ما إن سيطرت حماس على قطاع غزة، بانقلابها العسكري، حتى بدأ بعض المثقفين الفلسطينيين بمغادرة القطاع. واليوم، بعد نحو سنة ونصف من ذلك الانقلاب، يجهد عدد كبير من المثقفين المنتجين في محاولة الخروج، فمنهم من أفلح، ومنهم من ينتظر.
لا شكّ أنّ ثمة حالة من التوجّس والريبة، إن لم نقل العداء، بين حماس والمثقفين بغالبيتهم. فهؤلاء علمانيون(على علّاتهم)، وآخر شيء يحلمون به هو الدولة الدينية. لذلك لم يكن مدهشاً ما حدث وما سوف يحدث. فلا مكان لمثقفين من هذه الشاكلة في بلد تحكمه حركة دينية أكبر أحلامها هو إقامة نظام الخلافة.
قد يبدو هذا الكلام تبسيطياً، ومع ذلك فهو، في العموم، صحيح. وصحيح على الأرض أقوى مما هو صحيح في الأفكار. ذلك أنّ الأفكار، أحياناً، تزوّق وتجامل وتتقنّع، بل تتعالى لتقتل الحقيقة. بينما ما يحدث على الأرض هو ساطع ومباشر وبسيط بلا رتوش.
فالمثقف(دعونا نسمّيه هناquot;الوطنيquot;، كي لا نغرق في تسميات مختلفة) يرى نفسه بالنسبة لحماس_ الواقع والمشروع، وكأنما هو وهي: خطان متوازيان لا يلتقيان. وهي ذات الرؤية التي تنظر من خلالها حماس لهذا المثقف.
لذا فحماس مستغنية عنه، ولديها منquot;مثقفيهاquot; ما يكفيها. فإذا فرضنا جدلاً، رغبة هذا المثقف بالتوظف في مؤسساتها، درءاً للحاجة، فهي لن تسمح له إلا بشروطها هي وبمقاييسها هي. أي أن يكون ترساً في دولابها الضخم، لا أكثر.
من هنا يبدو الطلاق بائناً بين الطرفين(دعونا نستخدم ثقافتهم). ومن هنا، أيضاً، لن يكون عجيباً ألا يلجأ إليها مثقفون شباب عاطلون عن العمل، وبحاجة ماسة إليه. حتى يمكن القول إن ثمة حال من quot;الاستغناءquot; بينهما. فلا حماس بحاجة لأمثال مثقفنا، ولا مثقفنا بحاجة إلى وظائفها، رغم بؤس الحال.
وعليه، فالأمور تمشي على هذه quot;القسمةquot; منذ الانقلاب.
هذا على السطح، فكيف تجري الأمور في الأعماق؟ بمعنى: هل يكتفي المثقف الوطني بسلوكه هذا، ثم يمضي إلى شأنه = عزلته، فيكتب ما يكتب أو يقرأ ما يقرأ، ليُنتج نصوصه الأدبية المفارقة للواقع وكفى؟ غالبية المثقفين يكتفون بذلك. يقولون: تلك مهمتنا فقط، فما نحن بالسياسيين، وغاية ما هنالك أن نكتب نصاً يحوز جودته الفنية، فنكون بذلك أدّينا دورنا على خير وجه، ثم نمضي إلى شئون حياتنا، كما يمضي المواطن العادي. أكثر من هذا، أصلاً، لا نستطيع. وأكثر من هذا، أصلاً، لا نريد.
وعلى ما في تبريرٍ من هذا النوع من وجاهة(ونبالة أيضاً) إلا أنه، في حالتنا الفلسطينية عموماً، والغزاوية خصوصاً، يبدو ناقصاً. ناقصاً لأنّ مثقفنا اكتفى بدوره كمنتج، ونسيَ دوره المُكمّل كفاعل ثقافي.
