حاجة الشعوب إلى الأدب الساخر، بالمعنى الرفيع للكلمة، لا تقلّ عن حاجتها إلى الضروريات والكماليات. فإذا كانت أحوالها وأوضاعها صعبة وعبثية، برزت الحاجةُ إلى الأدب الساخر ذي الفكاهة السوداء، أكثر مما لو كانت تعيش في وضع عادي أو طبيعي. ولا أظنّ أنّ هذا الشريط الساحلي من فلسطين [قطاع غزة]، كان بحاجة إلى هذا النوع من الأدب، كما هي حاجته اليوم. فمنذ عام الهزيمة الأمّ في 4، لم يعش سكّانه وضعاً ملتبساً وعبثياً وعدمياً وذا مفارقات مضحكة من شدة إبكائها، مثلما يعيش في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، لم يبرز بل لم يُولد هذا الأدب بعد. ولعلّه لن يولد في السنوات القريبة القادمة ولا في العقود القادمة أيضاً. فالأدب الساخر يحتاج مثل quot;السمادquot;، إلى فترة طويلة من التخمّر(وإذا شئتَ المبالغة الزمنية، قُلّْ: مثل quot;الفحمquot; يحتاج إلى زمن هائل لكي يصير ماساً). فضلاً عن حاجته إلى موهبة أدبية كبرى، تتصف بذكاء فائق للعادة، وبصيرة رادارية قادرة على رؤية الجانب الهَزَلي من الحياة وبالذات في أشدّ أمورها جديّة: أي بصيرة قادرة على انتزاع quot;ذهبquot; المفارَقة، والتقاطه من تراب المأساة وطينها ثم تحويله إلى ملهاة سوداء، تنتزع الضحك أو الابتسامة انتزاعاً. لذلك كان الكتّاب الساخرون قلّة على مدار التاريخ. والناجحون منهم آحاد بين هذه القلّة. ولن نستشهد هنا بأسماء أعلامٍ عالميين في هذا المجال، فالأسماء معروفة، ولا يتّسع لها حيّز المقال، لكن بعضها ربما لا يناسب مزاجنا الشرقي [فإحدى سمات الأدب الساخر المائزة هو أنه أدب شديد المحلّية والأصالة، بقدر ما هو إنساني وعالمي] لذا لا بأس من الاستشهاد بأسماء أدباء عرب وفلسطينيين، ليسوا معروفين سوى للنخبة، مع أنّ غير النخبة تحتاجهم أيضاً. فهم القادرون على تحقيق شرطيْ هذه الكتابة الأرقى والأصعب: أي المتعة والسحر. وأخْذ القارئ العربي إلى مناطق وحالات، لم يألفها عند سواهم من الكتّاب الجادّين. وبهذه المناسبة يطيب لي التركيز على ثلاثة أسماء فقط، ممن تيسّر لي قراءتهم، وجعلوني غير ما كنتُ قبل القراءة، وهؤلاء هم: إبراهيم أصلان من مصر، ومحمد مستجاب من صعيدها، وإميل حبيبي من فلسطين. الأول والثالث، قادران على تخليق المفارقة [ومن ثمّ الابتسامة وربما الضحك] من أرعب المواقف، أي من تلك التي تتسم بمنتهى الجديّة والسوداوية والضعف الإنساني العميق. إنهما يُضحكانك من حيث لا تحتسب، بل لعلّ الأصحّ أن نقول: مِن حيث كان يجب أن تأخذك نوبةُ تأملٍ أسيف فتبكي أو على الأقلّ تغتمّ وأنت ترى هولَ وعبثية مصائر البشر. بينما الثالث، وهو لا يقلّ عنهم ذكاء وموهبة، قادر على تخليق [القهقهة وليس فقط الابتسامة أو الضحك] بمزج عدة عناصر مختلفة متباينة سطحاً مترابطة متواشجة عمقاً، وإضافته الكثير من العبث على الحالة أو الموقف. بمعنى أنّ أصلان وحبيبي كأنما يُضحكانك دون قصد، وهما يرصدان مواقف الشخصيات ببراءة شديدة، دون الذهاب إلى تقصّد أقصى العبث، بينما