أمام ظاهرة رحيل الرموز، سواء في الأدب أو السياسة، يتجلّى العقل العربي في أجلى صوره: عقل لا يجيد غير الرثاء. والرثاء عنده لا يبتعد عن هذين القوسين: التقديس والتأليه. لاحظت ذلك بمناسبة رحيل درويش. فالشاعر الذي كان لكثيرين منا ملاحظات نقدية عليه، ما إن مات، حتى نسينا تلكم الملاحظات، فشرعنا مثل غيرنا في إهالة صفات العظمة عليه، وكأن نهايته هي نهاية الكون، وفجيعتنا برحيله لن تعوّضها الدنيا.
أعرف أنّ العقل الجمعي العربي يقدّس الموتى، بل ولديه افتتان خاص بهم، لكن هذا ليس موضوع مقالنا. بل موضوعه هو: وماذا عن عقلquot;المثقفquot; العربي؟ بما أنّ كل من كتبوا عن درويش، وهم مئات، يندرجون في هذه الخانة: خانة المثقفين. هل يختلف عقل هؤلاء عن العقل الجمعي لأمّتهم؟ لن أجيبكم بالطبع. بل أترك هذه المهمة للمتابع المحايد. لكنني أقول إن لم يتمتّع المثقف العربي بعقل نقدي، فما حاجتنا إليه؟ إن كان يرى إلى الأشياء، كما يرى إليها المواطن العادي، فما حاجتنا له؟
لقد ذُهلت حقاً، من مقدار الشتائم التي طالت شخصي المتواضع ، مباشرة ومواربة، وفي عديد المقالات، التي كتبها صحافيون وكتّاب وشعراء، بمناسبة مقالي الأخير عن درويش في موقع إيلاف. ناهيك عن الفعل الحقير المتمثّل بإرسال عشرات الرسائل لي عبر البريد الإلكتروني ، من أسماء مستعارة وأسماء لا أعرفها.
حين كتبنا عن درويش، كتبنا عن أشياء نعرفها حق المعرفة. وكان ولاؤنا للحقيقة، فوق ولائنا للأشخاص أياً كانوا. ولأنّ الرجل مات للتوّ، فقد آثرنا الحديث عن عموميات ، دون الدخول في تفاصيل الوقائع، مراعاة لجلال الموت، ولمشاعر الناس. على أن نؤجّل ذلك إلى وقت قادم، تبرد فيه المشاعر الجياشة، ويكون حينها بالإمكان أن نتحدث بالعقل البارد. فلدينا بعض القصص، وبعض المواقف، ولا بدّ من الخوض فيها، احتراماً للتاريخ، وعلى أمل ألاّ تتكرّر بعد ذلك.
لن أنزل، بالطبع، إلى حضيض من هاجموني، من فلسطينيين وعرب. لأنني لو فعلت ذلك،فأنا الخاسر لا بد. ثم إنّ أفضل طريقة للردّ على الشتائم، هي أن تتركها تتبخّر في الهواء. فليس من شيمة المثقف أن يكون ردّاحاً على الطريقة الشعبوية. لذلك سأتجاوز عن ذلك، آسِفاً لا أكثر، على بؤس هؤلاء الناس، متمنياً لهم أن يكونوا أفضل، أخلاقياً ومعرفياً، أمام أنفسهم أولاً وأخيراً، في قادم الأيام أو السنوات.
