومدعاة للسخريةraquo;.

ونقلت وسائل الإعلام هذه تعليقات بعض كبار الساسة البريطانيين. وعلى سبيل المثال أوردت صحيفة laquo;تايمزraquo; تصريحًا ناريًا لنايجل فاراج زعيم laquo;حزب استقلال بريطانياraquo;، المعروف باسم laquo;يوكيبraquo;، والداعي إلى قطع الوشائج بالكامل عمّا يسميه سيطرة بروكسل على الشؤون البريطانية. فقال ساخرًا: laquo;الجائزة تثبت للقاصي والداني أن النروجيين يتمتعون حقًا بروح الدعابة العاليةraquo;.

ولئن كانت مسارعة زعيم laquo;يوكيبraquo; إلى الإدلاء بتصريحه هذا متوقعة انطلاقًا من الأرضية السياسية التي يقوم عليها حزبه، فقد عبّر رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، ووزير خارجيته، وليام هيغ، عن الشيء نفسه، عبر صمتهما المطبق وسط ضجيج الفرح المنطلق من العواصم الأوروبية الأخرى.

لم يفت المراقبون أن الحكومة البريطانية التزمت الصمت الكامل لثلاث ساعات بعد إعلان الفائز بالجائزة في أوسلو، وأن بيان وزارة الداخلية، الذي صدر في نهاية هذه الفترة، جاء مؤلفًا من 37 كلمة فقط. فجاء فيه: laquo;هذه الجائزة عبارة عن اعتراف بدور الاتحاد الأوروبي التاريخي في ترقية السلام والتصالح في أوروبا، خاصة عبر توسعه، ليضم دول وسط أوروبا وشرقها. ويتعين على الاتحاد الآن العمل الدؤوب والدائم من أجل الحفاظ على هذا الإنجاز وتعزيزهraquo;.

وكان مما قاله رئيس لجنة الجائزة، ثوربيورن ياغلاند، وهو يعلن قرارها إشادته بترقية الاتحاد الأوروبي للسلام في القارة laquo;عبر أكثر من 60 عامًا، بحيث صار من المستحيل مثلاً الخوف الآن من حرب بين ألمانيا وفرنسا - الشريكتين الآن - بعدما خاضتا ثلاث حروب في 70 عامًاraquo;.

وأشاد ياغلاند بتوسع الاتحاد التدريجي، خاصة بعد سقوط حائط برلين، فقال إنه صار العامل الأساسي في ردم الهوة العميقة بين شرق القارة وغربها، وتسوية الصراعات الوطنية الناشئة عن اختلاف الأعراق. وقال في هذا الصدد إن فتح باب عضويته لكرواتيا في العام المقبل، ثم صربيا والجبل الأسود في السنوات القليلة المقبلة، سيعزز أيضًا ساعده القوية أصلاً.

لكن كل هذا لم يمنع المجاهرة بأن تبرير لجنة نوبل للسلام تنسفه على الأقل أحداث الأيام القليلة الماضية، التي شهدت مظاهرات صاخبة في أثينا، خلال زيارة المستشارة الألمانية، فخرجوا في الزي النازي (سخرية)، وأحرقوا علم ألمانيا النازية للاحتجاج على مآل وطنهم في ظل أزمة اليورو والديون والتقشف القاتل.

وبينما قالت لجنة نوبل النروجية إن أزمة اليورو laquo;ساعدت على تسليط الضوء على دور الاتحاد التاريخيraquo;، اتجه المتهكمون في بريطانيا إلى السخرية، قائلين إنهم مندهشون، لأن الاتحاد لم يحصل على laquo;نوبل الاقتصاديةraquo;. ويذكر أن الاتحاد الأوروبي فاز بالجائزة دون 230 مرشحًا آخرين، بمن فيهم معارضون وزعماء دينيون روس يعملون من أجل تصالح المسيحيين والمسلمين.

لكن رد الفعل البريطاني كان هو النشاز في هذا الكورال السعيد. فقال اللورد لامونت - وزير الخزانة في عهد مارغريت ثاتشر: laquo;فوز الاتحاد الأوروبي بجائزة نوبل للسلام في وقت يخرج فيه اليونانيون بالزيّ النازي لاستقبال المستشارة الألمانية يحيل المسألة برمتها الى مهزلة عبثية. وكما قال أوسكار وايلد، وهو يصف موت ليتيل نيل،: laquo;يلزم للمرء قلب من حجر حتى يتفادى الوفاة من شدة الضحكraquo;.

ومضى يقول: laquo;هذا هو القرار الأكثر عبثية منذ منح الجائزة نفسها لباراك أوباما وعهده في الرئاسة لم يتجاوز دقيقتين. إن لم تجد اللجنة من تقدم إليه هذه الجائزة، فحري بها أن تحجبها... هذا أكرم لها وللجميعraquo;.