قيّض لي زماني لقاءَ إدوارد سعيد مرتيْن: واحدة أيام الاحتلال، حين زار غزة بدعوة من نقابة المحامين، والثانية - والأخيرة مع الأسف، أيامَ السلطة، وبعد حادثة منع كتبه من التداول في الأسواق.
وفي المرتيْن، رغم الشقة الزمنية الكبيرة بينهما، كان quot;أبو وديعquot; - كما يُحب أن يُنادى - هو ذاته لم يتغيّر: الرجل البسيط المتواضع، حدَّ نكران الذات، وحدّ أن من لا يعرفه حقّ المعرفة، سيندهش وربما quot;يستكثرquot; عليه حفاوة الغزّيين به وتبجيلهم العالي لاسمه وشخصه.
في الزيارة الأولى، جاءنا قادماً من الضفة والقدس، وقال كلمته التي لا أنساها: quot;هنا وجدتُ زبدة الحقيقةquot;!
قمت وسألته: أية حقيقة تقصد؟
قال: حقيقة الاحتلال الإسرائيلي، حقيقة الصراع، حقيقة الوضع كما هو بدون تزويق. وأردف: مَن لم ير غزة، فحقيقته - مهما اجتهد قارئاً وباحثاً ومُحلِّلاً - ستبقى ناقصة.
كنا سنتئذ نعيش ما سمّاها ماركس من قبل quot;مرحلة الغسقquot;: نهايات انتفاضة توشك أن تموت، وبدايات quot;جنينquot; سياسي غامض ومجهول. أي: قديمٌ لم يمت تماماً وجديدٌ لم يولد بعد.
كان إدوارد، بحكم وعيه الفارق، وبحكم وجوده في بلد صناعة القرار، قد استشعر الخطر القادم. فجاء إلى الضفة والقدس وغزة، وأصرّ أن يلتقي أبناء شعبه، ليعلّق الجرس أمامهم، ويدقّ الناقوس على مسامعهم.
قال: الجنين القادم سيولد مشوّهاً ومعوّقاً. وإذا وافق ياسر عرفات عليه، فستكون quot;النكبة الثانيةquot; قد حلّت بكم.
لم يطل الوقت، بعد زيارة إدوارد، وتمخّضت بطن الحراك السياسي الكبيرة، عن خديج مشوّه وغير قابل للحياة، أعطوه اسم أبعد وأبرد عاصمة في الشمال: أوسلو.
أيامها، كانت قبضة الاحتلال البشعة قد تراخت نسبياً، بحكم ما سيأتي. وكان الناس، في غالبهم، منتظرين مستبشرين، بعد أن طالت معاناتهم المزدوجة من بطش الاحتلال وأمراء الميلشيات. لذا كانت كلمة إدوارد، ثقيلة على مسامعهم، وتركت صدى غير quot;مريحquot;.
لاحظ أبو وديع ذلك، وردّ على معظم الأسئلة، بتواضع العالِم العارف المستشرف: قال: مهمتي كفلسطيني وكمثقف، ألاّ أخدعكم. كم كنت أودّ لو أعطيكم أملاً، إنما عن هذا الطريق، لا. الأمل موجود في طريق آخر غير طريق ياسر عرفات: الأمل هناك، حيث المقاومة، بجميع أشكالها، والفطنة في التعامل مع الغرب، والتوحد والصمود في وجه المحتلّ، إلى أن ينضج الظرف، فيتمخّض عن سلام عادل.
وقد أثبت الزمن، صدق أطروحات الرجل.
أما في الزيارة الثانية، في مركز رشاد الشوا، فقد تجاهل موضوع منع كتبه، وتكلّمَ كلاماً عميقاً، عن طبيعة إسرائيل وتركيبة السلطة الفلسطينية، و... لقد أثبت الزمن، مرة أخرى، صدق أطروحات إدوارد.
استرجعت في ذاكرتي هاتين الزيارتين، بكل ما قيل عنهما وما أثارتاه من ردود أفعال، وأنا ألِفّ وأدور، في سيارة الشاعر والجراح الفذّ د. وائل أبو عرفة، عبر أزقة القدس.
كان هذا الصديق الكبير، الوطني حتى الرهبنة، النادر الكلام، قد اتصل بي بالفندق، وأصرّ أن نسهر معاً quot;لأجل أن ترى القدس: شوارعها وأحياءها وناسها في الجانبيْنquot;. يقصد القدس بشطريها، فهو لا يعترف ولا يُسلّم بمصطلح quot;القدس الغربيةquot;. بل أبعد: لا يعترف بدولة إسرائيل، رغم عمله الطبي الطويل في مستشفى quot;شعاريه تصيدقquot;. وهذا ما كان.
جاءني ليلاً، وذهبنا إلى حفل تدشين شركة تأمين جديدة، لصديق له، في جمعية الشبان المسيحيين، بالشطر الشرقي من المدينة.
حضرنا الحفل، وكان أول حفل أحضره لأشقّاء مسيحيين، في جو حضاري وانفتاح ورُقيّ، يُذكّرك بأمجاد غابرة، لشعب وبلد، كانا يوماً طليعة المتحضّرين في هذه الأمة، لولا ما جرى وصار.
خرجت من الحفل وقلت لوائل: في سنة ما، كان جبرا إبراهيم جبرا، هنا. وياما فكّر وكتب وناقش بين هذه الجدران.