مستجاب يتعمّد أحياناً إضحاكك بتعبيث الموقف [وإن كان ذلك يتمّ عنده ببصيرة عالية، لا تخونه إلا نادراً، فلا يستشعر هذا القصدَ إلا القارئ المتعمّق الخبير]. ثمة أسماء أخرى بالتأكيد، ممن لم يُتح لي قراءتهم، من الأدباء العرب، في كل بلد عربي على حدة، لذا فالمعذرة لعدم ذكرهم. وثمة أسماء أخرى ممن قرأتهم، مِن فئة الكتّاب، فلم يتركوا لديّ أثراً. لأنهم شعبويون وصحافيون بالأساس، أو قريبون من quot;السطحquot; و quot;المباشَرةquot;. بينما هؤلاء الثلاثة هم الأعمق، مع اختلاف كل واحد منهم عن الآخر في درجة هذا العمق، وفي وسائل الوصول إليه. إميل حبيبي أبدع رائعته الكبرى quot;الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائلquot; فكانت فتحاً في الرواية العربية الحديثة، سواء على صعيد الرؤية أو الأسلوب أو التكنيك الروائي، مستفيداً من ميراث العرب السردي والنثري القديم، ليُعبّر عبر كل هذا، عن مأساة الفلسطيني ومفارقات عيشه في الحاضر، هو الذي اختار البقاء في بلاده، ولم يرحل أو يهرب من الاحتلال. إنها أول رواية فلسطينية يندرج بطلُها تحت مُسمّى quot;البطل الضدّquot;. وهي، كما نظنّ، درّة أعمال حبيبي، ولم يستطع تجاوزها فيما تلا ذلك من أعمال [مع أني أحب كل أعماله، منذ مجموعته القصصية الأولى quot;سداسية الأيام الستةquot; مروراً ب quot;المتشائلquot; وquot;لكع بن لكعquot; وquot;أخطيّةquot; وصولاً إلى عمليْه الأخيريْن quot;خرافية سرايا بنت الغولquot; وquot;أم الروبابيكاquot;. بل أُحبُّ حتى مقالاته السياسية والثقافية الغزيرة التي كان يكتبها في quot;الاتحادquot; وquot;الشرق الأوسطquot; وquot;مشارفquot; وغيرها من الصحف والمجلات]. أما إبراهيم أصلان، فأحرص على قراءة كل كتبه والحصول على الجديد منها. ومع أنه كاتب مقلّ بل مسرف في قلّته [وهذا سبب آخر من أسباب إعجابي به. فالرجل، على غير عادة الأدباء العرب، المأخوذين بالكثرة والشهرة، نزيه مع نفسه ومع الفن، أقصى درجات النزاهة. إنه لا يكتب إلا حين لا يكون ثمة مفرّ أو حاجة فنيّة للكتابة، لذلك لو جمعنا أعماله كلها في مجلد، فلن يتجاوز عددُ صفحاته الخمسمائة صفحة] فهو مجدد وخلاّق في معظم ما خطّتهُ يداه. حتى مقالاته يوم الثلاثاء في صفحة quot;الكتّابquot; بالأهرام، أحرص على متابعتها ما وسعني الجهد. فهو حتى في هذه يحرص على مستواه الفني، كأنما هو يكتب قصة قصيرة جديدة بكل متطلّباتها الفنية الصعبة، تناسب عصرنا ومزاج ناسه، لا فقط حالة أو مشهداً من مشاهد الحياة. إنّ الفرق بين أصلان وسواه في اقتراف الكتابة حتى الصحفية منها هو في زاوية النظر : تحديداً في زاوية النظر الذاتية هذه. فهي المعوّل عليها ليس فقط في الأدب وإنما كذلك في الصحافة. إنه فنان من أخمص قدمه حتى شعر رأسه. فنان من طراز فريد في كل أو غالبية ما يكتب، سواء كان هذا الذي يكتبه مقالاً كما في أهرام الثلاثاء، أو رواية كما في quot;مالك الحزينquot; وquot; وردية ليلquot; وquot;عصافير