فيما تستعد دول الثورات العربية كتونس ومصر وليبيا للاحتفالبعد مرور عامين على اندلاع ثوراتها، واليمن بعد عام، يبقى عدم الاستقرار هو القاسم المشترك الأبرز في هذه الدول، الذي يسيطر على أوضاعها الراهنة، سياسيًا واقتصاديًا وامنيًا وقضائيًا وإعلاميًا وحزبيًا... حتى إشعار آخر.


القاهرة: في الرابع عشر من كانون الثاني (يناير) القادم، تحتفل تونس بمرور عامين على ثورة الياسمين، وتليها مصر في الاحتفال بالعيد الثاني لثورتها في الثاني عشر من شباط (فبراير)، ذكرى إعلان الرئيس السابق حسني مبارك تنحيه وانتصار الثورة، وبعدهما ليبيا التي يحتفل شعبها في السابع عشر من شباط (فبراير) بذكرى مرور عامين على الإطاحة بالعقيد معمر القذافي. أما اليمن فتحتفل بالعيد الأول لثورتها في الثامن والعشرين من شباط (فبراير) بعد توصل مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية والأمم المتحدة إلى تنفيذ المبادرة الخليجية، وتسليم الرئيس السابق علي عبدالله صالح السلطة إلى نائبه منصور هادي.
يتساءل المواطنون في هذه الدول عن سبب إخفاق ثوراتهم حتى الآن في تأمين الاستقرار، أفما زال المخاض مستمرًا؟ أم هي النكسة الناتجة من خلاف القوى السياسية على اقتسام غنائم الثورات؟ وهل أوصلت هذه الثورات رجالًا بلا خبرة في إدارة الدولة وتحديد خطه الوسطي بين الأطراف المتنازعة؟
ثمة من يرد النكسة هذه إلى مبدأ المغالبة، الذي استحدثه الإخوان المسلمون في مصر بدلًا لمشاركة كل أبناء الوطن، على الرغم من أن مصر زاخرة بالعقول والكفاءات الوطنية المخلصة في كافة المجالات. وآخرون يقولون إنها نزعة الاستحواذ على السلطة من دون خبرة سياسية أو ممارسة فعلية، أوصلت دول الربيع العربي إلى ما هي فيه اليوم من تشرذم.
في التحقيق الآتي، تستطلع quot;إيلافquot; آراء خبراء السياسة والإستراتيجيا، في قراءة لمعطيات المشهد الراهن في دول الربيع العربي، وتحديد سبل الخروج من المأزق.

الولادة لم تحصل بعد

quot;من السابق لأوانه الحكم على ثورات الدول العربية، لأن نتائجها لم تظهر بعد، كما لم تتضح ملامحها أيضًا لأنها في مرحلة مخاض تسبق الولادة، فالثورة لم تولد بعد، لكنها ما زالت في صراع متعدد الأبعاد وأيضًا متعدد المستوياتquot;. هذا ما قاله الدكتور محمد إبراهيم منصور، مدير مركز الدراسات المستقبلية في جامعة أسيوط.
أضاف: quot;الصراع مستمر بين النظامين القديم والجديد، فالنظام القديم لم تستأصل جذوره تمامًا، فضلًا عن الصراع بين القوى الوطنية المختلفة حول اقتسام غنيمة الثورة، ولا سيما أن قوى معينة أغرتها كثرتها فأرادت خطف الثورة، والاستحواذ على المكاسب السياسية والاقتصادية التي حققتهاquot;.
ومنصور يماثل بين ثورتي مصر وتونس، إذ قامتا بفعل غليان شعبي ضد نظامين فاسدين ومشكوك في صدق توجهاتهما الوطنية، وكان للإرادة الشعبية دور كبير في تحقيق الثورة اليمنية ضد النظام السابق. لكن منصور ينبه إلى أن التدخل الأجنبي في الحالة الليبية لعب دورًا مهمًا في إحداث التغيير، قبل أن تنضج الظروف الداخلية لذلك.
ويرى منصور تغييرًا كبيرًا في مسيرة الثورة الليبية، quot;ربما يفوق ما يحدث في مصر وتونس، في غياب مؤسسات سياسية وأحزاب ليبية، وفي ظل تدخل دولي متربص بالثروة النفطية الليبية الهائلة التي يحرص الغرب على الاستئثار بهاquot;.

