حاجة غريبة خالص. أن تكون غزاوياً في هذه الأيام، معناه أن تأكل شعير الحمير. يا لها من quot;كينونةquot; إذا استعرنا لغةَ الفلاسفة. ويا لها من quot;فضيحةquot; إذا كتبنا بلغة بسطاء الناس.
غزة، أكيداً، لا تستحق مآلاً كهذا، ولا أهلها بالطبع. فهذه الرقعة الصغيرة من أرض المأساة، حملت جمرة انتمائها لفلسطين، ولم تتخلَّ عنها لحظة واحدة في التاريخ المعاصر. وكذلك فعلَ أهلوها في سيرتهم ومسيرتهم. حتى وصل الأمر ب رابين وسواه من قادة إسرائيل، إلى الحلم بأن يستيقظوا من نومهم ذات يوم، فإذا غزة غارقة في البحر.
لم يستطع الجنرال كسر إرادتها، وهو الذي حاول ولم يدّخر جهداً، فما كان منه إلا أن يحلم، تماماً كما حلم من قبله جنرالات أكبر سنّاً، وكما سيحلم من بعده جنرالات شباب.
لكن غزة في هذه الأيام، غير غزة في الماضي المتوسط والقريب. فغزة مقسومة، وتعاني من أمراض تحت جلدها. أول هذه الأمراض هو الفساد غير المسبوق: فساد استشرى وعمّ وطمّ طوال 12 سنة هي عمر سلطة فتح، فلما جاءت الإنتخابات التشريعية، قبل نحو ثلاث سنوات، ذهب الناس بأغلبيتهم إلى حماس، نكايةً بمَن استهان بهم ولم يحترم تاريخهم وخصوصيتهم، ورغبةً في تغيير الأحوال وطيّ هذه الصفحة. فانتصرت حماس.
وما إن انتصرت حتى حوصرت. وحوصر معها شعب بأكمله. ومع هذا لم يرعوِ بعض قيادات الزمن السابق من الجنرالات المزيفين، فحاصروها ونغّصوا عليها وعلينا عيشتنا. فهو، هذا البعض، لم يكن يؤمن بالعملية الديمقراطية، لا في الباطن ولا في الظاهر، لأنه تعوّد على السلطة وامتيازاتها، لعقود من الزمن. وتعوّد أن يُدندل رِجليه على ظهور الناس طويلاً، فكيف له، في غمضة عين، أن يجلس في مقاعد المعارضة؟ لا. يُخرّبها ويتربع على خرابها أحسن.
وهذا ما كان. قامت حماس بانقلابها العسكري الذي تسمّيه حسماً، وبدأنا مسيرتنا مع المرض الثاني، ألا وهو الفرقة.
وهو مرض أخطر بما لا يُقاس من المرض الأول. فالفساد على خطورته، لم يقسّم الناس قسمين وإنما وحّهدهم. لكن الفرقة قسّمتهم. وليس معنى هذا أننا نقلل من مضاعفات الفساد، فهو كان سرطاناً يرتع في جسمنا السياسي الوليد، ونتائجه كارثية في كل حال. إنما الفرقة السياسية، على سبيل المقارنة، تظل هي الأخطر، وبخاصة لدى شعب لم يتحرر بعد من الاحتلال العسكري، ومن قبضة عدوه المباشرة.
إنّ مظاهر وتجليات هذه الفرقة هي ما يخيفني الآن على شعبي ومستقبله معاً. فنحن لم نكن في يوم من الأيام نتباغض بإخلاص كما نفعل منذ الانقلاب. ومع أننا بشر ولسنا ملائكة، إلا أننا كنا نحب بعضنا بعضاً، ونقف مع بعضنا بعضاً في الأزمات وفي الضيق (الانتفاضتان الأولى والثانية). وكان هذا التلاحم فيما بيننا مثار غيرة وحسد من جانب أعدائنا. ولكَم عبّرَ غير واحدٍ منهم جهاراً عن ذلك.
وأكثر ما يخيفني في هذا الشأن، هو الموضوع الاجتماعي(أتكلّم تحديداً عن قطاع غزة حيث أعيش)، فالفرقة والخلاف بين أكبر فصيلين على الساحة، تجاوزا السياسة، واخترقا الطبقات التحتية من بُنية المواطن العادي. أي لم يظلّ الخلاف سياسياً، بل بلغ مديات أبعد وأخطر، ولا تجوز.
لذلك صرنا نخاف لو دخلت إسرائيل غزة، في اجتياح عسكري كبير، ألا يتوحد الناس في التصدي لها وصدّها، كما هو الأمر الطبيعي.
من هنا، بالضبط من هنا، صارت إسرائيل مطلقة السراح. فهي تراقب غزة جيداً وثمة عملاء لها يخبرونها بحقيقة الأوضاع أولاً بأول. لذا إذا لم تحارب عسكرياً، فلا أقل من عصرنا وتركيعنا بتشديد الحصار. وهو حصار موت لا يقل بشاعة عن الموت في الحرب. فمنذ شهرين لا غاز في الأنابيب المنزلية، ولا كهرباء، ولا ماء، ولا طلبة يسهرون للمذاكرة، ولا مرضى يخرجون للعلاج، ولا ... ولا. حتى انتشرت أمراض سوء التغذية في الناس، صغاراً وكباراً، ما دفع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين(الأونروا) إلى صرف وجبات غذائية على طلاب المدارس، وهو الأمر الذي لم تفعله هذه الوكالة منذ 15 سنة على الأقل. فأمراض فقر الدم في التلاميذ وهشاشة العظام في السيدات حتى الشابات منهن، والدوخة(الدوار)حالما يقوم المرء من جلسته، كل هذا وسواه صنّفته كارين أبو زيد الناطقة باسم الأمم المتحدة في الشرق الأوسط، كأمراض ناتجة عن الحصار الإسرائيلي.
