أن تخوض في السّياسة اليوميّة للشأن الفلسطينيّ، فذلك أشبه بالخوض في بحر الرّمال المتحرّكة. تقول شيئاً وتفلت منك أشياء. وأنت ارتأيتَ منذ زمن، أن ترتاح من هذا quot;الغمّquot;، وتلتفتَ لما هو أجدى، أو بالأقلّ: لما هو أكثر ثباتاً مِن بحرك الخُلّب المتقلّب.
إنّما، وإنّما،وإنّما.... هيهات!
هيهات لِمَن هم مثلك، ممّن لم يغادروا بعدُ هذاquot;المعتقلquot;. فغزّة، quot;معتقلُ العالم الأكبرquot;(حسب وصف أُخت زوجة توني بلير)، لم ولن تُعطي لساكنيها ترفاً كهذا التّرف.
إنهم معجونون بالسّياسة. يُتابعون أخبارها لحظة بلحظة، لسببٍ مِن أبسط ما يكون: لأنّهم يعيشون هذه الأخبار على جلودهم، كأحداثٍ تؤثّر فيهم، وتمُسّهم شخصيّاً، بالمعنى الحسّيّ للكلمة.
وللتّدليل على ذلك، ومثالاً لا حصراً، يكفي أن تسمع بعد انتصاف الليل(وغالباً بعدَ انتصاف الليل) أصواتَ انفجار قريب، حتى تقوم لتستطلعَ quot;الخبرَquot; من فضائيّة(الأقصى) أو(الجزيرة). فهاتان الفضائيّتان، وبالأخصّ الأولى، تسبقان أحياناً أصواتَ التكبيرات وquot;نزفُّ إليكم...quot; التي تُطلقُها مساجدُ المنطقة.
منذ شهر تقريباً بدأ الغزّيّون يتابعون أخبار(المصالحة)في العاصمة المصريّة. يتابعونها ما بين مُصدّقٍ ومُكذّب. أكثرهم(من فئة ذوي النوايا الحسنة، ولهفةِ الخروج من quot;المستنقعquot;، يحدوهم الأملُ بحدوثquot;المعجزةquot; الّتي طالما انتظروها). وأقلّهم، وهم غالباً من quot;فتح وحماسquot;، لا يُعوّلون كثيراً أو قليلاً عليها. فهم يعرفون ما أمام وما خلف الكواليس. لذا ينصحونك بقلبِ الصفحة والنسيان!
الفتحاويّون يقولون: دعوا حماس في خازوقها، ومع مرور الأيّام ومزيدٍ من الضّغط عليها، سنحقّق الكثير من مطالبنا ومكاسبنا.
تسألهم بسذاجة: لمَ ذهبتم إلى القاهرة إذن؟ فيقولون لك:quot;سياسة، يا عزيزي، سياسةquot;! وهل نحن سذّج لنُقيلَ حماس من خازوقها؟ ذهبنا لنحقّق ما نرتجيه، ووفق شروطنا، ولمّا لم تستجب حماس، قفلنا راجعين. ذلك أنّنا يمكن أن ننتظر طويلاً حتّى يقع العصفور لوحده في الشّبكة. الانتظارُ، لو تدري، شيءٌ لا يُكلّفنا شيئاً.
والحمساويّون يقولون لك: نحن نعرف لمَ أتى الفتحاويّون لطاولة الحوار: يريدون منّا دعم أبي مازن، شرعيّاً ودستوريّاً، فنوافق على quot;التّمديدquot; له. لكنّنا لسنا أغبياء، لنلبّي له هذاquot;الحلمquot; إلّا بصفقة شاملة: حلّ جميع الملفّات العالقة والمؤجلة: ملفّ quot;منظمة التحريرquot; وملفّ quot;الاعتقال السياسيّ في الضّفّةquot;، وسواهما من الملفّات. أبو مازن بعث رجاله لهدف وحيد هوquot; موافقتنا على التّمديدquot;، فهو، أوائل السّنة القادمة، لن يكون رئيساً شرعيّاً للفلسطينيّين. وهذا مأزقه الكبير.
تسأل الطرفيْن: أما كان من حلٍّ وسط، لينجح الحوار، فننجو وتنجوان؟
كلا يا عزيزي: حساب quot;القراياquot; اختلفَ عن حساب quot;السراياquot;.
أيُّ قرايا وأيُّ سرايا وكلّنا يدفع الثمن؟
أيّ قرايا وأيّ سرايا، وثمّة في الضّفّة ما يقارب السّبعمئة سجيناً سياسيّاً يُنكّل بهم على أيدي بني جلدتهم؟
وأيّ قرايا وأيّ سرايا وثمّة ما لا يُعرفُ عددُهُ في سجون غزة، ممّن يُنكّل بهم على أيدي بني جلدتهم أيضاً؟
أفي مثل هذا، فليتنافس المتنافسون؟
وماذا عن إسرائيل وحصارها لغزّة واحتلالها للضّفّة؟
ماذا أعددّنا لمستقبلquot;القضيّةquot; ونحن عَظْمُ رقبتها؟
يضحكون على مثاليّتك السياسيّة، وكلامكquot; القديمquot; ولربّما يعتبرونهquot;سذاجةquot;. فهم هكذا، وquot;الواقعquot; هو هيك، ومن لا يعجبه فليأكل نفسه.
