لم تكن سماء حياتي بذات الزرقة التي تبدو بها سموات بقية النساء..إذ لم تزرني خطى السعادة بمعناها المنير يوماً من الأيام!. فقد كان ينتابني، في خضم مسراتي الغزيرة، ذلك الشعور الذي يوهمني بأن هنالك شيئاً ما أفتقده.!
كنت أحيا في جنينة من الحياة الطيبة للغاية. لذلك فان من لم يخبرني جيداً، بدوت له طامعة بالكثير، أما من عاشرني عن كثب فكان يصفني بالطموحة، لكنني في واقع أمري.. لا هذه ولا تلك!!
فمنذ طفولتي كنت أهجس تميزي عن قريناتي، إذ كان يشرق لي في أفق أمنياتي على الدوام مجداً جديداً أترقبه.
وهبني الله عزماً خلاقاً وخزيناً لا ينضب من الصبر والمثابرة. لذلك أصبحت حياتي محطات متتابعة لرؤى طموحة للغاية، لا يكاد أن ينجز أحدها إلا ليتلوه الأكبر شأنا ًوالأصعب تحقيقاً.
نلت من شهادات المعرفة ما أعجز عن أستحضاره في ذاكرتي أحيانا!، حتى إنني أتقنت الألمانية والأسبانية ذات الوقت الذي كنت أسعى فيه لأحراز بكلوريوس الأدب في اللغة العربية!!
حزت بذلك التفاني حب من بقربي، وسعيت دون كلل نحو إسعاد الجميع. فقد كنت متلونة على الدوام في أفكاري قبل شكلي وهيئتي.غير إن كل تلك الجهود المضنية لم تربك صحتي، بل صرت أرتدي أبهى نظارة بحلـّة تزهو بالإثارة.
أحببت رجلاً، كما هو حال كل نساء الدنيا، طالباً يسعى لنيل شهادة عليا في الفلسفة بجامعة بغداد التي كنت أتعلم فيها. كان يحمل قدراً وافراً من صفات فارس أحلامي.تصاحبه الطيبة والالتزام،حساس الروح وطموح الأمنيات، لذلك كان هو خيرة من عرض قلبه لي، فأقترنت به غداة تخرجي.
أقمت مع زوجي في مسكنه مع والديه وأشقاءه وشقيقاته، فأضفيت بينهم روح السعادة التي أكسبتني محبة صغارهم واحترام شيوخهم، فصار تغيبي عنهم يرسم فراغا واسعاً لا تشغله سوى عودتي.
ولأن الكلل لايتمكن من أدراكي حتى بقرب وضعي لوليدي الأول، عزمت على إتمام دراساتي العليا!.
أما زوجي الطيب الذي لم يكن ليتوانى في تنفيذ أي إلتماس لي، فقد أرتضى الأمر، رغم قلقه من تزاحم فروضي التي كانت لا تمنح له متسعاً للانفراد بي غيرهنيهات وجيزة أثناء الليل. فعدت طالبة وأم في آن واحد، ونلت الدكتوراه وأنا والدة لطفلتين جميلتين، الكبرى تكاد تناظرني في كل شيء.
تحقق لي قدراً عظيماً مما رجوته، الزوج الطيب، الأبناء الأصحاء، التعليم بأسمى المعايير، أختبارالحياة بنطاقها الفسيح، ومن قبلها حب النخبة التي من حولي. فأمتلأ الروض بأزاهير المنجزات..
لكنني.. لم أزل أشعر بطيف يمر أمامي، ينبئني بأن هنالك شيئأً ما أفتقر إليه، يؤرق منامي، وكأنه قد جُبل مع طينتي، يحفزني ويدفعني!!. لذلك صممت على العمل، علني أجد فيه غايتي المفقودة.!
عرض عليّ زوجي أن أتقدم للعمل معه أستاذة جامعية، فكنت من أكفأ الأساتذة وأنا لم أتخطى الرابعة والثلاثين بعد!.
ولأنني أحيا دوامة تامة تصل بي إلى الذروة لتعيدني إلى نقطة إنطلاقي، وجدت نفسي أرجو من زوجي مطلباً كان الخوض فيه يشكل شأناً عسيراً عليه. لقد كانت خطوتي واسعة للغاية هذه المرة، خطوة تغير مجرى إنسياب حياتي، بل مستقبل عائلتي برمتها. لكنه أرتضى،على مضض، وتحت ضغط إلحاحي المتواصل، سفرنا مع البنتين للعمل في إحدى الدول العربية، إذ إنني كنت قد تباحثت،عبر التراسل، مع إحدى الجامعات هناك.
