لن تكون ثمة هدنة ولا تهدئة، كما يأمل المواطن الغزيّ، ويتحرّق لذلك. فحصار الموت البطيء، من وجهة نظر إسرائيل، بدأَ يُؤتي أُكُله. وهذا يعني لإسرائيل، بداية هزيمة حماس. لذا، على الأغلب، لن يجد عمر سليمان، في حال لم تتأجّل زيارته للقدس للمرة الثانية، وتمّت، ما يريد سماعه من أقطاب الحكومة الإسرائيلية. وأقصى ما هنالك، أن يواصل أولمرت المراوغة والتلكّؤ، في انتظار حدوث شيء ما داخل غزة، أو في الإقليم، يصبّ في صالحه. كل هذا سياسياً معلوم ومفهوم، إذا نظرنا للسياسة وللسياسيين بوصفهم أصحاب [الأيدي القذرة] بالتعبير السارتري. لكن كل هذا أخلاقياً وإنسانياً، هو أمر سوريالي أسود، ومُدان قبل وبعد كل شيء. فمن يدفع ثمن هذا الحصار المجرم، هم في أول الأمر ومُنتهاه، الناس العاديون. المواطنُ الغزيّ البسيط. فحياة هذا المواطن، إنقلبت بفعل الحصار المُتدرّج، إلى [مقلاة] يُقلى فيها كل صباح. فهو يفتح عينه فلا يجد ماء في الصنبور، ولا غازاً في إنبوبة الغاز، ولا كهرباء في أسلاك الكهرباء. فإن نزل إلى السوق، فنصف السلع مفقودة، والنصف الموجود، أسعاره خيالية. وهكذا دواليك : الدواء بشقّ الأنفس، والمواصلات بشق الأنفس، باختصار: حياة معطّلة وتفاصيل يومية لم يعهدها منذ زمن النكبة. حتى أصبح العيش عذاباً حقيقياً، وعبئاً لحظياً، يتمنّى المرء لو يهرب منه للعدم وينساه، وحتى شاعت مفردة [الإفراج] بدل مفردة [الوفاة] ففلان حين يموت لا يُقال عنه أنه توفّي، بل يقال [أخذَ إفراج] كما لو أنه كان في سجن وأُفرج عنه. إنها لغة quot;المجازquot; وما أفدح المجاز حين ينقلب إلى واقع! لقد شاعت هذه المفردة على مستوى الشارع في قطاع غزة. حيث تحوّلت الحياة إلى سجن أسوأ من كل السجون، كما خبرها وعرفها البشر في العصر الحديث. سجن بلا أيما حقوق للمساجين. وكل الحق فيه للسجّان فقط. أقول قولي هذا، وفي ذاكرتي ترنّ جُملة مريعة، قالها إيهود أولمرت قبل فترة قصيرة، ومرّت مرور الكرام. قال : [لا يحق لأحد أن يعظ دولة إسرائيل أخلاقياً]. فإسرائيل، حرّة، ومن حقها أن تفعل ما تشاء وكيفما تشاء، حتى لو وصلَ الأمر إلى تجويع مليون ونصف المليون من البشر. والتنغيص عليهم، بحيث يحسدون الميت على راحته من عبء الحياة الباهظ. فماذا يُسمّى هذا إلا أنه [معسكر اعتقال نازي]؟ لقد صار قطاع غزة كله معسكرَ اعتقالٍ نازياً، كما هي الوقائع في الميدان. ومع هذا، لا أحد يحرّك ساكناً. ولا أحد يتكّلم. فحصار غزة مطلوبٌ أن يكون مجرّد خبرٍ من الأخبار. وقد نجحت إسرائيل في جعله كذلك. نجحت في تمرير جريمة الحرب هذه، إعلامياً، حتى على شعوبنا العربية. فما دامت الغاية هي إسقاط حماس، فكل الوسائل مشروعة ومبررة. ليس فقط من وجهة نظر إسرائيل وأمريكا، وإنما من وجهة نظر أوروبا ومعظم العرب كذلك. طيب وماذا بعد؟ هل سيستمّر الحصار حتى تركع حماس؟ كل من يعرف طبيعة الأحزاب الأصولية، يعرف أنها من الصعب أن تستسلم. لذلك، سيستمّر مسلسل تعذيب الناس العاديين، إلى أن يتحوّل معظمهم إلى جثث تمشي على الأرض، فهل هذا هو المكسب الذي تتشهّاه إسرائيل؟ لا أعرف. كل ما أعرفه أنّ الأمور وصلت إلى ذروتها. وأنّ هؤلاء المعذّبين، إن لم يكن اليوم فغداً، لن يكون أمامهم إلا أن يردّوا على التطرّف الإسرائيلي بتطرّف مقابل : يزدادوا أصولية كلما ضاق عليهم الخناق. ففي لحظة انعدام الحلول هذه، وانسداد الأفق، لن يكون في مكنتهم غير هذا الحلّ : quot; التطرف الأصولي quot; بلغة ساسة إسرائيل. إنهم في quot; ضائقة quot; وليس أمامهم من مهرب إلا باللجوء إلى الدين. وهو أمر بدأنا نراه ونلمسه يومياً. فمع تلاشي الآمال في حل سياسي معقول، ثمة فقط الدين والتديّن. إنّ المجتمع الغزيّ يزداد محافظة يوماً بعد يوم. وليس هذا بتأثير حماس، إلا إذا نظرنا إلى الأمور من السطح، وإنما هو، في المقام الأول، وعمقياً، بتأثير الحصار الفادح. فهل هذا هو ما ترغب فيه إسرائيل؟ من ناحيتي أرى أنْ نعم. إسرائيل ترغب وتعمل لكي يزداد المجتمع الفلسطيني في غزة محافظةً، بل أصوليةً وتطرفاً. إنها صاحبة مصلحة في ذلك، على المدى القصير والمتوسط بل وربما البعيد أيضاً. فمواجهة عدو محافظ وأصولي أسهل عليها من مواجهة عدو متفتّح ومتنوّر. لذلك هي تتمادى في تضييق الخناق على الفلسطينيين كل يوم. إنه غباء القوة العمياء، وعماء الحسابات السياسية قصيرة النظر. وعلى كلٍّ، ففي جميع الأحوال نحن الخاسرون. ونحن من يدفع الثمن مضاعفاً آلاف المرات. هذا من ناحية إسرائيل، فماذا من ناحيتنا؟ لن نضع كل الحق على إسرائيل، فثمة حق علينا ويتوّجب دفعه. ثمة حلّ أو حلول مؤجلة ولا بد من اجتراحها. العودة عن نتائج الانقلاب العسكري، ومدّ اليد للحوار. سيقول قائل أن الأوان قد فات. فثمة مشروعان وثمة معسكران في الساحة : معسكر أمريكا ومعسكر إيران. ومن المستحيل جسر الهوّة بين الطرفيْن. سنردّ بأنّ هذا التحليل، على وجاهته، ليس نهاية العالم. وبالإمكان اجتراح الحلول، مادامت المصلحة العليا للشعب الفلسطيني تُحتّم ذلك. وما دام كلا الطرفين يخسران. ثمة حلّ مهما بدا صعباً. إجلسوا وتفاوضوا فكل شيء يُحلّ بالحوار. وكلاكما مسئول أمام شعبه إذا تقاعستم. لا يبدو هذا الكلام واقعياً ولا يمتّ للعقل السياسي بصلة؟ فليكن! فلتذهب السياسة إلى الجحيم إذا كان معناها الآن هو تكريس الانفصال بين شقّي الوطن. فلتذهب إلى الجحيم إذا كان معناها الآن تعذيب هذا الشعب، وتركه لمصيره الأسود : مصير الموت والتجويع والإهانات اليومية والبهدلة. فالسياسة كما نفهمها، هي فن إيجاد الحلول، والتخفيف عن المواطن وتسيير شئونه اليومية بأكبر قدر ممكن من الراحة. لا تأبيده في المشاكل والمنغّصات، ثم البحث عن تسويغ ديني وعن علاّقة خارجية وتحميلها النتيجة. إنّ المواطن الغزيّ فقد ثقته بالجميع، ولم يعد يعنيه الآن وفي هذه الأيام الكئيبة سوى همّ توفير أنبوبة الغاز وهمّ الحصول على اللقمة والكسوة. تراجعت الأحلام الكبرى، وغاص في وحل تفاصيل الواقع. إلى درجة أنّ الذكرى الستين للنكبة مرّت، فلم يلتفت إليها. فهو الآن في نكبات صغيرة يومية توالدت وتكاثرت حتى اتسع الخرق على الراتق. فإذا كانت إسرائيل لا تريد رفع الحصار، بسببٍ من حساباتها الخاصة، فما هي حساباتكم أنتم لكي لا تجلسوا وتتحاوروا؟ حقاً، لقد أصبح المشهد سوريالياً، يتأبّى على الفهم والمنطق البسيط. إنّ شعبكم يُقاسي ويتألّم كما لم يُقاس ويتألّم من قبل، فهل آن لكم أن ترتفعوا إلى مستوى هذه الآلام أخيراً؟ لقد بلغ سيل الحصار الزبى. ولم يعد في المقدور المواصلة والمجالدة. فماذا تنتظرون بعد؟ إننا نعيش في زيت المقلاة، وإننا نموت ببطء، فمن يلتقط هذه الصرخة، ومن يعدنا بأنها لن تكون كسابقاتها، صرخة في البرية، أو صرخة في مهبّ الريح!