أما التهمة الطريفة التي تتطلّب مني رداً، فهي تهمةquot;الغيرة والحسد من محمود كشاعرquot;! مع أني لم أقترب من محمود شاعراً وإنما مثقفاً، وعلاقة هذا المثقف بصاحب السلطة. ومع أني، للتوضيح لا غير، لا أحب شعره منذ بدأت كتابة الشعر، قبل ثلاثة عقود، وحتى هذه اللحظة. وأظنّ أنّ جميع من يعرفوني يعرفون هذه الحقيقة التي جاهرت بها كلما اقتضى المقام. وليس في هذا انتقاصاً لشعرية محمود، حاشا.. ولكنها ذائقتي ومزاجي الشعرييْن. وهذا حقي: ألاّ أحب شعره. فالبعض منا يحب الكرز ويكره التفاح، والبعض بالعكس، فهل العيب في الفاكهتيْن أم في الناس؟ لا في هذه ولا في هؤلاء. إنها أمزجة، ومن العبث مناقشة المزاج. وعلى ذكر هذه المسألة، يُسعفني مثلٌ عبري في هذا الشأن، يقول المثل [ بين تاعم فريّح، إين ما لتفكيّح] أي بين الطعم والرائحة، لا يوجد مجال للجدل والمساءلة. وقد كان المرحوم درويش يعرف رأيي الشعري في شعره. لقد كنت آخذ عليه غنائيته ويقينه السيّالان دون إعمال للتأمل، ودون الذهاب إلى المناطق الخافتة، القصوى، المثقلة بالألم الوجودي للفرد البشري: المناطق المظللة بل المعتمة الجديرة حقاً بكدْح الشعر. كان عشرات الشعراء العرب سبقوه، في هذه المسألة الإستراتيجية، فحازوا على محبتي ومتابعتي واستقصاءاتي. ولا داعي لذكر الأسماء فالقارىء المعنيّ يعرفهم. أما هو، فقد انتبه متأخراً إلى ذلك، منذ ديوانه quot; ورد أقلquot; حتى أواخره، فاستدرك نفسه، وله كل الاحترام على هذا الصنيع. إنما بقي محمود هو محمود، حتى في مرحلته الأخيرة، أي في مرحلة نشر أعماله عن دار رياض الريس: محمود المتأرجح بين فيض المخيلة المجاني أحياناً وبين الصنعة الواضحة. وهنا، في هذه الجزئية تحديداً، أُحيل القارئ إلى قوله في أحد حواراته الأخيرة:quot; عندما أكتب أترك مطبخي الشعري مفتوحاًquot;. ويا ليته قال: مكشوفاً، لكان أقرب إلى الحقيقة!
ذهب محمود أكثر فأكثر إلى فن الصنعة. وللأسف، بقيت عُقد سجّادته بارزة على وجهها لا قفاها. وبقيَ يُقلّد نفسه، من ديوان إلى آخر. وهذا ما كان يوقفني أثناء القراءة، ويمنعني من الاستمتاع. فالعمل الفني، وفق الجميل يحيى حقي، كالسجادة الفارسية، لا يجوز أن تشعر بعُقدها وشراشيبها وأنت تلمس سطحها، ولا يجوز بالبداهة أن يشبه أعمالك السابقة.
محمود درويش صانع ، وصانع كبير. وليس من دون دلالة، أن يستشهد في أحد دواوينه الأخيرة بأبي تمام، صانع الشعر الأمهر، في كل تاريخ الشعر العربي. مع استدراك أنّ درويش صانع مكشوف في بعض أماكنه، كما قلنا سابقاً.
هذه واحدة، أما الثانية، فهي حكاية الغيرة والحسد. والحق أنني أضحك من هاتين المفردتين، فهما مفردتان لا مكان لهما في حياتي قولاً وسلوكاً. ومن تحصيل الحاصل القول بأنني لا أؤمن بهما. بل وأغضب من أي إنسان، فما بالك بالمثقف، إذا آمن بهما. هذا في العموم، أما في الخصوص: فماذا يربطني بمحمود لكي أغار منه؟ إنه ليس من آبائي الشعريين، لكي تنتابني عقدة quot; قتل الأبquot; في مرحلةٍ ما. فهو يكبرني بعقدين تقريباً. أي أنه ليس من جيلي، لكيما تكون بيننا حساسيات، مثلاً. كما أنني لم أتأثر به لا إيجابياً بمعنى النسج على منواله، ولا سلبياً بمعنى الاختلاف عنه عن قصدٍ والمجاهدة بأن تكون عوالمي لا تشبه عوالمه، ومفرداتي لا تشبه مفرداته. فالرجل، وكما قلت سابقاً، بعيد عن ذائقتي شعرياً ونفسياً، لذا حين صدر ديواني الأول، كان بريئاً تماماً من تأثيرات درويش. وقد أشار الناقد الفلسطيني عادل الأسطة شبه المختصّ بالكتابة عن درويش إلى ذلك، في حينه، معتبراً الديوان إضافة نوعية إلى مدونة الشعر الفلسطيني. وأنا أستميح القارئ عذراً لأني انسقت إلى هذا المقام الشخصي.
