إلى ذكرى هشام شرابي وإلى نُبل صديقه الوفيّ: خالد النجار

الجزء الأول
[ولمّا اقتربَ فرأى المدينة بكى عليها وقال: laquo;ليتك عرفتِ أنتِ أيضاً في هذا اليوم طريق السلام! ولكنّه حُجب عن عينيك. فسوف تأتيك أيّام يلفّكِ أعداؤكِ بالمتاريس ويحاصرونكِ ويضيّقون عليكِ الخناق من كلّ جهة، ويدمّرونكِ وأبناءَكِ فيكِ، ولا يتركون فيكِ حجراً على حجر، لأنّكِ لم تعرفي وقتَ افتقاد الله لك.] (لوقا ١٩، ٤1- ٤٤)


في الطريق إلى القدس
لم أرها منذ ربع قرن. آخر زيارة كانت في صيف 84، لنشر قصائد عند علي الخليلي، في مجلة الفجر الأدبي. كان مقر المجلة قريباً من quot;باب دمشقquot;، أو quot;باب العامودquot; حالياً. نزلت من عند عليّ، وتجوّلت طويلاً في شارع صلاح الدين، مارّاً على مكتباته النادرة للتزوّد بالكتب. أذكر من تلك الزيارة، ابتياعي لعدد محترم من المجلات القديمة من كشك quot;دعناquot; الشهير، هناك قريباً من أشهر أبواب المدينة. وأذكر أيضاً زيارتي لكنيسة القيامة وباحة المسجد الأقصى بقبته الذهبية الجهيرة.
والآن جاء الوقت لزيارة القدس، ولكن لسببٍ جد مختلف: فأخي مريض بالسرطان، وحصل على تحويلة للعلاج في مشفى سان جوزيف في الشيخ جرّاح، ولا بد له من مرافق، تشترط إسرائيل، quot;لدواع أمنيةquot;، أن يكون فوق سن الخامسة والأربعين.
حقبنا أمتعتنا البسيطة، حريصين على التصاريح اللازمة والتقرير الطبي، وتوجّهنا صباحاً إلى معبر quot;إيرزquot;. قطعنا الطريق من خان يونس إلى المعبر في حوالي الساعة، ثم وقفنا هناك ننتظر تخليص الإجراءات على حاجز أمن بدائي يديره ملتحون من شرطة حماس. سجّلوا أسماءنا وأرقام هوياتنا والهدف من دخول إسرائيل، ثم جلسنا تحت عريشة مرتجلة بالقرب من الأرض الحرام التي تفصل غزة عن حدود إسرائيل.
لم يطُل انتظارنا. في التاسعة تقريباً، سُمح لنا بالتحرّك، فمشينا على الأقدام، مسافة سبعمائة متر أو يزيد، قبل وصولنا للمعبر. كل شيء من حولنا يدلّ على تلكم الحرب الرهيبة: كل شيء مدمَّر. ركام بيوت عربية قريبة، وأما الطبيعة، فمحلوقة على الصفر أو صلعاء تماماً. لا شجر ولا بشر ولا حتى عصافير في بقعة الأرض التي كانت كالجنة.
وأنا أغذّ السير مراقَباً من كاميرات الأبراج التي تمسح المكان على مدار الدقيقة والثانية، داهمني الإحساس بأنني quot;أسير حربquot; يمشي كما يمشي الأسير. المهم: دخلنا إلى أول المعبر ومررنا عن حواجز باطون عملاقة وقبيحة، قبل دخولنا في ممرّات مسيّجة بأسلاك شائكة ومبلطة بالأسمنت، ومن هناك لففنا إلى ممرّ آخر، أشبه ما يكون بممرّات السجن.
واجهنا بعض الحمّالين الغزاويين العاملين في المكان. حملوا عنا متاعنا القليل مقابل عشرة شواكل، ثم انتظرنا مع المنتظرين (وكلهم من المرضى)، قبل أن يُفتح باب حديدي ثقيل، فنعبر. كان أحد الحمّالين يتكلم مع موظفة أمن يهودية من quot;مخشيرquot; مصنوع خصيصاً كجزء من الباب إياه. وهو الأمر الذي تكرّر كثيراً، فيما بعد، حتى انتبهت إلى أنّ العاملين العرب هاهنا، لا يحتكّون مباشرة بالعاملين اليهود، بل يُكتفى بالكلام من وراء حجب إسمنتية أو زجاجية أو حديدية، عن طريق المخشيرات المبثوثة في كل ركن من الأركان.
أخيراً دخلنا إلى رواق محاط بالأسلاك الشائكة مستطيل بجدران عالية، بغية تفتيش أمتعتنا. وأمرنا العمال الغزيّون بفتح الشنط، والتخلص من quot;الدُّقَّة والزعترquot; بالخصوص، لأن دخولهما إلى أراضي إسرائيل ممنوع.
_ ليش؟ سألت العامل مندهشاً.
_ لأنها مطحونة، وأي شيء له شكل quot;المسحوقquot; يُحرّم دخوله.
أخرج أخي نصف كيلو من الزعتر، ورماه في سلة المهملات آسِفاً.
_ هل أٌلقي أيضاً بالخيار والبندورة؟
_ لا، هذان مسموحان!