خبرة قليلة أخطاء كثيرة

يلفت منصور إلى أن ليبيا شكلت فرصة كبيرة ليجرب حلف الناتو فاعلية التدخل المباشر لتغيير الأنظمة، لكنه لم يستطع القيام بذلك في اليمن أو في سوريا.
يقول: quot;في اليمن، حدث صدام بين الجماهير والنظام السياسي، ولولا التسوية السياسية السعودية التي صنعت وفاقًا سياسيًا لتمر البلاد في مرحلة انتقالية بأقل خسائر ممكنة، لكان الوضع أسوأ الآن، لأن الثورة لم تكتمل بعد، وأسبابها الموضوعية ما زالت كما هي، فالتفاوت كبير في توزيع السلطة والثروة، والحريات غائبة، والعدالة الاجتماعية منقوصة، والتيار الإسلامي في اليمن يحاول أن يستحوذ على مساحة أوسع في حيز القرار السياسي، كما حدث في مصر وتونس وليبياquot;.
ويخلص منصور إلى أن النظم السياسية الجديدة في هذه الدول يديرها تيار سياسي قليل التجربة والخبرة، لذلك تقترف أخطاءً فادحة، quot;فهذا التيار السياسي لا يريد الاعتراف بحق القوى الأخرى التي شاركته صنع الثورة في المشاركة مستخدمًا منطق المغالبة وليس المشاركة، فبينما استطاعت تونس أن تبني مؤسساتها التشريعية وقامت بتوزيع كعكة الثورة على ثلاثة أطراف وهي رئاسة الجمهورية، والبرلمان والحكومة بطريقة التراضي والتوافق بين القوى السياسية بحيث خرج الجميع في حالة وفاق جنّبت تونس الصدام، نشب الصراع بين الاخوان وكل الأطراف الأخرى في مصرquot;.

السلطة مشاركة

للخروج من نفق الإخفاق إلى التنمية والبناء، شدد منصور على ضرورة قيام تيار الإسلام السياسي، الذي نجح في دخول السلطة في هذه الدول، بإفساح المجال للشركاء الحقيقيين الذين صنعوا الثورة لمشاركته الحكم، quot;وأن يعترف بدورهم في إحداث التغيير الكبير وأن يتخلى عن منطق المغالبةquot;.
ويطالب منصور هذا التيار بالاعتراف صراحة بأن الإنجازات العظيمة التي تنتجها الثورات لا يصنعها فصيل سياسي واحد، وأعباء الحكم لا يستطيع أن يحملها فصيل واحد.

المخاض سنوات

من جانبه، لا يقلق الخبير الإستراتيجي اللواء محمد نبيل فؤاد مما يحدث، quot;فلو عدنا إلى تاريخ الثورات الإنسانية، نراها تمرّ بمرحلة مخاض يمتد لسنوات عدة، ودول الثورات العربية كانت محكومة بنظم ديكتاتورية وسلطوية لفترات طويلة، وبالتالي مرت بمراحل طويلة من الكبت الشديد الذي ولّد الانفجارquot;.
أضاف: quot;الفارق بين هذه الدول المكبوتة وبين تطلعات شعوبها العالية كبير، فضلًا عن قلة إدراك شعوب دول الربيع العربي أن هذا الوضع نتاج سنوات طويلة، هي ثلاثون عامًا في مصر وأربعون في ليبيا، وبالتالي لا يمكن التغلب على نتائجها بسرعة، وإحداث تغيير سريع، لأن ما بني خلال ثلاثين عاماً لا يمكن محوه في شهرquot;.
بالنسبة إلى مصر، يقول فؤاد إن الرئيس لم يستكمل ستة أشهر، ورئيس الوزراء بدأ نشاطه منذ أربعة أشهر تقريبًا، quot;ومن غير المنطقي التغلب على تعقيدات وسلبيات وفساد ونهب حصل خلال ثلاثين عامًا في أشهر، فهذا يحتاج وقتًاquot;.

الاستعانة بالكفاءات

يوافق فؤاد رأي من دعا مرسي إلى إسناد مهمة تأليف أول حكوماته لأحد الكفاءات الوطنية ذات الخبرة الاقتصادية، مع إشراك عناصر من التكنوقراط، لكي يتعافى الاقتصاد المصري ويعبر بالبلد من المرحلة الانتقالية إلى مرحلة الاستقرار.
يقول: quot;المشكلة التي واجهت مرسي عند تشكيل الحكومة حينها هي اعتذار الجميع، لأن البعض كان يعلم إنها فترة انتقالية وحكومة موقتة، فرفضوا المشاركة حتى لا يحترقواquot;.
ويرى فؤاد أن الدكتور كمال الجنزوري قامة اقتصادية عالية ، كان من المفيد الاستعانة به في هذه الفترة المليئة بالتعقيدات، لكن الإخوان اصطدموا بالجنزوري إبان الحكم العسكري، وكان من الصعب أن يتعاونوا معه مرة أخرى عندما تولوا السلطة.
يضيف: quot;إذا كانت جبهة الإنقاذ في مصر تقوم بما تقوم به من اجل مصر، وإذا كان مرسي والإخوان يعملون من اجل مصر، فعليهم جميعًا الجلوس على طاولة المفاوضات، لأن التاريخ علمنا أن الحروب كلها تنتهي بالمفاوضات، والحري باطراف الصراع السياسي أن يتمتعوا بشيء من المرونة العلمية، ليخرجوا من المفاوضات وقد كسبوا منها شيئًاquot;.