أما الثالثة فلا علاقة لها بالشعر وإنما بالموقف والحياة. فقد نقل المفكر العربي العفيف الأخضر، في مقال نشره في إيلاف، عن الأخ عبد الباري عطوان، قوله أنّ ياسر عرفات قطع جميع المخصصات عن درويش بسبب استقالته من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، احتجاجاً على اتفاقية أوسلو. وأنّ محموداً مرّ بفترة إفلاس مريعة منعته من الخروج من البيت، تفادياً للإحراج أمام الأصدقاء. وفي الحق، كنت قرأت المقال في القدس العربي ولم أستغرب. فعرفات ماهر، وله خبرة تاريخية هائلة في شراء ذمم المثقفين وفي ترويضهم وتقليم أظافرهم، كلما تطلّبت الحاجة. وليس هنا مجال سرد ما لدي من وقائع في هذا المجال ، تطال أسماء عربية وفلسطينية بارزة. لكنني شككت في الحكاية أيضاً. فلمحمود موقع خاص لدى عرفات. قلت: إن كانت هذه الرواية صحيحة، فهي كذلك لمدى زمني محدود بل لا يتعدّى شهوراً فقط. إذ عاد محمود بعدها من باريس إلى الوطن، عن طريق غزة، ومكث فيها عدة أيام ثم غادرها إلى رام الله ، بعد أن عادت المياه إلى مجاريها بينه وبين عرفات.
لكنْ وردني، من مصدر موثوق، أنّ زياد عبد الفتاح، رئيس quot;وكالة وفاquot; ووكيل وزارة الإعلام سابقاً، وصديق محمود درويش المقرب جداً، قال في ندوة بعد موت درويش، وتعقيباً على ما ورد في القدس العربي، أنّ هذه الرواية غير صحيحة على الإطلاق. وأنّ عرفات لم يقطع مخصصات درويش أبداً. ولدى الرجل وثائق تثبت ذلك. وهنا أنا أميل إلى تصديق كلام زياد. فالرجل مطّلع وقريب جدا من الاثنين: عرفات ودرويش.
مهما يكن: فالأرجح أن عرفات لم يقطع المال عن درويش، وإن كان قطعه فلفترة قصيرة. حيث عاد درويش من باريس إلى غزة وسُوّيت المسائل بينه وبين قائده العام، فكان أن ذهب إلى رام الله، ومن هناك أعاد مجلة الكرمل إلى الصدور، وأسّسَ مركز خليل السكاكيني الثقافي. وهما مؤسستان تابعتان له، كما يعرف الجميع.
أما الرابعة: فهي أننا لم نسمع ذات يوم عن درويش أنه توسّط لكي يوظف شاعراً مُحتاجاً في السلطة. هذا كلام كذب. وإلا فأين البرهان؟ أعرف كثيراً من الحكايات المؤلمة، عن شعراء ومثقفين فلسطينيين من جماعة تونس، كانوا يقفون بالمرصاد في وجه توظيف أي مبدع من الداخل في مؤسساتهم الثقافية الحكومية. لماذا؟ لكي يوظّفوا هم أزلامهم ومحاسيبهم، من جانب، ولكي يستمتعوا، من جانب آخر، باستمرار معاناة هؤلاء المبدعين الفقراء.
لا لم يوظف درويش أحداً ههنا يا عزيزي عبد الباري عطوان!