وصفت له مدى حاجتي للسفر وحجم رغبتي في معاينة العالم عن كثب،إضافة ً إلى الفوائد الماديّة والحسيّة التي كنا نفتقدها، بسبب الحروب المتعاقبة وحصار العالم لبغداد. لكنني تمكنت من حمله على الطمأنينة بأننا سنعود أدراجنا حين تشتد رغبته في الأوبة إن لم يرتضه الحال هناك.
إرتحلت العائلة، وتغربنا لأربعة أعوام كنا ننتقل خلالها كل عام من جامعة في بلد إلى أخرى في بلد آخر. حتى حل بي ما لم يكن بالحسبان..لقد أعياني داء (الحنين للوطن)، ذلك المرض الخانق الذي أرغم زوجي الطيب على الرضوخ لإرادتي في الرجوع إلى بلادنا، رغم الخسارة الباهظة في الريع المادي الممتاز الذي كنا نجنيه، ورغم طبول الحرب على بغداد التي كانت تقرع في كل مكان..
رجعت العائلة على أعقابها من رحلتها المكوكية...وعاد زوجي إلى سالف عمله..أما أنا فآثرت التأني آملة بالعثورعلى ضالتي!
وفي ليلة، كان زوجي قد أستضاف في منزلنا صاحباً له يعمل في ميدان الإخراج التلفازي عرفه في بلاد الإغتراب. وبعد أن تناولنا العشاء، باغتنا الرجل باقتراح لم يخطر لنا على بال. قال لنا بأنه ومنذ زمن طويل يفتش عن من يتولى مهمة التقديم لبرنامجه التلفازي الجديد، وهو يفتقد تلك المرأة التي تتصف بالذكاء واللباقة وتحوز جمال الروح والوجه. وأنه سيكون في غاية البهجة لرضاي على ترشيحه لي في اضطلاعي بهذه المهمة!.
وكي لا أخفيكم سراً، سأصدقكم القول بأنني كدت أحلّق بلا جناحين سروراً ساعتها، لإدراكي بأنني قد وجدت ضالتي في النهاية. لكننا إلتمسنا منه إرجاء الأمر إلى حين حتى نتمكن من فحصه ملياً. فقد كانت مشورة زوجي ولكوني أستاذة جامعية فالأولى لي العمل ضمن نطاق دراساتي! لكنني أوضحت له بأن موضوع البرنامج يمس صلب ما أختص به وزيادة على ذلك فانني سأجهد لإعداده بنفسي.
وكالعادة، تحقق ما صبوت إليه إذ رحت ألج منازل الناس مرّة كل أسبوع وعبر شاشة التلفاز. فأحب النّظّارة برنامجي لمراميه الناضجة، وطابت نفوسهم لتلقائيتي وحلاوة لساني. ثم توالت البرامج التي كنت أبدع في الإعداد والتقديم لها في آن واحد، حتى بات النجاح رفيقاً دائماً لي يأبى مفارقتي، لأظفر بعد ذلك بجائزة الإعداد والتقديم في مهرجان كبير ضج بتصفيق الحاضرين لي.
فارقني النوم في تلك الليلة، وأجهشت بالبكاء، كنت حزينة وسعيدة في ذات الوقت! وعندما فطن إلي زوجي الطيب الذي كان راقداً إلى جانبي، راح يسألني متحيراًً:
_أتذرفين الدمع يا حبيبتي في اليوم الذي صفق لك فيه الناس!!؟
أجبته وأنا ألوي رأسي كمن تبحث عن شيء سقط من يدها:
_ لست أدري ياحبيبي..حقاً إنني غير مدركة لذاتي! قد تعدني مجنونة..معتوهة..أو إفترض عني ما تشاء..! لكن حقا قد آن لي أن ألجأ أليك لتنتشلني من الدوامة. إن الرعب من المجهول يصاحبني..يبدد سَكينتي..أبصر غرباناً تحوم في سمائي..تحملني على أن أتكهن بالسوء والشؤم كل لحظة، أشعر أنني على شفا هاوية تروم ابتلاعي.أما السعادة فتأبى أن تطرق بابي إلا للحظات، راحلة عني لتهجرني غارقة بكابوس جديد يؤرقني ويدفعني لأقيم ستراً جديداً أمام زوابع الزمن. فتراني قد حققت كل ما كنت أصبو إليه ولكن دون أن أصل إلى غايتي..سراب هي..تقصى كلما دنوت منها..لكنني أشعر بها دانية مني..حاضرة في حياتي..لكن ما هي، وأين..لست أدري.. ساعدني أرجوك.