تجمعنا حوالي العشرين مريضاً ومرافقاً، وبدأنا ندخل من باب ضيق إلى عنابر مجهولة، هي بالفعل أشبه ما تكون بأقسام العزل في سجونهم.
لم يبارحني ذلك الإحساس اللعين، وكأننا وقعنا في مصيدة!
أية إجراءات أمن مبالغ فيها؟ تمشي حسب السهم وإن تلكأت قليلاً، يأتيك الصوت، ولا تعرف من أين بالضبط، ليستعجلك! إنه صوت خارج من فتحات في الجدران، وغالباً ما يكون لأنثى!
على حاجز ثان، كان معنا رجل كهل مقعد على كرسيّه المتحرّك، مصاب بالقلب، لا يستطيع الوقوف والمشي، فأمرنا صوتُ المجندة بمحاولة إيقافه، ورفع يديه كي تراه. فعلنا وساعدنا الرجل المريض بشق الأنفس، إلى أن جاءت رحمتها واكتفت بنصف وقفة، فسُمح له بالمرور على الكرسي المتحرك جالساً لا واقفاً كما يقتضي أمنهم.
بدأت عصبيّتي، ولاحظ أخي فحذّرني من أية كلمة زائدة ستكون عواقبها ببساطة، منعنا من الوصول لغايتنا ورجوعنا على أعقابنا.
_ لا تخف، فلكل مقام مقال.
_ دير بالك، مش ناقصين!
دخلنا من غرفة زجاجية إلى غرفة زجاجية ثانية فثالثة فرابعة، ولا بد من الوقوف في كل غرفة ورفع الأيدي عالياً، بعد أن نكون نزعنا كل ما له علاقة بالمعدن من متعلّقاتنا الشخصية لئلا تزنّ الماكنة، فيبدأ التفتيش من الأول.
وقفت في آخر غرفة، حيث جهاز المسح الإشعاعي، وجاءتني الأوامر المجهولة برفع اليدين عن آخرهما. احترت من أين يأتي الصوت، ثم بلفتة لا إرادية، رأيتهم هناك: في الواجهة المقابلة، في الطابق الأعلى، يأمرونني من وراء نوافذ مغلقة ومواربة. كانوا ستة، خمسة موظفي إدارة وأمن، من جنود ومجندات إشكناز وفلاشا، وسادسهم رجل أمن شاب، له سحنة وجسم قبضاي: يحمل بندقيته السوداء الكبيرة، ويُسلّطها علينا، هنا، تحت، في هذه الغرف الصغيرة الإلكترونية الفتح والغلق.
_ ماذا في جيب قميصك العليا؟
_ الهوية وشواكل ورقية من فئة المئة.
_ أخرجهم؟
_ طيب. ورآهم من عليائه، فسمح لي بالخروج من الغرفة والجلوس على كرسي في انتظار تفتيش الأمتعة للمرة الثالثة والأخيرة.
تجمعنا مرة أخرى، وذهبت أمتعتنا فوضعت في طشوت بلاستيكية خضراء كبيرة الحجم، ومرّت على السير الكهربائي، لتقف أخيراً فوق طاولات، تقوم عليها مجندات للتفتيش والتدقيق.
عبرنا هذه المرحلة، وجلسنا من جديد في انتظار الإجراء التالي..

طال انتظارنا هذه المرة، وشعرت برغبة ماسة في التدخين، لكن ملصقاتهم الكثيرة المتوزعة على كل حائط زجاج من حولي، قمعتني. طلبتُ شيروتيم، فجاء عامل غزاوي ودلّني على التواليت. خرجت منه، بعدما شربت الكثير من الماء، وهناك في الفسحة الفضاء، وجدت منفضة تدخين كبيرة، فأشعلت سيجارة ودخنتها بنهم.

المعبر هنا، ليس كما عهدته قبل ثمانية عشر عاماً (آخر مرة اجتزته فيها، كانت أيام العمل في إسرائيل). بل هو معبر دولي بين دولتيْن عدوتين. معبر عملاق مجهّز بأحدث الأجهزة، قيل لي أنه تم إنشاؤه عام 2006، ليكون نقطة عبور دولية تفصل غزة عن إسرائيل إلى الأبد!

بعد ساعات، جاءت الموظفة المختصة بأهل غزة وباشرت عملها من وراء مقصورة زجاجية. تقف أمامها، في الباحة، ثم تنادي اسمك، فتدخل من باب لا يفتح إلا بإشارة إلكترونية منها، فتسألك بعض الأسئلة الروتينية، وتسجّل معلومات عنك، توطئة لمنحك تصريح العبور المطلوب.

دخلت وخرجت لأعود إلى الكرسي، منتظراً مع المنتظرين من أطفال وشيوخ ونساء وشباب أغلبهم مصاب بأمراض السرطان.
ساءني كثرة رنين الهواتف النقالة لجماعتي. بين الفينة والفينة يرنّ موبايل أحدهم أو إحداهن، فيخرج عليك صوت دعاء وهّابي أشبه بالزعيق. إزعاج صُراح، ومع ذلك لا أحد يحسّ أو يذوق!

أخيراً نوديَ عليّ فبدأت بعبور آخر بوابة، ثم أعادوني للكرسي، لأسباب ما، عرفتها حين جاء رجل الشين بيت، ونادى عليّ أنا تحديداً لأوقّع على ورقة، تُلزمني بالعودة مع أخي، وعدم الخروج من المستشفى لأي سبب كان، أو التسلل لرام الله، أو دخول القدس الغربية.
قلت له إنني موظف وربما أذهب لرام الله للالتحاق بوظيفتي هناك، فحذرني من ذلك، وزاد: لن يدخل أخوك إلى غزة، بعد العلاج، إذا لم تعد معه!
وقّعت على الورقة، وطارت كل أحلامي السابقة بالنزول إلى رام الله ومن هناك إلى عمان، فدولة أوربية ثم النرويج أو السويد.
طارت كل أحلام الهجرة!