أما الملاحظة الخامسة: التي لا تحتاج إلى إعمال البصيرة، وإنما فقط إعمال البصر، فهي جنازة المرحوم بكل تفاصيلها. حين قلنا إنه كان رسمياً على نحوٍ ما، لم نفتئت عليه. بل استخدمنا في الجملة(ما) التقليليّة عن سابق قصد، بغية التخفيف من مدلول كلمة رسمي، مع أننا لم نلتزم بالحقيقة كاملة، فهو كان رسمياً، وآخر الأدلّة: جنازته. حيث مُنعَ مُحبوه وقرّاؤه الحقيقيون من توديعه، واقتصر الحفل على الرسميين فقط. وكم كان فيهم من وجوه كالحة لا يحبها أحد!
لقد تأثرت من منع إخوتنا العرب الفلسطينيين من الجليل والمثلث من تأدية واجبهم الأخير تجاه شاعرهم. وتأّثرت غاية التأّثر من كلمة أخيه لحظة التأبين. فكل فلسطيني شاهد هذه الكلمة على الفضائيات، يعرف جيداً الموقف الحقيقي لعائلة درويش. لقد سُرق محمود منهم. لم تحاول السلطة مجرد أن تطلب من حكومة إسرائيل دفن جثمان الشاعر قرب أهله. ونحن نعرف لماذا. فحسابات السلطة غير حسابات العائلة.
أما السادسة: فهي ما عنونّا به مقالنا ولم نتطرق له إلى هذه اللحظة: ألا وهو وجوب توفر العقل النقدي لدى المثقف العربي، لكي يستأهل هذه الصفة الجليلة والفارقة. فمثقف بعقل عاطفيّ، مثقف بعقل سنتمنتاليّ، مثقف بعقل مصرفيّ، مثقف بعقلٍ تلفيقيّ، مثقف بعقل قطيعيّ(من القطيع)، مثقف بعقل تجاريّ، مثقف بعقل مناطقيّ، مثقف بعقل قبائليّ، إلخ إلخ، فليس جديراً أبداً إلا بعقله: بهذا العقل. ولن يحوز أبداً صفة ومرتبة المثقف، بالمعنى الأوروبي للكلمة. ولماذا الأوروبي، ببساطة لأنّ هذه الكلمة ذات مصدر ومنشأ أوروبي بامتياز. فنحن لدينا كاتب البلاط وشاعر البلاط وخُذ من هذا المنوال، على مدار تاريخ المنطقة.
أخيراً لديّ سؤال: ألا يرى معي مَن كتبوا تأليهاً وتقديساً في درويش، أنهم بهذا الصنيع العربي البديع، إنما يهجون الرجل؟ فالمديح المبالغ فيه هو الوجه الآخر للهجاء: هو مقلوبُ الهجاء. فمتى سنغادر هذه المنطقة؟ ومتى سنخرج حقاً من جلودنا كعرب؟
درويش مات. وبقيت كتبه ودواوينه. أما الباقي الذي لا يموت فهو حُكم الزمن وميزان الزمن. وعلينا جميعاً، أن لا ننسى هذا القاضي الرهيب. فلا نجومية الإعلام باقية، ولا الاتكاء على وطن منزوف يبقى. فيوماً ما سيكون لنا وطن مثل الآخرين. وحينها علينا أن نخاف من ذهاب معظم ما كتبته أيدينا إلى خانة التأريخ!
لقد ذُهلت حقاً، من مقدار الشتائم التي طالت شخصي المتواضع ، مباشرة ومواربة، وفي عديد المقالات، التي كتبها صحافيون وكتّاب وشعراء، بمناسبة مقالي الأخير عن درويش في موقع إيلاف. ناهيك عن الفعل الحقير المتمثّل بإرسال عشرات الرسائل لي عبر البريد الإلكتروني ، من أسماء مستعارة وأسماء لا أعرفها.
