أدت شبكة الجدران والأسلاك الشائكة التي أقامتها السلطات المصرية لحماية بعض المؤسسات والمنشآت السيادية إلى تحويل وسط القاهرة الى ما هو أشبه بالحامية العسكرية.


يجلس رمضان رومية صاحب مقهى انترنت اسمه وايت هاوس نت، ليس بعيدا عن السفارة الاميركية في القاهرة، على كرسي وضعه على الرصيف خارج مقهاه يدخن الشيشة. ويقول رومية إن مقهاه لم يستقبل الكثير من الزبائن مؤخرًا بسبب الجدار العالي من الخرسانة الذي يقطع الشارع المؤدي الى المكان.

وكانت الحكومة المصرية أقامت هذا الحاجز في تشرين الثاني/نوفمبر لمنع متظاهري ميدان التحرير من الوصول الى مبنى السفارة الأميركية.

ويأتي رومية (41 عامًا) إلى وسط المدينة من حي عمالي قرب الأهرام. ويعتمد مقهاه عادة على حركة السابلة من المناطق التجارية المزدحمة حول ميدان التحرير، ولكن بسبب شبكة الجدران وحواجز الأسلاك الشائكة التي أقامتها السلطات فإن المنطقة القريبة من السفارة عُزلت عن وسط المدينة.

وقال رومية إن تجارته quot;صفرquot; الآن بسبب هذه الإجراءات. وفي الساعات الأخيرة بعد ظهر اليوم الذي تحدث فيه رومية كان دخله لا يزيد على 20 جنيهًا مصريًا أو ما يربو قليلا على 3 دولارات. وقال رومية مؤشرا بخرطوم شيشته نحو الجدار الأصم quot;يجب حفر أنفاق كما يفعلون في غزةquot; للوصول الى مقهاه.

وأكد رومية لمجلة تايم أن اثنتين من واجهات المتاجر المجاورة لمقهى وايت هاوس نت تحطمتا خلال الاشتباكات الأخيرة بين المتظاهرين وقوات الشرطة. وما زال الهيكل المحترق لسيارة مقلوبة في الطريق أمام مقهاه. وعبر الشارع كان أشخاص بملابس رجال الأعمال يتسلقون سياجًا عاليًا من الحديد للوصول الى بيوتهم مناولين الحقائب من واحد الى آخر فوق الحاجز فيما كان حراس مسلحون يتمركزون عند نقطة تفتيش مؤدية إلى السفارة يتفرجون عليهم.

وبسبب جدران الحكومة وحواجزها، فان مشاهد كهذه هي الوضع الاعتيادي الجديد في حي غاردن سيتي الراقي وغيره من المناطق الواقعة جنوبي ميدان التحرير، مركز انتفاضة شتاء 2011 التي أنهت 30 عاما من دكتاتورية حسني مبارك. وذات يوم بعد ساعة الظهر في المفترق نفسه قرب السفارة الاميركية ناولت شابة حقيبة زهرية اللون فيها قطة بيضاء لطيفة إلى رجل ربما كان زوجها أو خطيبها قبل أن تقفز هي فوق السياج. ثم مشى الاثنان متأبطين ذراع احدهما الآخر والقطة وراءهما باتجاه ميدان التحرير.

ومع اقتراب ذكرى اندلاع الانتفاضة والمواجهات التي فجرها قرار الرئيس محمد مرسي تركيز السلطات بيده وتحصينها ضد الطعن القضائي في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، أصبحت الجدران الخرسانية رمز الأزمة السياسية في مصر. ونقلت مجلة تايم عن المهندس المعماري المختص بتخطيط المدن عمر نجاتي قوله إن الجدران تشير إلى مراجعة حدثت بعد الثورة quot;لقواعد اللعبة بين الشعب والسلطات حيث الشعب يحدد الشروط والسلطات ترد ببناء الجدرانquot;.

وكانت الاحتجاجات العارمة خلال الثورة شلت بصورة موقتة جهاز الشرطة الضخم الذي أنشأه مبارك لكنه لم يختف تمامًا. ولا اختفت المظالم التي سبقت الثورة من فقر ووحشية الشرطة وانعدام الديمقراطية في المؤسسات المدنية.

ولكن ما تغير هو موقف المصريين من السلطة. ولم تعد الحكومة تمنع الاحتجاجات، حتى العنيفة منها، بل تلجأ بدلا من ذلك الى فصل المحتجين المعتصمين بصورة دائمة الآن في ميدان التحرير عن المباني الرسمية والسفارات.

ويقول محمد الشاهد المرشح لنيل الدكتوراه من جامعة نيويورك ويدرس تخطيط المدن في القاهرة quot;ان الجدران تهرب تام من معالجة القضاياquot;. وأضاف أنه في عهد مبارك quot;كان هناك جهاز أمني أقوى يهدئ الأمور قبل أن تتحول إلى احتجاج وبما أن الاحتجاجات الآن مسألة حياة يومية، تحدث تلقائيا، فان الجدران تبدو هي الحل في الوقت الحاضرquot;.

وليس هناك ما هو جديد في استخدام الحكومات مثل هذه التكتيكات التعويقية لاحتواء حركات الاحتجاج والانتفاضات. وكما يشير الشاهد فان السلطات الفرنسية أقامت حواجز من الجدران المماثلة في الجزائر لخنق الحركة المعادية للاستعمار إبان الخمسينات.