ومع أنّنا نأكل أنفسنا، منذ بدء الانتفاضة الثانية، قبيل ثماني سنوات. ومع أنّنا شخصيّاً مستعدّون لالتهام أجسادنا، سواء طُلبَ منا أو لم يُطلب،(تماماً مثل بطل رواية quot;الّلجنةquot; ل صُنع الله إبراهيم) إلاّ أنّ صنيعاً ذاتيّاً كهذا، لم يشفع لنا نحن الفلسطينيّين العاديّين. فأكْلُ النّفْس ليس شَفَاعاً في ملّة الحزبين الكبيرين، ورجالهما.
فماذا نفعل؟
ماذا نفعل نحن الفلسطينيّين العاديّين؟
نعاني وننتظر ونعاني أكثر.
نعاني ونرى بأمّ أعيننا انهيار التّهدئة أو الهدنة. ولسنا محتاجين لذكاء لنعرف ما ستأتي به الليالي الحبالى القريبة. فإسرائيل، التي كسرت التّهدئة، لحسابات تخصّ شأنها الداخليّ (خوف حزب كاديما من فوز حزب الليكود بالانتخابات) محتاجة إلى دم غزّة، لتدرأ عن حزبها الحاكم مصيرَ الفشل.
لعبة إسرائيليّة داخليّة مكرورة، ومرعبة في آن. كلما احتاج حزبٌ حاكم فيها إلى مزيدٍ من أصوات النّاخبين، أسالَ دمَ القربان في غزة.
ليلة انتخاب أوباما، والعالم كلّه مشغول بمتابعة ما يجري هناك، دقيقة بعد دقيقة_ لم نمتلك نحن الغزيّين هذا التّرف. ففي وقت متأخّر من تلك الّليلة، سمعنا انفجاراً، وسمعنا تكبيرات في المساجد، وعرفنا أنّهم قتلوا منّا أربعة ( شابّ منهم، وكلّهم من جيراني بالصّدفة، هو quot; مُوزّع الغازquot; في الحيّ، تزوّج قبل 45 يوماً فقط) ثمّ كرّت المسبحة، فقتلت إسرائيل سبعة شبّان آخرين، ومعظمهم جيران أيضاً. كيف لك أن تتابع مجريات الرئاسة الأمريكيّة وجيرانك يُقتلون؟ وكيف لك أن تتابع شأناً آخر، وبيوت العزاء تنبت كالفطْر من حولك؟
ثم ها هي الأحداث تتسارع وتداعياتها تترى: إسرائيل تضرب بصواريخ طائرات استطلاعها الجهنميّة مزيداً من الشباب، وquot;المقاومةquot; تردّ بصواريخ محليّة الصنع وأخرى من نوع quot; غرادquot; الروسيّ (قبل قليل سقطت سبعة منه على المجدل، والكبنيت الأمنيّ يهدّد غزّة ويتوعدّها _فيما روسيا العظمى تشتري من إسرائيل، قبل أيام، هذا النوع من الطائرات بلا طيّار، ذات التكنولوجيا الدقيقة المتطورة).
وهكذا وهكذا: عُدنا إلى المربّع الأوّل. مزيد من صواريخ طائراتهم القاتلة، مقابل المزيد من مواسيرنا، الّتي هيَ ليست أكثر مِن quot; فَشِّة خُلُقquot;.
فماذا بعد؟ وماذا بعد؟ لقد فرحَ الغزيّون بالتّهدئة واستقبلوا خبر إنجازها من قِبل مصر بحماس وترحيب، وها هي التّهدئة تتداعى.
فماذا بعد؟
لا شيء على الأغلب. سنراوح في المكان القديم، منذورين للموت القادم، بعدما ارتحنا منه طوال الشهور الماضية. وستحاول مصر تدارك الأمور: ترقيع هذا الخرق من هنا وذاك الخرق من هناك، فهل ينجح الرّاتق في ترقيع كلّ الخروق؟
لا نظنّ. ما لم يأخذ نفس المسافة من كلا الطرفين. فمصر في الحقيقة والواقع منحازة لطرف على حساب طرف.
لذلك ولكلّ ما سبقَ أعلاه، أقول لصديقي الذي يكره السياسة ويسألني: كيفْ شايفها؟ بأن لا جديد تحت الشّمس: لا مصالحة قريبة بين الخصمين، ولا هدوء الآنَ وفي الأسابيع المنظورة مع إسرائيل، بل quot;تصعيدquot;، ومزيد من التصعيد. لذلك: أغلق عينيك يا صديقي، لئلّا ترى كثيراً من الدمّ.
أغلق عينيك، الّلتين هما على جانبي رأسك، وليستا في مكان آخر، حتى لا تشوف بالمرّة.
فالحقيقة، أنّ quot;إغلاق العينينquot;_وهو اكتشاف بشريّ مدهش_ يساعد ابن آدم عامّةً_ والغزّاويّ بشكل خاصّ_ على تجاوز الكثير من الأهوال التي يرتكبها بحقّهِ إخوتهُ وأعداؤه_ هؤلاء الذين يمتلكون عيوناً(في الحقيقة:عين واحدة كبيرة) في مواضع أخرى من أجسادهم.
أغلق عينيك، يا صديقي، فلسوف يُساعدك ذلك كثيراً.
و....لا تُصدّق العنوان!