الاشتباكات وصلت إلى العاصمة دمشق

فوضى الحرب أمرٌ جديدٌ على الدمشقيين، لم يشهدوها منذ نحو نصف قرن. يحاولون التعايش معها قدر الإمكان، غير أن المعارك المستمرة في التوسّع ترسم صورة قاتمة لهذه العاصمة، بالبطالة التي استشرت والنزوح السكاني والخشية من مستقبل لا يبدو مزهراً.


دمشق: لم يباغت دوي ثلاثة انفجارات قريبة أصحاب متاجر في حي العفيف وسط دمشق، ومن دون أن يرف لهم جفن واصلوا حديثهم امام محالهم معبرين عن استمتاعهم بنضارة الطقس في هذه الليلة.
وعلى الطريق السريع في جنوب العاصمة، يعبر الآلاف من سائقي السيارات وهم يتجاهلون ثلاث دبابات تصوب مدافعها باتجاه حي نهر عيشة الشعبي الذي تحمل منازله وطرقاته ندبات معركة شرسة. وفي ضاحية جرمانا في جنوب شرق دمشق التي تقطنها غالبية درزية ومسيحية، ينصب عدد من الشبان المسلحين ببنادق الكلاشينكوف والمنتمين الى quot;اللجان الشعبيةquot; الحواجز الثابتة والمتنقلة ويتحققون من هويات المارة ويفتشون السيارات، في إجراءات لم تمنع انفجار سيارة مفخخة خلال جنازة.
واستقرّ النزاع في دمشق منذ تموز/يوليو وبعدما بقيت العاصمة بمنأى عن العنف لوقت طويل، وقد حاول المقاتلون المناهضون للنظام السيطرة عليها قبل أن يقوم الجيش بصدهم دون أن يتمكن من القضاء عليهم كليًا بسبب الحدود المتداخلة والمتشابكة بين المدينة وضواحيها، معقل الكثير من المنشقين.
وتدفع المعارك والنزوح السكاني والدمار والبطالة والتضخم أهالي دمشق الى الكآبة حيث إنه لم يسبق لهم أن رأوا مدينتهم تغرق بالفوضى. احمد، الموظف في مطبعة، والذي يسكن حي برزة الدمشقي، يتصل بزوجته كل مساء لمعرفة الطريق الواجب اتخاذه للعودة الى المنزل تفاديًا للمرور في منطقة اشتباكات، الا أنه غالبًا ما يتوقف رغم ذلك عند حاجز يديره مسلحون يرتدون زيًا عسكريًا لا يحسم إن كانوا من المنشقين أم من العناصر الموالية.
ويقول لوكالة فرانس برس quot;هم متوترون جدًا ويمكنهم قتلك بسبب أي إجابة خاطئة أو لمجرد أن شكلك لم يعجبهمquot;، مشيرًا الى أن هؤلاء المسلحين سبق أن قتلوا شابًا يبلغ من العمر 24 عامًا quot;دون أن نعرف لماذاquot;.
ويضيف احمد الاب لولدين: quot;يجب أن تكون لطيفًا معهم عندما يعيدون اليك اوراقك وتقول لهم quot;الله يعطيكم العافيةquot;، رغم أن ذلك هو آخر شيء أتمناه لان الله لو أمدّهم بالقوة فسيصرفونها في ساحة الاقتتال بالقرب من منزلي ولن أتمكن عندها من النومquot;.
من جهته، يوضح ميشال الذي يعمل في أحد المطاعم: quot;اقول لنفسي كل يوم عند مغادرتي المنزل صباحًا انني اذا عدت مساء فسيكون هذا يوم انتصرت فيه على الموتquot;، مضيفًا quot;في هذه الايام، حياتنا لا تساوي اكثر من ثلاثين ليرة (0,5 دولار)، أي ما يعادل ثمن طلقة كلاشنيكوفquot;.
ويعتقد هذا الشاب المسيحي الثلاثيني الذي ظن أن الرئيس السوري بشار الاسد سيسحق الانتفاضة المسلحة بسرعة، أنه من المهم ايجاد حل يتم التفاوض عليه. ويشير الى أنه quot;عندما أقول للموالين أو للمعارضين بأنني لست مع هذا الطرف أو مع ذاك، فإن كلاً منهما لا يستمع الا الى الجزء الاول من كلامي معتقدًا بأنني عدوهquot;.
شهدت دمشق عدة انفجارات
ويؤكد ميشال وهو أب لطفل في عامه الاول: quot;يجب على الافرقاء الجلوس على طاولة والتحدث دون شروط، وإلا فإن سفك الدماء سيستمرquot;، مشددًا على أنه سيغادر البلاد إن لم يتم ايجاد حل للنزاع قبل فصل الخريف المقبل.
وبدأت الحركة الاحتجاجية المطالبة بإسقاط نظام بشار الاسد بشكل سلمي قبل اكثر من 17 شهراً، الا أنها تعسكرت تدريجيًا في مواجهة قمع السلطات، حتى تحولت الى معارضة مسلحة.
وقتل منذ بداية النزاع في منتصف اذار/مارس 2011 اكثر من 25 الف شخص وفقًا لأرقام المرصد السوري لحقوق الانسان. ويؤكد محمد (52 عامًا) وهو مدير مصنع في ضاحية جنوب شرق دمشق أنه لم يعد بإمكانه الذهاب بانتظام الى عمله بسبب إغلاق الطرق.
ويقول محمد السني المؤيد للمعارضة quot;لطالما كنت مناهضًا للنظام، الا أن استمرار الحرب انتحار جماعيquot;. وفي حي السنينية الواقع في مدينة دمشق القديمة، حتى نحاتو شاهدات القبور يشعرون بالضيق.
ويقول طارق ساميني (45 عاماً) وهو ينحت كلمة quot;شهيدquot; على شاهدة أحد الجنود الذين قتلوا في حمص (وسط) quot;لا احد لديه القدرة على التفكير في شراء واحدة. فمع سقوط المزيد من القتلى كل يوم، لا يبحث الناس سوى عن حفرة متبقية في مقبرةquot;.
وفي منزله الواقع في حي ابو رمانة الراقي وسط دمشق، يرى دبلوماسي سوري متقاعد أن اعدادًا كبيرة من القتلى ستسقط قبل أن يلقي طرفا النزاع السلاح. ويقرأ من وحي الحديث بيتًا من قصيدة quot;حالة حصارquot; للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش quot;اناquot; أو quot;هوquot;. هكذا تبدأ الحرب. لكنها تنتهي بلقاء حرج quot;انا وهوquot;.