بأيّ معنى؟
بمعنى أنّ الكتابة الأدبية وحدها لا تكفي( رغم مشقتها وتنكّب الأهوال للظفر بها. فهي طريدة جدّ متمنّعة. وهيهات لمن يصطادها أن يصطاد طرائد أخرى بجودتها ورفعتها) هذا كله معلوم ومفهوم، لكن هذا كله، أيضاً وأيضاً لا يكفي وحده. فالمثقف كائن اجتماعي مهمته الرصد والاستقراء والتحليل والخروج من ثم بآراء عامة لمعالجة خلل ما أو مصيبة ما. فما بالك إذا كان فلسطينياً يعيش نكبتي الاحتلال والانحلال(أستخدم الكلمة الأخيرة بالمعنى المادي لا الأخلاقي)؟
ثمة واجب عليه هو أن يقول كلمته في القضايا العامة التي تخصّ جماعته وحاضرهم ومستقبلهم. خاصة إذا كان بيت هذه الجماعة يحترق، من خارجٍ وداخلٍ على السواء، كما هو شأن بيتنا الفلسطيني، هنا والآن.
سيُقال هذه مهمة الإعلاميين والصحفيين وكُتاب الرأي، لا المبدعين.
كلا!
فما يراه الشاعر أو الروائي، أعمق مما يراه الإعلامي. ويستطيع كتابته بتقنيات أخرى، ومن وجهة نظر أو وجهة حسّ مغايرة ومائزة. الإعلامي(بنموذجه الفلسطيني والعربي عموماً) يعمل على السطح، أو تحته بقليل، بينما المبدع الأدبي أو المثقف الأدبي، يعمل في الأعماق أو قريباً منها(حسب رؤيته وموهبته). لذا فلا كتابة تُغني عن الأخرى.
إنّ ما يحدث اليوم على الساحة الفلسطينية في غزة والضفة، يحتاج إلى مشرط الجراح لا قلم الصحفي فحسب. يحتاج إلى كتابة الإحساس المثقف، أكثر أكيداً، من كتابة الحواسّ، وخاصة حاستي السمع والرؤية.
من هنا أرى أنّ ثمة تقصيراً يطال المثقف الفلسطيني. هذا الذي اكتفى بالفرجة طوراً، وتارةً بالمراقبة المحايدة، وكأنه أصلاً، غريب عن كل ما يدور من حوله.
إنّ هذا quot;التعالي على الواقعquot; هو محض سلوك سلبي، يؤشّر على الأزمة ولا ينفيها. فما تفعله حماس، مثلاً، في بُنية المجتمع، أخطر بما لا يُقاس، بما تفعله في حقل quot;السياسةquot;. فهي تأخذ مجتمعنا، يوماً بعد يوم، ليس فقط إلى المحافظة، فمجتمعنا يكاد يكون محافظاً بطبعه وطبيعته، وإنما، وهنا مكمن الخطر الكبير، إلى الانغلاق والتحجّر والتطرف وعبادة الموت. إلى نفق معتم معاد لكل قيم الحياة الحقّة التي وصل إليها البشر المستنيرون، في أربع جهات الأرض، بعد تضحيات وعذابات.
حماس، اجتماعياً، هي الخطر المحدق. أما سياسياً، فالعالم كفيل، ولو تدريجياً وببطء، بتطويعها وتطبيعها.
إنّ مشروعها الاجتماعي هو تحويل كل المجتمع إلى قطيع. قطيع متماثل لا مكان للتعددية أو الاختلاف فيه. وهنا ملعب المثقف. هنا يستطيع أن يكتب وينتقد ويُحذّر ويجادل ويساجل. أي هنا عليه دور وواجب، فإن نكص عنهما، خوفاً من دفع الثمن، فما فائدته لمجتمعه، وما فائدته للمستقبل وللأجيال الجديدة؟ إنه، بطبيعة عمله، منذور للمستقبل، وللأحلام، والمشاريع(ولا تخيفنّه الكلمات الأخيرة، فهي لا تحتوي على مطنّة الأيدولوجيا التي يخافها وله كل الحق في ذلك) لكن ثمة سؤال مقابل: هل يفتقر خصمك إلى الأيدولوجيا؟ بالطبع لا نطالبه بالمقابَلة بالمثل، إنما نطالبه بفضح أيديولوجيا الخصم وتعريتها وتبيان مدى هشاشتها وعدم ثباتها في امتحان الوقائع والأحداث. خاصة وأنها أيديولوجيا تزعم التماسّ مع المقدس، وباسمه تسلّط كل ترسانتها المهولة على عقول الناس. فمَن غير المثقف، بمقدوره على الأقل الوقوف بوجهها ولو فكرياً وعلى الورق. فما من أحد يطالبه بمواجهة هولها المادي وهو يعرف أنه أعزل إلا من قلمه وأفكاره.