حين كتبنا عن درويش، كتبنا عن أشياء نعرفها حق المعرفة. وكان ولاؤنا للحقيقة، فوق ولائنا للأشخاص أياً كانوا. ولأنّ الرجل مات للتوّ، فقد آثرنا الحديث عن عموميات ، دون الدخول في تفاصيل الوقائع، مراعاة لجلال الموت، ولمشاعر الناس. على أن نؤجّل ذلك إلى وقت قادم، تبرد فيه المشاعر الجياشة، ويكون حينها بالإمكان أن نتحدث بالعقل البارد. فلدينا بعض القصص، وبعض المواقف، ولا بدّ من الخوض فيها، احتراماً للتاريخ، وعلى أمل ألاّ تتكرّر بعد ذلك.
لن أنزل، بالطبع، إلى حضيض من هاجموني، من فلسطينيين وعرب. لأنني لو فعلت ذلك،فأنا الخاسر لا بد. ثم إنّ أفضل طريقة للردّ على الشتائم، هي أن تتركها تتبخّر في الهواء. فليس من شيمة المثقف أن يكون ردّاحاً على الطريقة الشعبوية. لذلك سأتجاوز عن ذلك، آسِفاً لا أكثر، على بؤس هؤلاء الناس، متمنياً لهم أن يكونوا أفضل، أخلاقياً ومعرفياً، أمام أنفسهم أولاً وأخيراً، في قادم الأيام أو السنوات.
أما التهمة الطريفة التي تتطلّب مني رداً، فهي تهمةquot;الغيرة والحسد من محمود كشاعرquot;! مع أني لم أقترب من محمود شاعراً وإنما مثقفاً، وعلاقة هذا المثقف بصاحب السلطة. ومع أني، للتوضيح لا غير، لا أحب شعره منذ بدأت كتابة الشعر، قبل ثلاثة عقود، وحتى هذه اللحظة. وأظنّ أنّ جميع من يعرفوني يعرفون هذه الحقيقة التي جاهرت بها كلما اقتضى المقام. وليس في هذا انتقاصاً لشعرية محمود، حاشا.. ولكنها ذائقتي ومزاجي الشعرييْن. وهذا حقي: ألاّ أحب شعره. فالبعض منا يحب الكرز ويكره التفاح، والبعض بالعكس، فهل العيب في الفاكهتيْن أم في الناس؟ لا في هذه ولا في هؤلاء. إنها أمزجة، ومن العبث مناقشة المزاج. وعلى ذكر هذه المسألة، يُسعفني مثلٌ عبري في هذا الشأن، يقول المثل [ بين تاعم فريّح، إين ما لتفكيّح] أي بين الطعم والرائحة، لا يوجد مجال للجدل والمساءلة. وقد كان المرحوم درويش يعرف رأيي الشعري في شعره. لقد كنت آخذ عليه غنائيته ويقينه السيّالان دون إعمال للتأمل، ودون الذهاب إلى المناطق الخافتة، القصوى، المثقلة بالألم الوجودي للفرد البشري: المناطق المظللة بل المعتمة الجديرة حقاً بكدْح الشعر. كان عشرات الشعراء العرب سبقوه، في هذه المسألة الإستراتيجية، فحازوا على محبتي ومتابعتي واستقصاءاتي. ولا داعي لذكر الأسماء فالقارىء المعنيّ يعرفهم. أما هو، فقد انتبه متأخراً إلى ذلك، منذ ديوانه quot; ورد أقلquot; حتى أواخره، فاستدرك نفسه، وله كل الاحترام على هذا الصنيع. إنما بقي محمود هو محمود، حتى في مرحلته الأخيرة، أي في مرحلة نشر أعماله عن دار رياض الريس: محمود المتأرجح بين فيض المخيلة المجاني أحياناً وبين الصنعة الواضحة. وهنا، في هذه الجزئية تحديداً، أُحيل القارئ إلى قوله في أحد حواراته الأخيرة:quot; عندما أكتب أترك مطبخي الشعري مفتوحاًquot;. ويا ليته قال: مكشوفاً، لكان أقرب إلى الحقيقة!