أي بكلمة: ما لم يفعله الاجتياح العسكري المباشر، يفعله ولكن ببطء الحصار.
ولمّا لم تجد إسرائيل رادعاً من الإقليم والمجتمع الدولي، تمادت فتجاوزت كل الحدود. فلا عرب ولا غرب يقولون لها ثلث الثلاثة كام.
وبحجة حماس الإرهابية، مارست هي أقصى درجات الإرهاب علينا وعلى شيوخنا وأطفالنا. فأليس إرهاباً أن يعود كاتب هذه السطور، شأنه في ذلك شأن غالبية المحيط، إلى عمل كباية الشاي على الحطب؟ أما الطبيخ فلا تسل، فمعظم الغزاويين يُمضونها على النواشف.
صرنا نحسب ألف حساب لمرور ضيف. ونحن الذين كنا نستدين لإكرام الضيف. إنه حال لا مثيل له عربياً، وإن كان يُشبه بوجه من الوجوه حال إخوتنا العراقيين زمنَ الحصار.
وأليس إرهاباً أن لا تأتينا الكهرباء إلا لماماً، فإن جاءت عتلنا الهمّ بخوفنا من انقطاعها المفاجئ، وإن راحت عتلنا الهمّ بألا نجد شمعاً أو كازاً في المحطة؟
وأليس إرهاباً أن يموت مرضانا فلا مصر مفتوحة لهم ولا معبر إيرز؟ وأليس إرهاباً أن يطبخ طبّاخونا على الحطب في المستشفيات؟
وأليس إرهاباً، وهذه خامسة الأثافيّ، لئلا أُطيل، أن تفعل إسرائيل كل هذا بحجة تدجين حماس، وهي تعرف ونحن نعرف، أنّ الأحزاب الدينية الشمولية، صعبٌ أن تدجّن، وإن دُجّنت فبعد أن يموت شعبها لا قبل؟
إنها تعرف هذا وتريده بالضبط. وليس غير الانقسام مَن أعطاها هذه الفرصة التي من quot;ذهبquot;. لذلك، وما دمنا منقسمين، بل كل يومٍ يمرّ، نزداد انقساماً، فلن ترعوي إسرائيل، بل ستتمادى أكثر، حتى يصل الأمر إلى أن تتحقق نبوءة جون جينغ، مدير الأونروا الأجنبي، بموت الكثيرين من أهلنا جوعاً. جوعاً؟ نعم جوعاً والذي لا يعجبه فبحر غزة قريب.
إنّ إسرائيل تشتغل علينا، في الضفة والقطاع. وواهم من يظنّ أنه بمنجى. وهي ستسعى جاهدة لكي يظلّ حال الانقسام على ما هو عليه. فلديها أجندات، ولديها خطط. فماذا عنّا نحن؟ ماذا عن قياداتنا في الجانبيْن؟ هل لديهم أجندات وخطط خارج حساباتهم الفصائلية الضيقة؟
إسمحوا لي بالشكّ قليلاً.
فما نراه وما نعيشه يوماً بيوم، يأخذنا مرغمين إلى تلك المنطقة غير المرغوبة.
إننا نرى أسباباً خارجية وداخلية تمنع الطرفين من المحاولة الجادة في رأب الصدع الكبير. أما الخارجية فتخصّ الإقليم(إسرائيليين وعرباً وإيرانيين) مضافاً إلى هؤلاء أو على رأسهم: أمريكا. وأما الداخلية، فرغبة كل من الطرفين الخصمين بتحقيق مكاسب له على حساب الطرف الثاني. مكاسب حزبية وسلطوية، يبدو سقفها أعلى من سقف الصالح العام لعموم الشعب الفلسطيني.
وهنا، بالضبط هنا، تكمن المأساة! فحين تُغلّبُ مصلحة الحزب على مصلحة الوطن، فعلى كليهما(الحزب والوطن) السلام.
وقبل ذلك وبعده، على شعبنا كله السلام.
لن تُطعمنا إسرائيل علفَ الدوابّ فقط، بل ما هو أنكى. والقادم أخطر.
لذا إذا تكلّمنا بلغة الفلاسفة، فسنقول إنّ quot;صيرورتناquot; المستقبلية سينتابها من الأخطار الكثير، إلى درجةٍ ستُهدّد معها مسيرتُها ومصيرها. فإذا تركنا الفلاسفة وذهبنا إلى لغة بسطاء الناس، فسنقول بلسانهم(يا ذقنَ التيتي .. زي ما رُحتي .. زي ما جيتي). فإذا تكلّمنا بلغة الروائيين، واستعرنا من روائية عراقية شابة، السطرَ قبل الأخير من روايتها(كم بدت السماء قريبة) فسنقول، مع بطلها المسكين فاروق، وهو يصف لها الحصار، وكأنه يصف حصارنا نحن الغزاويين، الآن وهنا، التالي:
(نحن نأكل الخرا بالإبرة، لا الإبرة تشيل، ولا الخرا يخلص)
مع المعذرة من القرّاء!