لا للدكتاتورية

هذه المرونة العلمية في المفاوضات مثمرة شريطة أن يستبعد الجانبان المتنازعان المعادلة الصفرية، بحسب فؤاد، quot;أي أن يكسب طرف كل شيء ويخسر الطرف الآخر كل شيء، فالجلوس إلى طاولة المفاوضات يتطلب أن لا يفرض طرف من الأطراف شروطه المسبقة، كما اشترطت جبهة الإنقاذquot;.
كما حذر فؤاد من بعض الأقلام التي تدعو في بعض الصحف إلى الأخذ باتجاه ديكتاتورية جديدة، لافتًا إلى أنه نشر في إحدى الصحف مقالة لأحد الكتّاب quot;دعا فيها جبهة الإنقاذ في مصر ألا تدفع بالحكم إلى دكتاتورية جديدة، أو كما أطلق عليها الدكتاتورية العادلة، أو دكتاتورية لمدة قصيرة، فلا نريد أن نتجه في هذه الاتجاهاتquot;.

فوضى خلاقة

أما الخبير الإستراتيجي اللواء علي حفظي فردّ حالة عدم الاستقرار في دول الربيع العربي، وإخفاق النظم السياسية الجديدة في دول الثورات العربية، quot;إلى قوى خارجية تريد استمرار حالة من الاضطرابات والتوترات والصراعات في المنطقة العربية وداخل حدود معينة، يضعون لها الأطر بما يحقق مصالحهم، وبالتالي تريد أميركا وإسرائيل خلق فوضى خلاقة، وهيالفوضى التي تخلق لهما الموقف الذي يساهم في تحقيق أهدافهما ومصالحهما والمقصود بها فوضى في المنطقة، حتى تنعم إسرائيل بالطمأنينة من خلال تجزئة المنطقة العربية إلى دويلات، ولأنهما لا تريدان كيانات قوية ومؤثرة مثل اليمن والصومال والسودان والعراق وسوريا، بحيث لا تكون هناك كيانات قوية ومؤثرة بل هشة يتنازعها صراع سياسي داخليquot;.
وتابع قائلًا: quot;في العلاقات الدولية منظومة يطلقون عليها اسم إدارة المصالح، من خلال ما يسمى بمنظومة إدارة الازمات، بمعنى تصدير الأزمات إلى هذه الدول العربية المؤثرة، أزمات اقتصادية أو حدودية او عقائدية أو إعلامية تضع هذه الدول تحت الضغط لكي توجه جهودها للخروج من الأزمات بأقل الخسائرquot;.

تائيات مصرية

يجمل حفظي مستقبل الصراع السياسي في مصر بثلاث كلمات تائية، هي تنافر وتوافق وتفتيت. يقول: quot;نجحت القوى الخارجية في أن تجعل المجتمع المصري يعيش حالة تنافر مجتمعي، والمطلوب تحويل هذه الحالة إلى توافق مجتمعي لنجتاز المرحلة اللانتقالية، وإلا سنصل إلى مرحلة الصراع الذي ينتج الفوضى ويهدم كيان الدولة، فندخل مرحلة التفتيتquot;.
يضيف: quot;منذ بداية ثورة 25 يناير ومصر تعبر حقل ألغام، فلا بد من فني مختص في نزع الألغام، لأن فترة العبور تحتاج إلى كل الخبرات الوطنية المخلصة في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية، وبعد عملية العبور من هذه المرحلة يمكن الاستعانة بالجيل الجديد من القيادات الشابة الى جانب الخبرةquot;.
ويحذر حفظي من مغبة تجاوز ثلاثة خطوط حمراء، quot;هي الفتنة الطائفية بكل أشكالها، وإدخال الجيش طرفًا في الصراع مع الشعب، والوصول إلى مرحلة الانهيار الاقتصاديquot;.