ذهب محمود أكثر فأكثر إلى فن الصنعة. وللأسف، بقيت عُقد سجّادته بارزة على وجهها لا قفاها. وبقيَ يُقلّد نفسه، من ديوان إلى آخر. وهذا ما كان يوقفني أثناء القراءة، ويمنعني من الاستمتاع. فالعمل الفني، وفق الجميل يحيى حقي، كالسجادة الفارسية، لا يجوز أن تشعر بعُقدها وشراشيبها وأنت تلمس سطحها، ولا يجوز بالبداهة أن يشبه أعمالك السابقة.
محمود درويش صانع ، وصانع كبير. وليس من دون دلالة، أن يستشهد في أحد دواوينه الأخيرة بأبي تمام، صانع الشعر الأمهر، في كل تاريخ الشعر العربي. مع استدراك أنّ درويش صانع مكشوف في بعض أماكنه، كما قلنا سابقاً.
هذه واحدة، أما الثانية، فهي حكاية الغيرة والحسد. والحق أنني أضحك من هاتين المفردتين، فهما مفردتان لا مكان لهما في حياتي قولاً وسلوكاً. ومن تحصيل الحاصل القول بأنني لا أؤمن بهما. بل وأغضب من أي إنسان، فما بالك بالمثقف، إذا آمن بهما. هذا في العموم، أما في الخصوص: فماذا يربطني بمحمود لكي أغار منه؟ إنه ليس من آبائي الشعريين، لكي تنتابني عقدة quot; قتل الأبquot; في مرحلةٍ ما. فهو يكبرني بعقدين تقريباً. أي أنه ليس من جيلي، لكيما تكون بيننا حساسيات، مثلاً. كما أنني لم أتأثر به لا إيجابياً بمعنى النسج على منواله، ولا سلبياً بمعنى الاختلاف عنه عن قصدٍ والمجاهدة بأن تكون عوالمي لا تشبه عوالمه، ومفرداتي لا تشبه مفرداته. فالرجل، وكما قلت سابقاً، بعيد عن ذائقتي شعرياً ونفسياً، لذا حين صدر ديواني الأول، كان بريئاً تماماً من تأثيرات درويش. وقد أشار الناقد الفلسطيني عادل الأسطة شبه المختصّ بالكتابة عن درويش إلى ذلك، في حينه، معتبراً الديوان إضافة نوعية إلى مدونة الشعر الفلسطيني. وأنا أستميح القارئ عذراً لأني انسقت إلى هذا المقام الشخصي.
أما الثالثة فلا علاقة لها بالشعر وإنما بالموقف والحياة. فقد نقل المفكر العربي العفيف الأخضر، في مقال نشره في إيلاف، عن الأخ عبد الباري عطوان، قوله أنّ ياسر عرفات قطع جميع المخصصات عن درويش بسبب استقالته من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، احتجاجاً على اتفاقية أوسلو. وأنّ محموداً مرّ بفترة إفلاس مريعة منعته من الخروج من البيت، تفادياً للإحراج أمام الأصدقاء. وفي الحق، كنت قرأت المقال في القدس العربي ولم أستغرب. فعرفات ماهر، وله خبرة تاريخية هائلة في شراء ذمم المثقفين وفي ترويضهم وتقليم أظافرهم، كلما تطلّبت الحاجة. وليس هنا مجال سرد ما لدي من وقائع في هذا المجال ، تطال أسماء عربية وفلسطينية بارزة. لكنني شككت في الحكاية أيضاً. فلمحمود موقع خاص لدى عرفات. قلت: إن كانت هذه الرواية صحيحة، فهي كذلك لمدى زمني محدود بل لا يتعدّى شهوراً فقط. إذ عاد محمود بعدها من باريس إلى الوطن، عن طريق غزة، ومكث فيها عدة أيام ثم غادرها إلى رام الله ، بعد أن عادت المياه إلى مجاريها بينه وبين عرفات.
