تحلّ هذه الأيام الذكرى الستون لضياع فلسطين وتشريد شعبها. وحتماً سيسيل حبرٌ غزير بهذه المناسبة. فحدث استثنائي وفارِق من هذا النوع، يظلّ أكبر بكثير مما يُكتب عنه. فلأول مرة في القرن العشرين، وبعد أفول الاستعمار الكولونيالي ودخوله في بداية النهاية، يُسرق وطن من أصحابه ومالكيه الحقيقيين، لِيُعطى هبةً لجماعة قومية غريبة. فقط لأنّ هذه الجماعة، أُضطهدت في أوروبا النازية، فكان أن رأت أوروبا منحَها فلسطين، تكفيراً عن جرائمها بحق هذه الجماعة. وإذا كنا لا نُشكّك بالطبع وليس في واردنا الأخلاقي أن نشكك بمدى وبحجم التراجيديا اليهودية على أيدي النازيين، فإنّ من حقنا، الذي لا يُماري فيه كائنٌ مَن كان، أن نقف عند هذه الحقيقة، وأن نعاود تذكير الغرب بها، وفوق ذلك أن نتأمّلها كمفارقة كبرى في التاريخ. فأوروبا والغرب عموماً، هم السبب المباشر والحقيقي، في كل ما نعانيه ونقاسيه كفلسطينيين، منذ قرن من الزمان وإلى ما لا يدري أحد. إنهم أصحاب المسئولية الأولى، تاريخياً وأخلاقياً وسياسياً، عن هذه المأساة، فهم صُنّاعها، وهم، بالتالي وبالضرورة، المسئولون عن إيجاد حل معقول [نقول معقول لا عادل] لها. وإذا كانت إسرائيل تتكّلم وتتصرّف، منذ قيامها ولغاية الآن، بمنطق quot; حق القوّة quot;، فنحن كنا وما زلنا وسنظلّ نتكلّم ونتصرّف بمنطق quot; قوّة الحقّ quot;، حتى لو كنا وما زلنا ضعافاً، لا تسمعنا آذانُ الأقوياء. فقوة الحق، تظلّ قوة الحق، مهما تقادم عليها الزمن. ولن يطمسها وعدُ وزير خارجيةٍ اسكُتلندي لإمبراطورية إنكلترا العظمى. فبلفور هذا ليس قدرنا ولا إلهنا. ومَن جاءوا بعد بلفور، مِن تشرشل حتى بوش الصغير، ليسوا هم أيضاً قدرنا ولا آلهتنا. قبل ستين عاماً أُرتُكبت الجريمة الأعظم. مُحيَ إسمُ فلسطين عن الخارطة واستُبدل باسم إسرائيل. ولم يقف الحدّ عند لعبة تبديل الأسماء بالطبع، وإنما استتبعَ محوُ الاسم من الأطلس، تغييبَ السكان الأصليين للبلاد، وكأنهم غير موجودين، فإن وُجدوا، فهم، في الوعي الصهيوني والغربي آنذاك [غير مرئيين] البتة. جيد. حين أقرأ الآن بعض ما كتبه المؤرخون والكتّاب الإسرائيليون عن تلك الحقبة، أشعر ببعض الأمل. فنحن الفلسطينيين كنا في مرحلة ما قبل وما بعد 1948، غير مرئيين من قبل الصهاينة الأوائل. ثم صرنا بعدها بقليل، سكاناً فائضين عن الحاجة، وبعد حرب الأيام الستة، صرنا في نظرهم أشباحاً ضروريين [رغم كونهم أشباحاً] للعمل الأسود في بناء وتطوير quot; الدولة quot;. إلى أن جاءت الانتفاضةُ الأولى، فأصبحنا مرئيين وأصبحنا همّاً مقيماً، وهكذا، إستمرّ صراعُ الصيرورة، لنتحوّلَ الآن، بفعل كل ما أعقب الانتفاضة تلك، من مفاوضاتٍ وسلامٍ مقتول ثم انتفاضة ثانية كبرى، إلى أعداء. يا له من صراعٍ قمين ببعث الأمل صراعُ الصيرورة هذا! لكأنه صراعٌ فلسفيّ في المحلّ الأول، قبل أن يكون صراعاً سياسياً في المحلّ الثاني! ومع ذلك، فلا بأس. ها نحن موجودون، شاءت إسرائيل أم أبت. 5 مليون فلسطيني مقابل 5 مليون يهودي. وها نحن ملكنا جدارةَ أن نكون quot; أعداء quot; لهم. إنتقلنا في مراتب الخلْق الصهيوني، من مرتبة غير المرئيين إلى مرتبة الفائضين عن الحاجة، ومنها إلى مرتبة الأشباح المزعجين، لنصل أخيراً إلى مرتبة الخلق الكبرى : مرتبة الأعداء. فالحمد لله الذي لا يُحمد على ضياع وطن سواه. نعود إلى أوروبا، بريطانيا وفرنسا بالأخصّ، لنذكّرهما بما كان لهما من quot; أياد سوداء quot; في مأساتنا النازفة. وعليه، لن نغفر لهما وللإتحاد الأوروبي وأمريكا بالطبع، نفاقهم وتواطؤهم وتقاعسهم عن إيجاد حلّ [معقول لا عادل، مرة أخرى] فعليهم هم يقع وزر دعم إسرائيل وعدم كبح جماحها. وعليهم بالتالي، يقع وزر قتلنا وتشريدنا في أربعة أركان العالم. إننا نموت بالسلاح الغربي وبالمال الغربي، فكيف لشعبنا في أربعة أركان الريح أن ينسى ذلك؟ إنني أتكلّم باللسان الأخلاقي، وهو أبقى على الدهر من اللسان السياسي إذا شئتم. فإذا كنتم لا تعيرون هذا اللسان انتباهاً، فنحن وغيرنا من أصحاب الضمائر الحية في مختلف بلدان المعمورة [وهم ليسوا quot; قلّة quot; على أيّ حال، بمن فيهم بعضُ الإسرائيليين] نعيره أقوى الانتباه. ثمة جريمة تاريخية حدثت وأنتم المسئولون عنها. وهذه الجريمة لم تفتأ تتفاقم وتتراكم، وكل صباح جديد، يدفع الفلسطينيون أثمناها. فإلى متى؟ خذوا جريمة الحصار على غزة. خذوا جريمة بناء جدار الفصل العنصري ومحاسيم الإذلال في الضفة. خذوا جريمة تقتيلنا اليومي، كل جريمة من هذه الجرائم هي جريمة حرب حسب القانون الدولي. إنها جرائم متوالدة من رحم الجريمة الأعظم ألا وهي جريمة إلغاء وطن، واستبداله بوطن آخر لجماعة أخرى. حللتم مشكلة وخلقتم مشكلة أكبر في ذات اللحظة. حللتم مشكلة على حساب شعب آخر، كان ريفياً، ضعيفاً ومتخلّفاً، فاستغللتم أوضاعه. لكن نسيتم مكر التاريخ وصيرورة التاريخ. فكل شيء في هذا العالم يتغيّر، والتغيّر هو ثابتُ التاريخ البشري الوحيد، كما لا ريب تعرفون. إننا اليوم، غير ما كنّاه أمس وأول من أمس. وعينا بأنفسنا وبالعالم ازداد بما لا يُقاس. أصغر طفل روضة لدينا يسأل ويعرف ويُعرّف بتاريخ ودقائق المأساة. لذا لن تجدوا بيننا، بعد اليوم، مَن هو قابلٌ للنسيان. من هو قابلٌ للهزيمة الروحية. من هو قابلٌ للخيانة. إسرائيل ذات أنياب نووية، فليكن. لكننا أصحاب حق. وكل هذا التنكيل السادي بنا، يجعلنا نتمسك أكثر فأكثر بثوابتنا وبحقوقنا. ليس هذا كلامٌ من قبيل الإنشاء والخطابة. بل هذا كلام سُددتْ فواتيره من دمنا وأرواحنا وممتلكاتنا، على مدار ستين عاماً، وبالأخصّ زمنياً منذ تدشين الانتفاضة الأولى وإلى هذه اللحظة. فإذا كانت منظمة التحرير بنهجها العلماني quot; المعتدل quot; لم تعجبكم، بدليل أنكم لم تعطوها شيئاً يُبيّضُ وجهها أمام شعبها في الوطن والمنفى، فهاكم حماس وتخلّصوا معها. المهمّ نريد حقنا في الحرية والاستقلال والعدالة، ولا يعنينا مَن منا يأتينا به. المهم أن يتحقق هذا الحق، فإذا لم تعجبكم أيضاً حماس، فلن يطول الزمن حتى يتسيّد ساحتنا مَن هم على يمين حماس بمسافة لا يعلم طولها أحد. ومهما ترتّب على ذلك من إضافة فصول جديدة لكتاب المأساة، فإننا في العموم والخصوص لن نخسر أكثر مما خسرنا. ففي الحقيقة والواقع لم يبق لدينا شيء نخسره إلا الأرض التي نقف عليها الآن. هذا أقصى وأقسى الاحتمالات : التهجير القسري الكامل. أما ما دون ذلك فقد حوّلتنا إسرائيل إلى بشر أدنى حقوقاً من كل البشر الآخرين. وأظنّ أنّ خيار التهجير أو الترانسفير الجماعي أصبح، لألف سبب وسبب، خارج التاريخ. لهذا ليس لدينا جدياً ما نخسره، فحتى في ما تبقّى لنا من أرض فلسطين الانتدابية (وهو أقل من 22 % من مساحتها الكلية) ها هي ذي إسرائيل تملأه بالمستوطنات وبعتاة الصهاينة، فماذا سنخسر أكثر مما خسرنا. لقد جرّبت فينا إسرائيل جميعَ ما في جراب الحاوي من ألاعيب وأعاجيب وغرابيب. فهل انتهينا؟ وهل يمكن أن ينتهي شعب ويزول؟ نعم هذا حدثَ قديماً في أمريكا ونيوزيلندا واستراليا، بيد أنه الآن صار شيئاً من الماضي ووراء ظهورنا. فهل يفهم الغرب، سيد هذا العالم، فيُفهم ربيبته إسرائيل؟ هو يفهم ولكن مصالحه تمنعه. وإسرائيل كذلك تفهم لكن مصالحها الإستراتيجية تمنعها. أما نحن فلنا فضيلة الثبات على حقنا حتى لو ضحك الأقوياء من منطقنا هذا واستهانوا ربما من quot; سذاجته quot;.. سذاجته النقية كما الينبوع على أي حال وفي كل حال!