لقد بدأ البعض من مثقفينا في التسرّب والهرب من القطاع ما سنحت الفرصة. ورغم أنني أتفهّم موقفهم إلا أنني أرفضه. فليس من مصلحة السفينة الغارقة أن يهرب كل ركابها. فربما هم أنفسهم يغرقون!
وإذا كان البعض من رموز مثقفينا هربوا، مع أنهم كانوا الأكثر استمتاعاً بامتيازات السلطة السابقة، فإنّ هذا لا يبرر الاقتداء بهم في صنيع جبان كهذا.
كلا. المثقف الحقيقي المؤمن بأفكاره ورؤاه ومبادئه ليس جباناً ولا يليق به أن يتقمص عقلية التاجر.
إن من هرب حتى الآن هم قلة فقط. وكان متوقعاً هروبهم. فهم بأمراضهم النفسية وهشاشتهم الداخلية ورعبهم المبالغ فيه وتدليلهم من السلطة السابقة، قد فسدوا ولا يراهن عليهم، لا موقفاً، ولا شخصاً بالطبع. ثم إنّ هؤلاء لم تكن مرجعياتهم من دواخلهم، ولذلك حين هرب سادتهم هربوا معهم. أما المثقف صاحب المرجعية من رأسه هو، فلن تستطيع لا حماس ولا غيرها أن تكسره. لأنه في الأصل لا يُشترى ولا يباع. ولأنه كذلك نظيف اليد والسيرة والمسيرة(كي نستخدم كلمات أصحابنا إياهم، التي أبداً ما كانوا على قدْرها)
فلنراهن على حجارة الوادي بلغة عمنا الطاهر وطار. ولنراهن على أنه لن يصحّ غير الصحيح. مهما طال المدى، ومهما تكسّرت النصال على النصال.
مجروحون؟ نعم. محبطون؟ نعم. مكتئبون؟ نعم. لكننا لم نزل أحياء. وعلينا واجبات تجاه أعدل قضية في المنطقة، وتجاه أسخم شعب في العالم. على الأقل من أجل أولادنا وأحفادنا، وعلى الأقل، لئلا يشيحوا بوجوههم عن ذكرانا.
لا شكّ أنّ ثمة حالة من التوجّس والريبة، إن لم نقل العداء، بين حماس والمثقفين بغالبيتهم. فهؤلاء علمانيون(على علّاتهم)، وآخر شيء يحلمون به هو الدولة الدينية. لذلك لم يكن مدهشاً ما حدث وما سوف يحدث. فلا مكان لمثقفين من هذه الشاكلة في بلد تحكمه حركة دينية أكبر أحلامها هو إقامة نظام الخلافة.
قد يبدو هذا الكلام تبسيطياً، ومع ذلك فهو، في العموم، صحيح. وصحيح على الأرض أقوى مما هو صحيح في الأفكار. ذلك أنّ الأفكار، أحياناً، تزوّق وتجامل وتتقنّع، بل تتعالى لتقتل الحقيقة. بينما ما يحدث على الأرض هو ساطع ومباشر وبسيط بلا رتوش.
فالمثقف(دعونا نسمّيه هناquot;الوطنيquot;، كي لا نغرق في تسميات مختلفة) يرى نفسه بالنسبة لحماس_ الواقع والمشروع، وكأنما هو وهي: خطان متوازيان لا يلتقيان. وهي ذات الرؤية التي تنظر من خلالها حماس لهذا المثقف.
لذا فحماس مستغنية عنه، ولديها منquot;مثقفيهاquot; ما يكفيها. فإذا فرضنا جدلاً، رغبة هذا المثقف بالتوظف في مؤسساتها، درءاً للحاجة، فهي لن تسمح له إلا بشروطها هي وبمقاييسها هي. أي أن يكون ترساً في دولابها الضخم، لا أكثر.
من هنا يبدو الطلاق بائناً بين الطرفين(دعونا نستخدم ثقافتهم). ومن هنا، أيضاً، لن يكون عجيباً ألا يلجأ إليها مثقفون شباب عاطلون عن العمل، وبحاجة ماسة إليه. حتى يمكن القول إن ثمة حال من quot;الاستغناءquot; بينهما. فلا حماس بحاجة لأمثال مثقفنا، ولا مثقفنا بحاجة إلى وظائفها، رغم بؤس الحال.
