أن تقرأ عن المنبوذين، هذا شيء. وأن تستيقظ ذات يوم، فإذا بك واحدٌ منهم، فهذا شيءٌ آخَر مختلف تماماً. لم أشعر بمعنى هذه الكلمة، ولم أُحسّ بوطأتها الخانقة، على كثرة ما قرأت عنها في الأدب والتاريخ، إلا منذ شهور قليلة فقط. أي منذ بدأت الأوضاع تتفاقم في قطاع غزة، ومنذ أعلن العالمُ كله، عرباً وأجانب، محاصرتهم ونسيانهم لنا، نحن المليون ونصف المليون من البشر، القاطنين في هذه الرقعة الصغيرة من أرض المأساة.
إننا منبوذون، بالمعنيين القديم و الحديث للكلمة. بالمعنى القديم : حيث quot; أُفردنا إفرادَ البعير الأجربquot; كما تقول العرب. وبالمعنى الحديث : حيث حاصرَنا وقاطعنا العالمُ كل العالم : فغير مسموح لنا بالحركة إلا داخل أزقّة وزواريب غزة. أما خارجها، حيث الأفق الواسع والهواء الطلق، فممنوع ومرفوض. لا سفر ولو كنت مريضاً وبحاجة ماسة للعلاج. فما بالك بسفر الطالب الجامعي أو رجل الأعمال أو العروس لعريسها أو الشاعر لحضور مهرجان.. إلخ؟
دول الإتحاد الأوروبي امتنعت منذ شهور عن منح أهالي القطاع تأشيرة دخول إلى أراضيها. ومصر والإمارات العربية سبقتاها. ولا نعرف مَن أيضاً من بلاد العرب. أما أمريكا وكندا، فقد سبقتا الجميع. وهكذا بحجة [عدم استقبال ناس من quot; مناطق ساخنة quot;] ضاع أهالي القطاع، وطويت صفحتهم، ووُضع quot; مستقبل أبنائهم quot; على الرفّ.
المؤلم في عالمٍ لم يعد يكترث بالألم البشري منذ أحقاب، أنّ هؤلاء المليون ونصف المليون من الفلسطينيين العاديين، يُعاقبون كما لو كانوا كلهم من quot; حماس quot;. وكما لو كانت حماس جاءت إليهم على ظهر دبابة، وليس عن طريق انتخابات نزيهة [مهما كان موقفنا الأيديولوجي والسياسي من هذه الحركة]
يُعاملون ككتلة واحدة لا مكان للتمايز فيها. فماذا يكون هذا إنْ لم يكن ضرباً من quot; العنصرية الجديدة quot; و quot; الفاشية الجديدة quot;، بالمعنى الفلسفي القديم للمفردتيْن؟
نعم : إنها العنصرية، ولا نطلق التوصيفات جُزافاً. تُعاملنا معظم دول العالم الآن من منطلق عنصري. ولا أحد يقول لي : من منطلق سياسي. ففي عالم السياسة ثمة درجات وتمايزات واختلافات. ولا يجوز لك نسيان كل هذا حين تتخذ القرار. أما إذا نسيت أو تناسيت، أما إذا تواطأتَ أو تغاضيت، فعاقبت شعباً بأكمله، فأنت عنصري أو أقرب إلى العنصري، حتى لو فزعتَ من هذه الكلمة المذمومة والكريهة.
حقيقة لا نعتب على العرب. فهم مسلوبو الإرادة، عاجزون، ولا فائدة تُرجى منهم. لكننا نعتب على دول الإتحاد الأوروبي بالأساس. هذا الإتحاد الذي تربطه بنا أحداث ومصالح، والذي ساهمت دولٌ كبرى فيه بقسط وافر من مأساتنا. كيف له أن يمنع عنا تأشيرات الدخول، فيساهم في محاصرتنا، كما لو كان، بل هو فعلاً يعاقبنا العقابَ الجماعي؟
نعتب بل نغضب على دول هذا الاتحاد. وعلى قرارهم الجائر _ غير المعلن _ باعتبار غزة منطقة منبوذة، في حين كان الأولى بهم اعتبارها منطقة منكوبة بخارجها الإسرائيلي وببعض داخلها، كما هو واقع الحال والمآل.