عانقني زوجي الطيب كعادته بكل حنان مكفكفاً دموعي وضمني إلى صدره. وقال:
_لا تقلقي يا حبيبتي فإني إلى جانبك..ولا منتهى لحبك في قلبي..وسأظل أباهي الدنيا بك على الدوام،فأنت من بعث ببيتي السعادة، وأنجبت لي أجمل طفلتين، وبتفانيك طافت حياتي بالمنجزات....تتمين مهماتكِ دون ملل وبلا شكوى، لتزرعي في قلبي حباً عاتياً، صاحبته ثقة كبيرة بصواب رأيك الذي شغل موضع أجلالي، حتى وإن كان فيه ما يخالف فكري..
إنني لست أذكر يوماً أن إصطدمت فيه رغباتنا..ولم تأبِ لي في أيّة مرة مطلباً... إنني أشعر ألان يا حبيبتي بما تقاسيه روحك الباسلة..بل بما تكابده كل امرأة في هذا العالم، إنه الشعورالأبدي بفقدان الطمأنينة الذي يرافق الفتاة الفطنة منذ الصغر..فهي تشعر بضعفها وهوانها أمام قسوة الحياة..تخشى عالماً قد يسحقها بقدميه ليتركها حطاماً هشيمأً.
أشعل لفافته ثم أردف قائلاً:
-لكنها ولكونها ذكية، تسعى لتأكيد ذاتها كي تتجنب أية مباغتة يضمرها الزمن. لكن ليس كل النساء على عتبة واحدة من الحظ والغنى. فمنهن من تعيش حال قاس لن يؤهلها لتضع بصمتها على جدار الحرية، فتنقاد لليأس وترضخ لمصيرها مستسلمة لرياح الزمن تقذف بها أينما ترغب.
حتى إن تحالف معها بعضاً من الحظ، فإنها لن تنال سوى المهمة الفطرية لأية امرأة، في أن تكون وعاءاً لإنجاب الأبناء وحسب!!
أما الضرب الآخر من النساء، وأنتِ منهن، تدعمها الظروف الطيبة في بناء درعها الحصين، وهو العقل، الذي يعتق أسر قدميها، لتقدم على تسلق السلالم الأولى من برج القوة. ثم تجاهد لإرتقاء الدرجات الأخيرة التي ما انفكت تستدعيها. لكنها مهما علت فإن نهاية السلّم ستظل بعيدة! إنها السراب بعينه. وهنا تتضارب الأماني مع صخور الواقع، فالطموح يمتنع عن وضع حد للمسيرة، بينما الواقع يفرض إرادته ليحجب الطموح شاء أم أبى صاحبه!
أتعلمين ما الذي يهلك الطموح يا حبيبتي؟ إنه التقدم في السن..فلست الآن تلك الفتاة الصغيرة التي تقف في بداية السلم، لقد خسرتِ أهم ما تملكه تلك الصغيرة وهو عنصر المجازفة. إذ إنك الآن ستخشين الخوض في أيّة مجازفة لئلا تفقدي ما أتممت تحقيقه.
لكن ذلك لا يعني أنه على من تقدمت بهن السن أن يحل في نفوسهن االيأس..بل على العكس..فإنهن في الحقيقة على موعد مع مهمة أصعب وهي السعي لرعاية ما أنجزنه في السابق..
فأستكيني يا حياتي فمهمتك القادمة هي صون ما تم أنجازه..وهو الكثير.. وأنتِ لم تتجاوزي سن الأربعين بعد.
كان يداعب بأصابعه خصلات شعري.ورأسي لما يزل متكئاً على صدره فنمت بهدوء.
