الإسرائيليون الرسميون لا يمزحون. ربما يمزح مواطنهم العادي، أما هم فلا. فلديهم من قصر النظر وفقه المصالح وتبلّد الضمير، ما يمنعهم عن المزاح. لذا حين هدّد متان فلنائي بتحويل غزة إلى هولوكوست، نظرتُ إلى الحائط، وانتظرتُ الأسوأ.
ولم يطل الانتظار، فالجماعة جاهزون، والقرار قد أُتخذ : تنفيذ هولوكوست صغيرة أو كبيرة، حسب الظرف الإقليمي والدولي، وبأسرع وقت قبل أن يستيقظ النائمون.
وليس هذا ما أدهشني، فما أكثر ما جرّبنا، من محارق على جلودنا، عبر ستة عقود هي عمر الصراع . ولكن ما أدهشني، هو أن يستخدم الإسرائيليون أنفسهم هذا المصطلح ويتداولونه في وسائل الإعلام. وهو المصطلح المُحرّم على أيٍّ كان استخدامه في مجال عقد مقارنة بين محارق النازي الألماني وما تقترفه دولة الاحتلال.
يأتي نائب وزير الحرب الإسرائيلي أخيراً ويبق البحصة. هولوكوست، نعم هولوكوست وسنصنعها في غزة!
إنها درجة غريبة من الوقاحة، لم تعلنها إسرائيل الرسمية من قبل. فهذه هي المرة الأولى، حسب علمي، التي يعلن فيها مسئول إسرائيلي، توصيفاً من هذا النوع الرهيب، لما ينوي فعله هنا في غزة العزلاء. قبل هذا التاريخ، كان كل من يُشبّه ما ترتكبه دولة المحتل من جرائم ضد الإنسانية بالمحرقة النازية، تقوم عليه الدنيا ولا تقعد، ويُنبذ كالبعير الأجرب.
فما الذي حدث ؟ ولماذا كسرت إسرائيل أحد تابواتها ؟ ليس لديّ من جواب، غير هواننا كعرب وتفرّقنا شذراً مذراً. وغير هشاشة وضعنا الداخلي كفلسطينيين.
ومع أنّ دولة الاحتلال ليست بحاجة إلى ذرائع أصلاً، لتفعل ما تريد، إلا أنها ترحب بالذرائع إن وُجدت. وفي الحالة الفلسطينية ثمة الكثير من الذرائع. ليس أولها انقسام البيت الفلسطيني، ولا آخرها عبثية إطلاق [ المواسير ] المسماة، مجازاً، صواريخ.
نحن نعتقد أنّ إسرائيل لا تحتاج إلى ذرائع. ومع هذا نتمنى على قوانا السياسية ألا توفّرها لها. رغم معرفتنا بأنها مجرد أمانٍ تذروها الريح.
قبل أعوام قليلة، زار وفد من أعضاء البرلمان الدولي للكُتاب غزة والضفة. وفي غزة أعاد خوسيه سراماغو، البرتغالي الحاصل على نوبل للآداب، ما قاله هناك في رام الله : إنّ الاحتلال الإسرائيلي يقوم في الأراضي المحتلة بما قام به النازي الألماني، أي بهولوكوست ضد الفلسطينيين. وحينها قامت قيامة الرسمي الإسرائيلي ومعه وسائل الإعلام أيضاً.
سراماغو ما لم يتراجع، وقد كنت حاضراً، حين سألوه في هذا الموضوع الحساس، فما كان منه إلا أنّ ردّ بمزيد من الصرامة والسخرية.
جيد! فها هو متان فلنائي، يؤكد على صدقية أقوال سراماغو، فقط بعد ثلاث سنوات مِن تصريح الأخير.
إنها المحرقة إذاً. لا نقولها نحن، بوصفنا ضحايا، بل يقولها فلنائي، بوصفه جلاداً. فقد حُلّت أخيراً مشكلة التوصيف أو المصطلح، بكل ما يحمله هذا من محمولات رمزية وفجائعية في الضمير الأوروبي والإسرائيلي، ومن ثم الكوني.
وعليه، فننتظر منذ اليوم، ألا يثير غضاضة، أن يستخدم مثقفٌ عربي أو كوني، هذا المصطلح، ليصف وقائع الحال في دولة الاحتلال.
أما غزة، غزة المتروكة لمصيرها وقدرها، فلا عزاء لها بعد هذا اليوم أيضاً. وعليها أن تتوقع الأسوأ دائماً. فما من عرب ولا غير عرب، بقادرين على نجدتها من هذه المحرقة. وما لم يلتئم الجرح الداخلي النازف، وما لم يتوحد الفرقاء والأخوة الأعداء، فسنرى المزيد من هذه المحارق. محارق تبدأ صغيرة، ثم ككرة الثلج، تتدحرج وتكبر.
إنّ الردّ الوحيد على هذه المحرقة التي تسيل دماؤها الآن، هو أن يتوحد الفلسطينيون. وإذا كانت السياسة قد فرّقتهم من قبل، فإنّ الدم الطاهر، دم الأبرياء من أطفال ونساء، أولى أن يوحّدهم الآن الآن وليس غداً.
هذه هي خلاصة الموضوع. وهذه هي المصلحة العليا للشعب الفلسطيني. بعيداً عن الشعارات والمهاترات، فهل نرجع إلى رشدنا، ونعود إلى ثوابتنا أخيراً ؟

العقل متشائم لكن الإرادة تستطيع.