لكنْ وردني، من مصدر موثوق، أنّ زياد عبد الفتاح، رئيس quot;وكالة وفاquot; ووكيل وزارة الإعلام سابقاً، وصديق محمود درويش المقرب جداً، قال في ندوة بعد موت درويش، وتعقيباً على ما ورد في القدس العربي، أنّ هذه الرواية غير صحيحة على الإطلاق. وأنّ عرفات لم يقطع مخصصات درويش أبداً. ولدى الرجل وثائق تثبت ذلك. وهنا أنا أميل إلى تصديق كلام زياد. فالرجل مطّلع وقريب جدا من الاثنين: عرفات ودرويش.
مهما يكن: فالأرجح أن عرفات لم يقطع المال عن درويش، وإن كان قطعه فلفترة قصيرة. حيث عاد درويش من باريس إلى غزة وسُوّيت المسائل بينه وبين قائده العام، فكان أن ذهب إلى رام الله، ومن هناك أعاد مجلة الكرمل إلى الصدور، وأسّسَ مركز خليل السكاكيني الثقافي. وهما مؤسستان تابعتان له، كما يعرف الجميع.
أما الرابعة: فهي أننا لم نسمع ذات يوم عن درويش أنه توسّط لكي يوظف شاعراً مُحتاجاً في السلطة. هذا كلام كذب. وإلا فأين البرهان؟ أعرف كثيراً من الحكايات المؤلمة، عن شعراء ومثقفين فلسطينيين من جماعة تونس، كانوا يقفون بالمرصاد في وجه توظيف أي مبدع من الداخل في مؤسساتهم الثقافية الحكومية. لماذا؟ لكي يوظّفوا هم أزلامهم ومحاسيبهم، من جانب، ولكي يستمتعوا، من جانب آخر، باستمرار معاناة هؤلاء المبدعين الفقراء.
لا لم يوظف درويش أحداً ههنا يا عزيزي عبد الباري عطوان!
أما الملاحظة الخامسة: التي لا تحتاج إلى إعمال البصيرة، وإنما فقط إعمال البصر، فهي جنازة المرحوم بكل تفاصيلها. حين قلنا إنه كان رسمياً على نحوٍ ما، لم نفتئت عليه. بل استخدمنا في الجملة(ما) التقليليّة عن سابق قصد، بغية التخفيف من مدلول كلمة رسمي، مع أننا لم نلتزم بالحقيقة كاملة، فهو كان رسمياً، وآخر الأدلّة: جنازته. حيث مُنعَ مُحبوه وقرّاؤه الحقيقيون من توديعه، واقتصر الحفل على الرسميين فقط. وكم كان فيهم من وجوه كالحة لا يحبها أحد!
لقد تأثرت من منع إخوتنا العرب الفلسطينيين من الجليل والمثلث من تأدية واجبهم الأخير تجاه شاعرهم. وتأّثرت غاية التأّثر من كلمة أخيه لحظة التأبين. فكل فلسطيني شاهد هذه الكلمة على الفضائيات، يعرف جيداً الموقف الحقيقي لعائلة درويش. لقد سُرق محمود منهم. لم تحاول السلطة مجرد أن تطلب من حكومة إسرائيل دفن جثمان الشاعر قرب أهله. ونحن نعرف لماذا. فحسابات السلطة غير حسابات العائلة.