ونشبت الحرب..وجلسنا نرقب التلفاز بذهول كيف أن دبابتين أمريكيتين توسطتا جسرالجمهورية في قلب بغداد لتسقط البلاد كلها سريعاً..وبات الرعب حولنا في كل مكان..
وبعد أشهر معدودات، وبينما كان زوجي يقود سيارته في درب عودته إلى المنزل، جرى له حادث رهيب في إنفجار سيارة ملغومة، فأسعفه الناس إلى المستشفى حيث نُفذت لرأسه المهشمة جراحة خطيرة ليدخل المسكين إلى صالة الإنعاش.
أصابتني إغماءة إثر سماعي نبأ الحادث عبر الهاتف من أحد رجال الشرطة. لأستفيق اثر مساعدة إبنتاي لي. غادرت بملابسي المنزلية لأقود مركبتي دون وعي باتجاه المستشفى. كان الرعب يتملكني..أحسست وللمرة الأولى بأنني في قلب الخطر الذي كنت أترقبه وأخشى حلوله طوال حياتي فامتزج ذلك مع إحساس كبير بالندم!.
وضعت رأسي برفق على صدره الذي كان يعلو ويهبط كمنفاخ الحداد..توسلته أن يصمد..ورحت أتضرع لربي بحرارة لم أناشده فيها قبلاً بأمر تعلق بي. رجوته بأن يبقيه لي. عدت أحثه على الصمود..ثم صليت من جديد..
_لا تسترد مني يا رب ما كنت أفتش عنه طوال حياتي..إنه درعي الذي أتقي به عاديات الزمن..هو من كان يمدني بالقوة..إنني..........بحاجة إليه..إليه فقط.
بكيت كثيراً..وهو لما يزل يتنفس بصعوبة..كانت الإبتسامة الأبدية التي ترتسم على شفتيه على حالها وكأنها تهون كعادتها الأمرعليّ..ورحت أقبّل تلك الابتسامة لأمدها بالحياة من حياتي..
_تكلم إليّ أرجوك..لا تتركني.
لكنه لم يجبني، حتى أنفاسه كانت قد كفـّت.
وانطفأت تلك الابتسامة المطمئنة التي أمضيت حياتي وأنا أغفل تاثير سحرها في سمو ثقتي بذاتي... فمنها كنت أستمد قوتي...كانت معي، لم يبخل عليّ بها يوماً، ضاعت..
كنت أحيا في جنينة من الحياة الطيبة للغاية. لذلك فان من لم يخبرني جيداً، بدوت له طامعة بالكثير، أما من عاشرني عن كثب فكان يصفني بالطموحة، لكنني في واقع أمري.. لا هذه ولا تلك!!
فمنذ طفولتي كنت أهجس تميزي عن قريناتي، إذ كان يشرق لي في أفق أمنياتي على الدوام مجداً جديداً أترقبه.
وهبني الله عزماً خلاقاً وخزيناً لا ينضب من الصبر والمثابرة. لذلك أصبحت حياتي محطات متتابعة لرؤى طموحة للغاية، لا يكاد أن ينجز أحدها إلا ليتلوه الأكبر شأنا ًوالأصعب تحقيقاً.
نلت من شهادات المعرفة ما أعجز عن أستحضاره في ذاكرتي أحيانا!، حتى إنني أتقنت الألمانية والأسبانية ذات الوقت الذي كنت أسعى فيه لأحراز بكلوريوس الأدب في اللغة العربية!!
حزت بذلك التفاني حب من بقربي، وسعيت دون كلل نحو إسعاد الجميع. فقد كنت متلونة على الدوام في أفكاري قبل شكلي وهيئتي.غير إن كل تلك الجهود المضنية لم تربك صحتي، بل صرت أرتدي أبهى نظارة بحلـّة تزهو بالإثارة.
أحببت رجلاً، كما هو حال كل نساء الدنيا، طالباً يسعى لنيل شهادة عليا في الفلسفة بجامعة بغداد التي كنت أتعلم فيها. كان يحمل قدراً وافراً من صفات فارس أحلامي.تصاحبه الطيبة والالتزام،حساس الروح وطموح الأمنيات، لذلك كان هو خيرة من عرض قلبه لي، فأقترنت به غداة تخرجي.