وعليه، فالأمور تمشي على هذه quot;القسمةquot; منذ الانقلاب.
هذا على السطح، فكيف تجري الأمور في الأعماق؟ بمعنى: هل يكتفي المثقف الوطني بسلوكه هذا، ثم يمضي إلى شأنه = عزلته، فيكتب ما يكتب أو يقرأ ما يقرأ، ليُنتج نصوصه الأدبية المفارقة للواقع وكفى؟ غالبية المثقفين يكتفون بذلك. يقولون: تلك مهمتنا فقط، فما نحن بالسياسيين، وغاية ما هنالك أن نكتب نصاً يحوز جودته الفنية، فنكون بذلك أدّينا دورنا على خير وجه، ثم نمضي إلى شئون حياتنا، كما يمضي المواطن العادي. أكثر من هذا، أصلاً، لا نستطيع. وأكثر من هذا، أصلاً، لا نريد.
وعلى ما في تبريرٍ من هذا النوع من وجاهة(ونبالة أيضاً) إلا أنه، في حالتنا الفلسطينية عموماً، والغزاوية خصوصاً، يبدو ناقصاً. ناقصاً لأنّ مثقفنا اكتفى بدوره كمنتج، ونسيَ دوره المُكمّل كفاعل ثقافي.
بأيّ معنى؟
بمعنى أنّ الكتابة الأدبية وحدها لا تكفي( رغم مشقتها وتنكّب الأهوال للظفر بها. فهي طريدة جدّ متمنّعة. وهيهات لمن يصطادها أن يصطاد طرائد أخرى بجودتها ورفعتها) هذا كله معلوم ومفهوم، لكن هذا كله، أيضاً وأيضاً لا يكفي وحده. فالمثقف كائن اجتماعي مهمته الرصد والاستقراء والتحليل والخروج من ثم بآراء عامة لمعالجة خلل ما أو مصيبة ما. فما بالك إذا كان فلسطينياً يعيش نكبتي الاحتلال والانحلال(أستخدم الكلمة الأخيرة بالمعنى المادي لا الأخلاقي)؟
ثمة واجب عليه هو أن يقول كلمته في القضايا العامة التي تخصّ جماعته وحاضرهم ومستقبلهم. خاصة إذا كان بيت هذه الجماعة يحترق، من خارجٍ وداخلٍ على السواء، كما هو شأن بيتنا الفلسطيني، هنا والآن.
سيُقال هذه مهمة الإعلاميين والصحفيين وكُتاب الرأي، لا المبدعين.
كلا!
فما يراه الشاعر أو الروائي، أعمق مما يراه الإعلامي. ويستطيع كتابته بتقنيات أخرى، ومن وجهة نظر أو وجهة حسّ مغايرة ومائزة. الإعلامي(بنموذجه الفلسطيني والعربي عموماً) يعمل على السطح، أو تحته بقليل، بينما المبدع الأدبي أو المثقف الأدبي، يعمل في الأعماق أو قريباً منها(حسب رؤيته وموهبته). لذا فلا كتابة تُغني عن الأخرى.
إنّ ما يحدث اليوم على الساحة الفلسطينية في غزة والضفة، يحتاج إلى مشرط الجراح لا قلم الصحفي فحسب. يحتاج إلى كتابة الإحساس المثقف، أكثر أكيداً، من كتابة الحواسّ، وخاصة حاستي السمع والرؤية.
من هنا أرى أنّ ثمة تقصيراً يطال المثقف الفلسطيني. هذا الذي اكتفى بالفرجة طوراً، وتارةً بالمراقبة المحايدة، وكأنه أصلاً، غريب عن كل ما يدور من حوله.