نعتب بل نغضب على دول هذا الاتحاد، وبالذات على دول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وأسبانيا وإيطاليا. هذه الدول الكبرى اقتصادياً، ومن قبل ومن بعد ثقافياً وحضارياً. كيف لها أن تتخذ بحقنا هذا الموقف اللا مفهوم واللا منطقي واللا إنساني قبل كل شيء؟
مليون ونصف المليون محرومون من السفر. ولا أريد أن أتكلّم عن الأنواع الأخرى من الحرمان، كي لا نرهق القارئ. مليون ونصف المليون محرومون من الخروج من غزة التي هي، فعلاً ومجازاً، في ضيق زنزانة.
إنه قرار استعلائي إقصائي، قرار تمييز واضطهاد، لم نكن نظن أنّ أوروبا المتحضّرة، حقوقياً على الأقل، يمكن أن تجرؤ عليه. قرار يمنع عنا حقاً أساسياً من حقوق الإنسان وهو حرية التنقل والحركة. فهل أصبحت أوروبا مثل إسرائيل، ضالعة في العقاب الجماعي، ولا يهمّها مأساة ومعاناة البشر الأبرياء؟
أكتب هذه الكلمات، وأنا عائد لتوّي من معبر رفح الحدودي، بعد جولة مبهظة طوال النهار، رأيت خلالها أكثر من ستين عائلة فلسطينية [تُخيّم ] في الأرض العراء بين مصر وغزة. ستون عائلة بنسائها وأطفالها وشيوخها، أبوا إلا أن يسافروا، مهما تقطّعت بهم السبل، ومهما طال الانتظار تحت قيظ الصيف وغباره. عوائل فقيرة ومريضة يؤتى لهم بالطعام والشراب من المحسنين فقط. هكذا وصلنا إلى قمة الهوان والامتهان. وصار حالنا أدهى وأمر من طبقة quot; الشودرا quot; أو quot; الداليت quot; في الهند وسريلانكا.
بل ثمة منا، وقد سُدّت في وجهه كل المنافذ فوق سطح الأرض، مَن فكّرَ ومن نفّذَ ولم يكتف بالتفكير، فخرج من غزة عن طريق quot; ثقوب الأرض quot; أي الأنفاق، مقابل بضع مئات من الدولارات يدفعها لصاحب النفق.
وحين أقول النفق، ربما لا يستطيع القارئ المحترم تخيّل معنى ومبنى هذه الكلمة. فأنفاقنا لا تشبه قليلاً أنفاق الآخرين. بل تشبه جحور الأفاعي على الأرجح. فهي سراديب جد ضيقة ومتعرجة، بارتفاع ستين سنتمتر وبعرض ستين أو أكثر قليلاً على عمق خمسة عشر متراً وأحياناً عشرين من سطح الأرض. باختصار : إنها قبور لا أنفاق. قبور جد طويلة، يبلغ طولها أحياناً أكثر من كيلو متر كامل. فهل تتخيّل كيف تُرسَلُ عروسٌ في العشرين من عمرها أو ما دون ذلك، إلى عريسها الفلسطيني على الجانب الآخر من رفح المصرية؟
أيّ رعب هو هذا! وأية بدايةٍ لحياةٍ مستقبلُها الرفاهُ والبنين!
لقد مات العشرات من الشبان وهم يحفرون الأنفاق أو يجتازونها. هالت عليهم طبقات الأرض، فكانت مثواهم الأخير. والبعض منهم سيبقى هناك إلى الأبد.
أعرف عشرات القصص من هذا النوع. بل وأعرف ما هو أرعب : بعض المرضى يفعلونها أيضاً! إنها أنفاق جديرة برجال المخدرات والهاربين من العادلة لا بطلاب أو عرائس أو مرضى غسيل كلى و سرطان.
وكل هذا ليش؟ ومن أجل إيش؟
ألا يكفي الغزواي ما يعانيه من تفشّي البطالة وجنون الأسعار وانقطاع الوقود والكهرباء وشحّ الأشياء، حتى يُمنع عليه السفر أيضاً وأيضاً؟
لن نطلب شيئاً من مصر. فقط نطلب الشفقة لا أكثر ولا أقل.
ولا نطلب شيئاً من دول الإتحاد الأوروبي. فقط نطلب الشفقة لا أكثر ولا أقل.
أما حماس وأما عباس، فلا نطلب منهم شيئاً كبيراً أيضاً. فقط نطلب الشفقة. فبعد ضياع مشروعنا الوطني، ومن قبله ومن بعده، نسيجنا الأخلاقي، نطلب منهم أن ينظروا إلينا، من منطلق إنساني لا غير. فنحن لم نعد مواطنين فلسطينيين، بل quot; شودرا quot; أو quot; داليت quot; : أي quot; منبوذون quot; بالمعنى الهندي للكلمة!