وان جدار اسرائيل العازل يخترق الضفة الغربية بطولها شاطرا القدس الشرقية وبيت لحم وغيرهما من المدن. وعمدت قوات الجيش الأميركي إلى تقسيم بغداد بحواجز وجدران خرسانية. ويتذكر محمد الشاهد أن حكومة مصر بدأت تستخدم الجدران الخرسانية والحواجز المعدنية لحماية المباني الحكومية من غضب الجماهير في أواخر السبعينات، لأسباب منها اصلاحات أنور السادات الاقتصادية المقيتة.

وأجّجت انتفاضة 2011 جذوة الصراع على الفضاء العام في مصر من جديد. إذ بدأت قوات الجيش والأمن تبني الجدران المؤلفة من كتل خرسانية كبيرة تقوُّيها أشرطة معدنية على الشوارع المؤدية إلى وزارة الداخلية ومقر مباحث أمن الدولة بعد خمسة ايام من المواجهات في تشرين الثاني/نوفمبر 2011. وزال بعض هذه الجدران خلال الشهر التالي، منها ما فككته الحكومة بقرار أحادي ومنها ما أسقطه المتظاهرون مستخدمين الحبال.

ولكن لم يمرّ وقت طويل حتى دفعت الجولات الجديدة من الاحتجاج سلطات العاصمة المصرية الى اقامة جدران جديدة بينها جدار قرب السفارة الأميركية أُقيم خلال تظاهرات الاحتجاج على فيلم quot;براءة المسلمينquot; المسيء للمسلمين ونبيهم في 11 ايلول/سبتمبر العام الماضي. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2012 اصدر الرئيس مرسي الخارج من معطف الاخوان المسلمين قرارات تمنحه سلطات مطلقة فجاء الرد عليها تظاهرات كانت من أكبر ما شهدته مصر منذ الانتفاضة على حكم مبارك.

وفي غمرة المواجهات بين قوات الشرطة والمحتجين المسلحين بالحجارة عادت القوى المناوئة للحكومة إلى الاعتصام في ميدان التحرير وأعادت قوى الأمن بناء الجدار على شارع قصر العيني المؤدي جنوبا من وسط المدينة. واكتمل بذلك الفصل بين مخيم الثوار في ميدان التحرير وما يمكن اعتباره quot;منطقة خضراءquot; أُنشئت حول المباني الحكومية.

وفي اطار الجغرافية المتغيرة لحركة الاحتجاج نقل المتظاهرون المناوئون لحكم الإخوان المسلمين مركز تحشدهم من ميدان التحرير الى القصر الرئاسي الذي ورثه مرسي من مبارك في حي هليوبوليس. وردت الحكومة ببناء جدار آخر خارج القصر، يسد طريقا ذا اربعة ممرات وشبكة من خطوط السكة الحديد مع إبقاء فتحة ضيقة للسيارات.

وكانت النتيجة التراكمية لهذه الحركة الانشائية تشويه قسم من المشهد الحضري لمدينة القاهرة. وأُعيد توجيه حركة المرور المزدحمة على نحو سيئ الصيت في القاهرة لتفادي الاقتراب من ميدان التحرير لتفاقم بذلك زحمة السير.

وفي أزمنة اهدأ كان قطع المسافة مشيا من حي غاردن سيتي حيث توجد السفارتان الأميركية والبريطانية وسفارات أخرى، إلى ميدان التحرير يستغرق خمس دقائق على شارع قصر العيني. والآن تستغرق الرحلة نفسها ما يحتاجه المرء لقطع 1600 متر من عمليات الالتفاف حول الجدران الخرسانية وحواجز الأسلاك الشائكة والعربات المدرعة والسيارات المحترقة.

وعلى نقيض صارخ مع باقي وسط القاهرة الذي ما زال يضج بالحياة حتى ساعة متأخرة من الليل فان الشوارع القريبة من مبنى وزارة الداخلية والبرلمان تقفر مع غروب الشمس باستثناء افراد قوى الأمن المركزي ببدلاتهم السوداء ونظراتهم التي تنم عن الضجر والسأم وخوذهم ودروعهم وهراواتهم المكدسة وسط الشارع. وعلى حد تعبير محمد الشاهد طالب الدكتوراه فان المنطقة تبدو أقرب الى الحامية العسكرية منها إلى وسط القاهرة.

ولكن رغم كل ما توحي به هذه الجدران والأزمة السياسية التي تمثلها من ديمومة فانها لا يمكن ان تبقى أجلا غير مسمى. وهز المهندس احمد بهجت (24 عاما) كتفه اثناء انتظار دوره للقفز فوق السياج القريب من السفارة الاميركية قائلا quot;من المؤكد ان الجدران أفضل من المشاكلquot; في اشارة ملطفة الى اقتحام السفارة في وقت سابق. وأضاف quot;لكنها لا يمكن أن تبقى إلى الأبدquot;.

وكان المحامي خالد زينهم الذي توقف عند جدار قصر العيني في طريقه إلى البيت من القنصلية السعودية التي راجعها للحصول على تأشيرة، أبلغ تعبيرًا حين قال لمجلة تايم quot;ان الحواجز لا تزعجنا فان مصر كلها مليئة بالأبوابquot;.

عبد الاله مجيد