إنّ هذا quot;التعالي على الواقعquot; هو محض سلوك سلبي، يؤشّر على الأزمة ولا ينفيها. فما تفعله حماس، مثلاً، في بُنية المجتمع، أخطر بما لا يُقاس، بما تفعله في حقل quot;السياسةquot;. فهي تأخذ مجتمعنا، يوماً بعد يوم، ليس فقط إلى المحافظة، فمجتمعنا يكاد يكون محافظاً بطبعه وطبيعته، وإنما، وهنا مكمن الخطر الكبير، إلى الانغلاق والتحجّر والتطرف وعبادة الموت. إلى نفق معتم معاد لكل قيم الحياة الحقّة التي وصل إليها البشر المستنيرون، في أربع جهات الأرض، بعد تضحيات وعذابات.
حماس، اجتماعياً، هي الخطر المحدق. أما سياسياً، فالعالم كفيل، ولو تدريجياً وببطء، بتطويعها وتطبيعها.
إنّ مشروعها الاجتماعي هو تحويل كل المجتمع إلى قطيع. قطيع متماثل لا مكان للتعددية أو الاختلاف فيه. وهنا ملعب المثقف. هنا يستطيع أن يكتب وينتقد ويُحذّر ويجادل ويساجل. أي هنا عليه دور وواجب، فإن نكص عنهما، خوفاً من دفع الثمن، فما فائدته لمجتمعه، وما فائدته للمستقبل وللأجيال الجديدة؟ إنه، بطبيعة عمله، منذور للمستقبل، وللأحلام، والمشاريع(ولا تخيفنّه الكلمات الأخيرة، فهي لا تحتوي على مطنّة الأيدولوجيا التي يخافها وله كل الحق في ذلك) لكن ثمة سؤال مقابل: هل يفتقر خصمك إلى الأيدولوجيا؟ بالطبع لا نطالبه بالمقابَلة بالمثل، إنما نطالبه بفضح أيديولوجيا الخصم وتعريتها وتبيان مدى هشاشتها وعدم ثباتها في امتحان الوقائع والأحداث. خاصة وأنها أيديولوجيا تزعم التماسّ مع المقدس، وباسمه تسلّط كل ترسانتها المهولة على عقول الناس. فمَن غير المثقف، بمقدوره على الأقل الوقوف بوجهها ولو فكرياً وعلى الورق. فما من أحد يطالبه بمواجهة هولها المادي وهو يعرف أنه أعزل إلا من قلمه وأفكاره.
لقد بدأ البعض من مثقفينا في التسرّب والهرب من القطاع ما سنحت الفرصة. ورغم أنني أتفهّم موقفهم إلا أنني أرفضه. فليس من مصلحة السفينة الغارقة أن يهرب كل ركابها. فربما هم أنفسهم يغرقون!
وإذا كان البعض من رموز مثقفينا هربوا، مع أنهم كانوا الأكثر استمتاعاً بامتيازات السلطة السابقة، فإنّ هذا لا يبرر الاقتداء بهم في صنيع جبان كهذا.
كلا. المثقف الحقيقي المؤمن بأفكاره ورؤاه ومبادئه ليس جباناً ولا يليق به أن يتقمص عقلية التاجر.
إن من هرب حتى الآن هم قلة فقط. وكان متوقعاً هروبهم. فهم بأمراضهم النفسية وهشاشتهم الداخلية ورعبهم المبالغ فيه وتدليلهم من السلطة السابقة، قد فسدوا ولا يراهن عليهم، لا موقفاً، ولا شخصاً بالطبع. ثم إنّ هؤلاء لم تكن مرجعياتهم من دواخلهم، ولذلك حين هرب سادتهم هربوا معهم. أما المثقف صاحب المرجعية من رأسه هو، فلن تستطيع لا حماس ولا غيرها أن تكسره. لأنه في الأصل لا يُشترى ولا يباع. ولأنه كذلك نظيف اليد والسيرة والمسيرة(كي نستخدم كلمات أصحابنا إياهم، التي أبداً ما كانوا على قدْرها)
فلنراهن على حجارة الوادي بلغة عمنا الطاهر وطار. ولنراهن على أنه لن يصحّ غير الصحيح. مهما طال المدى، ومهما تكسّرت النصال على النصال.
مجروحون؟ نعم. محبطون؟ نعم. مكتئبون؟ نعم. لكننا لم نزل أحياء. وعلينا واجبات تجاه أعدل قضية في المنطقة، وتجاه أسخم شعب في العالم. على الأقل من أجل أولادنا وأحفادنا، وعلى الأقل، لئلا يشيحوا بوجوههم عن ذكرانا.
التعليقات