النيلquot;، أو قصة قصيرة كما في quot; بحيرة المساءquot; و quot;يوسف والرداءquot; وquot; حكايات من فضل الله عثمانquot;. أو حتى في كتابيه الأخيريْن الملتبسين، أجناسياً، بين المقالة والقصة القصيرة، إنما الممتعان جداً، وهما quot;خلوة الغلبانquot; وquot;شيء من هذا القبيلquot;. أمّا محمد مستجاب، جاري القديم في منطقة العمرانية الغربية بالجيزة، فهو مثلهما فنان أكثر منه كاتباً _ يطيب لي أن أتخيّله دائماً هكذا، أنا الذي خالطته قليلاً. [quot;الفنانquot; لعلّكم تلاحظون، هي صفة تشتمل الأدباء الثلاثة شخوصاً ونصوصاً، كما يعرفهم مَن خالطهم عن قرب]. وهنا لا بد من كلمة قبل تعداد أسماء كُتب مستجاب، وهي أنّ الفن الساخر بما فيه الأدب، يحتاج إلى فنانين أكثر من حاجته إلى كتّاب [مع تأكيد البداهة على أنّ الكتابة، وبالأخص الأدبية منها هي فن وبالتالي فكاتبوها فنانون] لكن ربما لا نعثر على الفنان دائماً في إهاب الكاتب العادي أو في غالبية ما يكتب، لكننا سنحصل عليه بالضرورة في إهاب الكاتب الساخر. فالسخرية فن قائم بذاته ولا يأتيه إلا فنان(أرجو ألا أقع في الالتباس وأنا أشرح بتبسيط هذه الجزئية، وأرجو أن أكون نجحت في إبانة قصدي). محمد مستجاب كتبَ درّة أعماله هو أيضاً في بداياته: رواية quot;مِن التاريخ السري لنعمان عبد الحافظquot; [تماماً مثل إميل حبيبي الذي جاءت روايته المتشائل ثانيَ عملٍ له بعد السداسية] وعلى ما يبدو، وليس ذلك بالضرورة، فإنّ الأدباء الساخرين يكونون أسرى بداياتهم، يطوّرونها ويرتقون بها أو يجترّونها ولا يستطيعون تجاوزها. بمعنى أنّ بذورهم اللاحقة تكمن هناك دائماً: في تربة البدايات. محمد مستجاب كتبَ بعد تلك الرواية الفاتنة، تكنيكاً ومضموناً، مجموعةَ قصصٍ بعنوانquot;ديروط الشريفquot;، ثم توالت أعماله، ما بين قصص قصيرة ومقالات أدبية، فكان له في القصة أربع مجموعات هي quot;القصص الأخرىquot; وquot;قصص قصيرة حمقاءquot; ثم quot;قيام وانهيار آل مستجابquot; وأخيراً: quot;كلب آل مستجابquot;. أما في المقالات فكتبَ كتابه quot; حرق الدمquot; في جزأين، وكذلك فعلَ في كتابهquot;بوابة جبر الخاطرquot;. كما كتبَ أربعة كتبٍ هي عبارة عن تجميع مقالات ساخرة، وهي: quot;زهر الفولquot; وquot;الحزن يميل للمازحةquot; وquot;ريش الغرابquot; وآخرها quot;أبو رجْل مسلوخةquot;.
بقيت كلمة أخيرة مِن قبيل تحصيل الحاصل: يبدو لي أن الكتابة الساخرة تحتاج إلى موهبتيْن لا موهبة واحدة: موهبة السخرية وموهبة الكتابة. فلا تكفي موهبة الكتابة وحدها هنا. لذلك، وكما قلنا في بداية هذا المقال، فليس من الصدفة، أن يكون الأدباء الساخرون، بغضّ النظر عمّا إذا كانت سخريتهم هذه بيضاء أو سوداء، نادرينَ وقلّة على مدار التاريخ. فتحية لذكرى هؤلاء الساخرين العرب الكبار. تحية لذكرى إميل حبيبي quot;الباقي في حيفاquot;، ولذكرى محمد مستجاب الباقي في ضميرنا، أما إبراهيم أصلان فله العمر الطويل ومواصلة الإبداع الإنساني.. الإنساني جداً.