أقمت مع زوجي في مسكنه مع والديه وأشقاءه وشقيقاته، فأضفيت بينهم روح السعادة التي أكسبتني محبة صغارهم واحترام شيوخهم، فصار تغيبي عنهم يرسم فراغا واسعاً لا تشغله سوى عودتي.
ولأن الكلل لايتمكن من أدراكي حتى بقرب وضعي لوليدي الأول، عزمت على إتمام دراساتي العليا!.
أما زوجي الطيب الذي لم يكن ليتوانى في تنفيذ أي إلتماس لي، فقد أرتضى الأمر، رغم قلقه من تزاحم فروضي التي كانت لا تمنح له متسعاً للانفراد بي غيرهنيهات وجيزة أثناء الليل. فعدت طالبة وأم في آن واحد، ونلت الدكتوراه وأنا والدة لطفلتين جميلتين، الكبرى تكاد تناظرني في كل شيء.
تحقق لي قدراً عظيماً مما رجوته، الزوج الطيب، الأبناء الأصحاء، التعليم بأسمى المعايير، أختبارالحياة بنطاقها الفسيح، ومن قبلها حب النخبة التي من حولي. فأمتلأ الروض بأزاهير المنجزات..
لكنني.. لم أزل أشعر بطيف يمر أمامي، ينبئني بأن هنالك شيئأً ما أفتقر إليه، يؤرق منامي، وكأنه قد جُبل مع طينتي، يحفزني ويدفعني!!. لذلك صممت على العمل، علني أجد فيه غايتي المفقودة.!
عرض عليّ زوجي أن أتقدم للعمل معه أستاذة جامعية، فكنت من أكفأ الأساتذة وأنا لم أتخطى الرابعة والثلاثين بعد!.
ولأنني أحيا دوامة تامة تصل بي إلى الذروة لتعيدني إلى نقطة إنطلاقي، وجدت نفسي أرجو من زوجي مطلباً كان الخوض فيه يشكل شأناً عسيراً عليه. لقد كانت خطوتي واسعة للغاية هذه المرة، خطوة تغير مجرى إنسياب حياتي، بل مستقبل عائلتي برمتها. لكنه أرتضى،على مضض، وتحت ضغط إلحاحي المتواصل، سفرنا مع البنتين للعمل في إحدى الدول العربية، إذ إنني كنت قد تباحثت،عبر التراسل، مع إحدى الجامعات هناك.
وصفت له مدى حاجتي للسفر وحجم رغبتي في معاينة العالم عن كثب،إضافة ً إلى الفوائد الماديّة والحسيّة التي كنا نفتقدها، بسبب الحروب المتعاقبة وحصار العالم لبغداد. لكنني تمكنت من حمله على الطمأنينة بأننا سنعود أدراجنا حين تشتد رغبته في الأوبة إن لم يرتضه الحال هناك.
إرتحلت العائلة، وتغربنا لأربعة أعوام كنا ننتقل خلالها كل عام من جامعة في بلد إلى أخرى في بلد آخر. حتى حل بي ما لم يكن بالحسبان..لقد أعياني داء (الحنين للوطن)، ذلك المرض الخانق الذي أرغم زوجي الطيب على الرضوخ لإرادتي في الرجوع إلى بلادنا، رغم الخسارة الباهظة في الريع المادي الممتاز الذي كنا نجنيه، ورغم طبول الحرب على بغداد التي كانت تقرع في كل مكان..
رجعت العائلة على أعقابها من رحلتها المكوكية...وعاد زوجي إلى سالف عمله..أما أنا فآثرت التأني آملة بالعثورعلى ضالتي!
وفي ليلة، كان زوجي قد أستضاف في منزلنا صاحباً له يعمل في ميدان الإخراج التلفازي عرفه في بلاد الإغتراب. وبعد أن تناولنا العشاء، باغتنا الرجل باقتراح لم يخطر لنا على بال. قال لنا بأنه ومنذ زمن طويل يفتش عن من يتولى مهمة التقديم لبرنامجه التلفازي الجديد، وهو يفتقد تلك المرأة التي تتصف بالذكاء واللباقة وتحوز جمال الروح والوجه. وأنه سيكون في غاية البهجة لرضاي على ترشيحه لي في اضطلاعي بهذه المهمة!.
