الصراع المستمر إلى أجل غير مسمّى بين إسرائيل وقطاع غزة ستكون له أثمان باهظة تدفعها الأجيال المقبلة. فالحروب التي فازت فيها إسرائيل في سنواتها الأولى، تحت تهديد الانقراض في كثير من الأحيان وبقوة التحالفات أحيان أخرى، وضعت الأساس لاتفاقات سلام، تبعتها مع مصر والأردن على وجه الخصوص.


لميس فرحات: الصراعات الأخيرة التي انخرطت فيها إسرائيل، اتسمت بالكثير من التردد وبنتائج أقل وضوحاً، سواء ضد الانتفاضة الفلسطينية الثانية أو ضد حزب الله في لبنان عام 2006، والآن مرتين خلال أربع سنوات ضد حركة حماس في غزة.

بعيداً عن وصفها محرّكاً للتسويات السلمية بين إسرائيل وجيرانها، تمثّل هذه الصراعات فشلاً ساحقاً للمخيلة السياسية. وقد سعى البعض إلى إيجاد تفسيرات لأحدث أعمال العنف هذه مع اقتراب الانتخابات الإسرائيلية، في ظل إنذار الولايات المتحدة من مهاجمة إيران أو الاقتصاص من محاولة فلسطين في الحصول على صفة دولة مراقبة في الأمم المتحدة.

الواقع هو أن اسرائيل فعلت الكثير لتقويض اتفاقات السلام في أوسلو، وليس أقله سياستها في بناء المستوطنات واستمرار الضم الفعلي (بمساعدة وتحريض المجموعات الفلسطينية المسلحة التي رفضت تجنب استخدام القتلة الانتحاريين والهجمات الصاروخية على الإسرائيليين)، وقد وجدت إسرائيل نفسها أمام مجموعة من القادة الأكثر تطرفاً من أي وقت مضى، مما يترك حكومتها مع مساحة أقل من أي وقت مضى للتفاوض مع الفلسطينيين من أجل التوصل إلى حل الدولتين.

البديل من النتائج طويلة الأمد التي يحملها حلّ إقامة دولة فلسطينية مستقلة مجاورة يحمل مخاطر عديدة لإسرائيل. ظهور دولة واحدة تضم كل الكيانات، بسبب الاتجاهات الديموغرافية بين العرب وإسرائيل على حد سواء في الأراضي الفلسطينية، مما يعتبر نقطة غالبية عربية لا مفر منها.

أما الخيار الثاني - بعد اليأس من إمكانية التوصل إلى تسوية تفاوضية وقبول الوضع الراهن ndash; فهو القبول الحتمي لاستمرار دورة العنف البطيئة.

الحقيقة هي أن quot;الوضع المحتضرquot; لعملية السلام قد أدى إلى تصعيد القتال بين إسرائيل وحركة حماس في غزة المحاصرة. ويرى العديد من المراقبين أنه من الصعب الجدال مع الرأي القائل إن السياسة الإسرائيلية تجاه غزة لا يمكن الدفاع عنها، إنما يمكن الاعتراض على العقاب الجماعي للمواطنين في واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم.

يقول الإسرائيليون إن إطلاق الصواريخ الفلسطينية من قطاع غزة، خاصة تلك التي تستهدف المدنيين، أمر لايغتفر. ويعتبرون أن عدد القتلى بين المدنيين الإسرائيليين كان منخفضاً نسبياً بسبب القيود المفروضة على الأسلحة وفعالية الدفاعات، وليس بسبب قلق حماس على الحياة الإنسانية.

لكن الدعم الذي تحظى به حركة حماس لا يمكن فهمه إلا ضمن سياق أوسع من فشل عملية السلام، فسكان غزة ليسوا أسرى لحركة حماس، كما تقول الرواية الإسرائيلية، على الرغم من أن العديد من الغزاويين يعبّرون عن استيائهم من الجماعة. كما إن القطاع ليس قاعدة الخط الأمامي لإيران، فإحجام حماس عن دعم الرئيس السوري بشار الأسد ساهم في إزالة الصبغة الإيرانية عن الحركة.

يعتبر الكثير من المراقبين أن حركة حماس المسلحة تتمتع بسجل سيء في مجال حقوق الإنسان، عندما يتعلق الأمر بسعيها إلى الإقتصاص من أعدائها، سواء داخل المجتمع الفلسطيني أو في إسرائيل، إلى جانب تكتيكاتها التي استخدمت في الماضي، لا سيما التفجيرات الانتحارية.

وعلى الرغم من أن قادتها يلمحّون إلى هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل، اكتشف جنرالات إسرائيل في كل من قطاع غزة خلال عملية الرصاص المصبوب قبل أربع سنوات، وفي جنوب لبنان بعد عام 2006، أنه حتى مع التفوق العسكري الساحق والمستوى غير المقبول من الضحايا المدنيين، فإن إسرائيل لا تستطيع أن تهزم الجماعات التي لديها جذور عميقة بين السكان.

اتسمت استجابة المجتمع الدولي تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة بالضعف والارتباك، إذ يبدو في بعض الأحيان أن عواصم الغرب حريصة كل الحرص على تشجيع مطالب الربيع العربي المركزي من أجل الحقوق الديمقراطية، وتفضل في الوقت عينه عدم دعم هذه الحقوق عندما يتعلق الأمر بحقوق الفلسطينيين ومطالبهم بالديمقراطية وحق تقرير المصير.

مع عدم وجود احتمال لانتصار عسكري في نهاية المطاف لأي من الجانبين، لا يمكن لدوامة العنف أن تنتهي إلا من خلال تسوية عن طريق التفاوض، الذي يتطلب شجاعة سياسية أكثر بكثير مما أثبتته الإدارة الإسرائيلية الحالية، والرئيس الأميركي باراك أوباما والحلفاء في الاتحاد الأوروبي.

على مر الأجيال، لم يعرف العالم ما هو مطلوب لتحقيق تسوية دائمة في المنطقة - إنشاء دولتين على نطاق واسع على أساس حدود ما قبل عام 1967 وضمان الأمن لجميع الشعوب في المنطقة ضد التوغل العسكري والهجوم الإرهابي.

ما هو مطلوب هو الإنعاش الفوري لجهود السلام لتحقيق هذا الهدف، الأمر الذي يتطلب على حد سواء ضغط جدي على إسرائيل، وكذلك تأمين الآليات المالية والسياسية لإقناع الفلسطينيين بأن السلام هو أفضل احتمال. وكان العرض الذي تقدمت به قطر للاستثمار في إنشاء البنية التحتية وتوفير فرص العمل للسجناء السابقين خطوة في هذا الاتجاه.

المسؤولية عن التقدم تقع على عاتق إسرائيل وفئاتها السياسية، التي تحتاج الإقناع بأن السلام هو أفضل من العنف، وأن هناك فرصاً كبيرة في التعاون لأنهاء الصراع الذي من شأنه أن يخلّف آثاراً كبيرة على أجيال المستقبل في مختلف أنحاء المنطقةش. في النهاية، لا يمكن لهذه الرسالة الواضحة أن تأتي إلى إسرائيل إلا عن طريق واشنطن.