أما السادسة: فهي ما عنونّا به مقالنا ولم نتطرق له إلى هذه اللحظة: ألا وهو وجوب توفر العقل النقدي لدى المثقف العربي، لكي يستأهل هذه الصفة الجليلة والفارقة. فمثقف بعقل عاطفيّ، مثقف بعقل سنتمنتاليّ، مثقف بعقل مصرفيّ، مثقف بعقلٍ تلفيقيّ، مثقف بعقل قطيعيّ(من القطيع)، مثقف بعقل تجاريّ، مثقف بعقل مناطقيّ، مثقف بعقل قبائليّ، إلخ إلخ، فليس جديراً أبداً إلا بعقله: بهذا العقل. ولن يحوز أبداً صفة ومرتبة المثقف، بالمعنى الأوروبي للكلمة. ولماذا الأوروبي، ببساطة لأنّ هذه الكلمة ذات مصدر ومنشأ أوروبي بامتياز. فنحن لدينا كاتب البلاط وشاعر البلاط وخُذ من هذا المنوال، على مدار تاريخ المنطقة.
أخيراً لديّ سؤال: ألا يرى معي مَن كتبوا تأليهاً وتقديساً في درويش، أنهم بهذا الصنيع العربي البديع، إنما يهجون الرجل؟ فالمديح المبالغ فيه هو الوجه الآخر للهجاء: هو مقلوبُ الهجاء. فمتى سنغادر هذه المنطقة؟ ومتى سنخرج حقاً من جلودنا كعرب؟
درويش مات. وبقيت كتبه ودواوينه. أما الباقي الذي لا يموت فهو حُكم الزمن وميزان الزمن. وعلينا جميعاً، أن لا ننسى هذا القاضي الرهيب. فلا نجومية الإعلام باقية، ولا الاتكاء على وطن منزوف يبقى. فيوماً ما سيكون لنا وطن مثل الآخرين. وحينها علينا أن نخاف من ذهاب معظم ما كتبته أيدينا إلى خانة التأريخ!
هوامش قد تفيد!
(1) كان محمود مغرما إلى حد أقصى بالمتنبي. أراد دوما أن يتدفق كالمتنبي. وكان فيه شيء من دفقة المتنبي. لكن صنعة المتنبي كانت صنعة توهمك بأنها ليست صنعة. أما صنعة محمود فتريد أن تؤكد لك بأنها صنعة. هي لا تريد أن تخفي ذلك. زكريا محمد من مقال بعنوانquot;نار تطفئ نفسهاquot; نقلاً عن موقع quot; أمينquot;.
(2) كان يحلو له أن يطلق على أصدقائه لقب quot;الأميرquot;، لكن أناقته ولطفه ونبله، جعلت هذه الصفة لا تنطبق إلا عليه. ولأنه أمير في سلطة الكلام، كان يحسن إقامة العلاقة مع السلطات، وكان يتقبل انتقاداتنا اللاذعة في بعض الأحيان بصبر، وينهي الخلاف بنكتة تلتمع فلا نستطيع صدها.
لم نكن نحب هذا الجانب فيه، لكننا اعتدنا أن نتقبل وجوهه المتعددة، لأننا كنا نعرف أن وجهه الحقيقي هو شعره الذي لم يتوقف سحره منذ أربعين عاما. إلياس خوري من مقال بعنوانquot;مات الشاعرquot; نقلاً عن صحيفة quot;النهارquot;.
(3) أطلعني أحمد دحبور, في مكتبه بمقر وزارة الثقافة بغزة, على قصيدة من ضمن مجموعة من القصائد الصغيرة, كان بعثها الشاعر الفلسطيني المعروف يوسف الخطيب,من سوريا حيث يقيم, لتُنشر في الصفحة الأخيرة من جريدة quot; الحياة الجديدةquot; الفلسطينية في رام الله, وقد تم بالفعل نشر جميع هذه القصائد باستثناء القصيدة المكتوبة عن درويش. وللأسف لم أحتفظ بنسخة عن القصيدة في حينه. لكنها قصيدة هجائية موجعة, لم أستسغها لموقفها المتضمّن تجاه درويش. فهو يُعيّره بانتمائه القديم لحزب راكح, واقترابه من عرفات, وما إلى ذلك. مع العلم أنّ الشاعر يوسف الخطيب[أحد اثنين كبيريْن قدّما درويش إلى القارئ العربي, في وقت مبكر: هو, والمرحوم غسان كنفاني].
التعليقات