وكي لا أخفيكم سراً، سأصدقكم القول بأنني كدت أحلّق بلا جناحين سروراً ساعتها، لإدراكي بأنني قد وجدت ضالتي في النهاية. لكننا إلتمسنا منه إرجاء الأمر إلى حين حتى نتمكن من فحصه ملياً. فقد كانت مشورة زوجي ولكوني أستاذة جامعية فالأولى لي العمل ضمن نطاق دراساتي! لكنني أوضحت له بأن موضوع البرنامج يمس صلب ما أختص به وزيادة على ذلك فانني سأجهد لإعداده بنفسي.
وكالعادة، تحقق ما صبوت إليه إذ رحت ألج منازل الناس مرّة كل أسبوع وعبر شاشة التلفاز. فأحب النّظّارة برنامجي لمراميه الناضجة، وطابت نفوسهم لتلقائيتي وحلاوة لساني. ثم توالت البرامج التي كنت أبدع في الإعداد والتقديم لها في آن واحد، حتى بات النجاح رفيقاً دائماً لي يأبى مفارقتي، لأظفر بعد ذلك بجائزة الإعداد والتقديم في مهرجان كبير ضج بتصفيق الحاضرين لي.
فارقني النوم في تلك الليلة، وأجهشت بالبكاء، كنت حزينة وسعيدة في ذات الوقت! وعندما فطن إلي زوجي الطيب الذي كان راقداً إلى جانبي، راح يسألني متحيراًً:
_أتذرفين الدمع يا حبيبتي في اليوم الذي صفق لك فيه الناس!!؟
أجبته وأنا ألوي رأسي كمن تبحث عن شيء سقط من يدها:
_ لست أدري ياحبيبي..حقاً إنني غير مدركة لذاتي! قد تعدني مجنونة..معتوهة..أو إفترض عني ما تشاء..! لكن حقا قد آن لي أن ألجأ أليك لتنتشلني من الدوامة. إن الرعب من المجهول يصاحبني..يبدد سَكينتي..أبصر غرباناً تحوم في سمائي..تحملني على أن أتكهن بالسوء والشؤم كل لحظة، أشعر أنني على شفا هاوية تروم ابتلاعي.أما السعادة فتأبى أن تطرق بابي إلا للحظات، راحلة عني لتهجرني غارقة بكابوس جديد يؤرقني ويدفعني لأقيم ستراً جديداً أمام زوابع الزمن. فتراني قد حققت كل ما كنت أصبو إليه ولكن دون أن أصل إلى غايتي..سراب هي..تقصى كلما دنوت منها..لكنني أشعر بها دانية مني..حاضرة في حياتي..لكن ما هي، وأين..لست أدري.. ساعدني أرجوك.
عانقني زوجي الطيب كعادته بكل حنان مكفكفاً دموعي وضمني إلى صدره. وقال:
_لا تقلقي يا حبيبتي فإني إلى جانبك..ولا منتهى لحبك في قلبي..وسأظل أباهي الدنيا بك على الدوام،فأنت من بعث ببيتي السعادة، وأنجبت لي أجمل طفلتين، وبتفانيك طافت حياتي بالمنجزات....تتمين مهماتكِ دون ملل وبلا شكوى، لتزرعي في قلبي حباً عاتياً، صاحبته ثقة كبيرة بصواب رأيك الذي شغل موضع أجلالي، حتى وإن كان فيه ما يخالف فكري..
إنني لست أذكر يوماً أن إصطدمت فيه رغباتنا..ولم تأبِ لي في أيّة مرة مطلباً... إنني أشعر ألان يا حبيبتي بما تقاسيه روحك الباسلة..بل بما تكابده كل امرأة في هذا العالم، إنه الشعورالأبدي بفقدان الطمأنينة الذي يرافق الفتاة الفطنة منذ الصغر..فهي تشعر بضعفها وهوانها أمام قسوة الحياة..تخشى عالماً قد يسحقها بقدميه ليتركها حطاماً هشيمأً.
أشعل لفافته ثم أردف قائلاً:
-لكنها ولكونها ذكية، تسعى لتأكيد ذاتها كي تتجنب أية مباغتة يضمرها الزمن. لكن ليس كل النساء على عتبة واحدة من الحظ والغنى. فمنهن من تعيش حال قاس لن يؤهلها لتضع بصمتها على جدار الحرية، فتنقاد لليأس وترضخ لمصيرها مستسلمة لرياح الزمن تقذف بها أينما ترغب.