ابتسم وائل: كلا. أنت تقصد جمعية الشبان القديمة، التي في الشطر الغربي، جوار فندق الملك داوود. هنالك مقرّ الجمعية الأصلية، التي ضمّت صالاتها وغرفها، عديداً من مشاهير الثقافة والأدب والفن. أما هذه البناية، فقد بُنيت بعد 48، لتكون بديلاً عن تلك التي سُرقت إبان النكبة.

- هل يمكنني رؤيتها؟
- طبعاً، فأنت تريد أن تقول: quot;من هنا مرّت خطوة أبي سديرquot;!
- يا ريت.
- وليس أن ترى آثار جبرا فقط، بل سأريك بيت إدوارد سعيد الأصلي. وسأريك عدة بيوت وقصور لمثقفين أعلام وساسة أعلام أيضاً.
- أرجوك، يعنيني جداً رؤية منزل إدوارد، حيث كانت طفولته، وحيث كان فردوسه الضائع. هو عاش فيه 13 سنة من عمره، ورغم هذا، يأتي ناقد صهيوني حاقد، فيتهم إدوارد بأنه غير فلسطيني، وأنّ حديثه عن بيت له في القدس، quot;ما هو إلا خيال في خيالquot;.
- ليقولوا ما يشاءون. يصرخ وائل بغضب.

نلفّ وندور، حوالي ساعتين، فنرى الشطر الشرقي من القدس بمعظمه، ونخرج من المدينة، فنرى ما حولها من قراها.
ثم يعود وائل، لنرى الشطر الغربي بأحيائه وقراه: محطة القطار، خان الظاهر بيبرس، حيّ الطالبية، القطمون، البقعة الفوقا والتحتا، ماملا (مأمن الله)، لفتا، برج حسن، عين كارم، المالحة، وأسماء قرى ومعالم أخرى نسيتها.
ثم نعود للطالبية، حيث وضعت هيلدا طفلها إدوارد، ويكون الليل قد تقدّم، وبعض الضباب انتشر، فندخل من شارع إلى شارع، في منطقة راقية، ترفل بالوداعة. ثم ندلف إلى حيّ أرستقراطي قديم [لم تجر عليه يد الزمن، فلم يتغيّر، كما يبدو] ونرى شوارع هادئة واسعة، تأخذنا إلى شارع جانبي خافت الإضاءة بعرض 4 أو 5 أمتار، باتجاه واحد، فيقول لي وائل: يا هنا في هذا الشارع، يا في الشارع الثاني المجاور. يبدو أنّ الليل غمّ عليّ، لكنني متأكّد أنه في هذه المنطقة! ثم يمضي متمهلاً، ونراقب العمارات غير العالية على الجانبين. يقول: البيت طبقتان فقط، بفسحة بسيطة أمامه. نتتبّع البيوت، واحداً واحداً، وينتهي الشارع، دون بُغيتنا، فيعود راجعاً، في الاتجاه المعاكس الممنوع، وتمر سيارة يهودي، فيظننا غرباء عن المنطقة، لذلك يُنبّهنا بأدب إلى أننا نسير بالعكس: ممنوع! لا يأبه وائل، ويبحث ويبحث، إلى أن نجد أخيراً ضالّتنا.
يا ألله!
جاء إدوارد إلى هنا عام92، مع ولده وديع وابنته نجلا وزوجته مريم. وكان هذا قبل موته بوقت طويل. ولما حاول أن يدخل البيت quot;ولو من أجل إلقاء نظرة خاطفةquot;، منعه الساكن الجديد quot;متذرّعاً بأسباب عاطفية كابحة جداً ومبهمة جداًquot;. وعليه، فقد اكتفى الرجل المريض باللوكيميا بالوقوف في الشارع، والنظر عن بُعد، ل (quot;أولِ منزلِquot;).
أقف وأتخيل مشهد العائلة المشدوهة، وهي تنظر غير مصدّقة! أقف، ويعبر في الفضاء، بين فروع شجر الشارع الجانبي الساكنة، ذلك البيت - العلامة:
[كم منزل في الأرض يعشقه الفتى
وحنينه دوما لأولِ منزلِ].
لمَ لمْ تدخل بيتك يا إدوارد؟ لمَ؟ هل شعرت بأنك ستؤذي مشاعر الساكن الجديد؟ أم خشيت أن تتسبّب بمشكلة؟
لمَ يا أبا وديع!
طفرت دمعتي واغرورقت حنجرتي بالحشرجات.
لكأنني أفقد القدس الآن الآن.
لكأنني أشعر بخسارتها اللاتعوض، فقط في هذه اللحظة.
يا إله الشياطين!
مررنا عن لفتا، قرية صديقي لؤي، وقد صارت quot;الجامعة العبريةquot;. وعن المالحة، قرية صديقي نجوان، وقد صارت quot;سوق الكنيونquot;. وعن خان الرجل العظيم وقد صار quot;مسرحاًquot; لهم. والآن أرى بيت إدوارد، وقد آل إلى مستوطِن بولوني أو واق الواق... وقبل كل ذلك، نزلت ورأيت ولمست بوابات ومداخل بيوت عربية لا يزال الحرف العربي والشعر العربي منقوشاًَ على حجارتها الصخر وأبوابها المعدن.
يا إله الشياطين..
إني، أنا الفلسطيني، المولود قبل خمسين سنة، ومليار فجيعة، أشعر الآن فقط، في ليل هذا الخميس الموافق 3 ديسمبر 2009، أنني فقدت القدس... أنني مهزوم.
يا إله الشياطين. إنّ خسارتنا ومصيبتنا لن ولن تعوض.
لقد سُرق وطني يا إله الشياطين...
وهذه الليلة،هذه الليلة، ستظل مغروزة في قحف رأسي، شظيةً من جهنم.