حتى إن تحالف معها بعضاً من الحظ، فإنها لن تنال سوى المهمة الفطرية لأية امرأة، في أن تكون وعاءاً لإنجاب الأبناء وحسب!!
أما الضرب الآخر من النساء، وأنتِ منهن، تدعمها الظروف الطيبة في بناء درعها الحصين، وهو العقل، الذي يعتق أسر قدميها، لتقدم على تسلق السلالم الأولى من برج القوة. ثم تجاهد لإرتقاء الدرجات الأخيرة التي ما انفكت تستدعيها. لكنها مهما علت فإن نهاية السلّم ستظل بعيدة! إنها السراب بعينه. وهنا تتضارب الأماني مع صخور الواقع، فالطموح يمتنع عن وضع حد للمسيرة، بينما الواقع يفرض إرادته ليحجب الطموح شاء أم أبى صاحبه!
أتعلمين ما الذي يهلك الطموح يا حبيبتي؟ إنه التقدم في السن..فلست الآن تلك الفتاة الصغيرة التي تقف في بداية السلم، لقد خسرتِ أهم ما تملكه تلك الصغيرة وهو عنصر المجازفة. إذ إنك الآن ستخشين الخوض في أيّة مجازفة لئلا تفقدي ما أتممت تحقيقه.
لكن ذلك لا يعني أنه على من تقدمت بهن السن أن يحل في نفوسهن االيأس..بل على العكس..فإنهن في الحقيقة على موعد مع مهمة أصعب وهي السعي لرعاية ما أنجزنه في السابق..
فأستكيني يا حياتي فمهمتك القادمة هي صون ما تم أنجازه..وهو الكثير.. وأنتِ لم تتجاوزي سن الأربعين بعد.
كان يداعب بأصابعه خصلات شعري.ورأسي لما يزل متكئاً على صدره فنمت بهدوء.
ونشبت الحرب..وجلسنا نرقب التلفاز بذهول كيف أن دبابتين أمريكيتين توسطتا جسرالجمهورية في قلب بغداد لتسقط البلاد كلها سريعاً..وبات الرعب حولنا في كل مكان..
وبعد أشهر معدودات، وبينما كان زوجي يقود سيارته في درب عودته إلى المنزل، جرى له حادث رهيب في إنفجار سيارة ملغومة، فأسعفه الناس إلى المستشفى حيث نُفذت لرأسه المهشمة جراحة خطيرة ليدخل المسكين إلى صالة الإنعاش.
أصابتني إغماءة إثر سماعي نبأ الحادث عبر الهاتف من أحد رجال الشرطة. لأستفيق اثر مساعدة إبنتاي لي. غادرت بملابسي المنزلية لأقود مركبتي دون وعي باتجاه المستشفى. كان الرعب يتملكني..أحسست وللمرة الأولى بأنني في قلب الخطر الذي كنت أترقبه وأخشى حلوله طوال حياتي فامتزج ذلك مع إحساس كبير بالندم!.
وضعت رأسي برفق على صدره الذي كان يعلو ويهبط كمنفاخ الحداد..توسلته أن يصمد..ورحت أتضرع لربي بحرارة لم أناشده فيها قبلاً بأمر تعلق بي. رجوته بأن يبقيه لي. عدت أحثه على الصمود..ثم صليت من جديد..
_لا تسترد مني يا رب ما كنت أفتش عنه طوال حياتي..إنه درعي الذي أتقي به عاديات الزمن..هو من كان يمدني بالقوة..إنني..........بحاجة إليه..إليه فقط.
بكيت كثيراً..وهو لما يزل يتنفس بصعوبة..كانت الإبتسامة الأبدية التي ترتسم على شفتيه على حالها وكأنها تهون كعادتها الأمرعليّ..ورحت أقبّل تلك الابتسامة لأمدها بالحياة من حياتي..
_تكلم إليّ أرجوك..لا تتركني.
لكنه لم يجبني، حتى أنفاسه كانت قد كفـّت.
وانطفأت تلك الابتسامة المطمئنة التي أمضيت حياتي وأنا أغفل تاثير سحرها في سمو ثقتي بذاتي... فمنها كنت أستمد قوتي...كانت معي، لم يبخل عليّ بها يوماً، ضاعت..
التعليقات