لم تكن الهام تتوقع أن تجد زميلها مصطفى في حديقة الكلية في ساعة مبكرة كهذه من صباح يوم كانوني قارص، كما لم تتوقع منه ان يبدو كقطعة من الجليد حين لم يحرك ساكنا وهي تتقدم نحوه بخطى رشيقة متمايلة حيث الاريكة الخشبية التي يجلس عليها متدثرا بمعطفه الاسود الطويل، لم تتغير ملامح الشحوب المرتسمة على وجهه وهو يتأملها كأنها تخرج من قرص الشمس التي تبعث ببعض الدفء في الاجساد الباردة والاطراف المتجمدة، ازدادت دهشتها وهي تقف أمامه مباشرة دون ان يرد على تحيتها لكنها حافظت على هدوئها وروعة ابتسامتها التي ترسمها دائما على وجهها الطفولي الذي بدا كبدر مكتمل وهي تكسف أمامه قرص الشمس، سحبت نفسا عميقا من نسيم الهواء البارد الذي يداعب شعرها الاسود القصير ليلامس كتفيها عابثا بخصلاته التي تخلل بعضها خصلات ذهبية ثم رددت بضع كلمات لم تكن لتثير اهتمامه أو تخرجه من حالة التأمل التي أضفت عليه نوعا من الخمول نحوها، فلم تجد بدا من تركه ومغادرة المكان بعد ان شعرت منه بنوع من الاهمال وقد بدأت أثار الانزعاج تزاحم ابتسامتها المرحة،.. لم تبدر منه أية حركة وهو يراقبها تتحرك من أمامه دون ان يشعر بأنه عكر مزاجها في هذا الصباح لكن ثمة ما يمنعه من اللحاق بها وهو ذات الشيء الذي عكر مزاجه واتى به مبكرا قبل بدء دوام الكلية التي يسعى في عامه الأخير فيها أن يتخرج منها بتقدير يتلاءم مع جهده وتطلعاته، أما ماهو هذا الشيء فهو نفسه لا يدري، فكل ما يشعر به هو خمول في قواه وارهاق ذهني ناجم عن دوامة التفكير التي أحاطت به في اليومين الاخيرين... إلا انه هذا اليوم يشعر وكأنه يتوقف في محطة مجهولة من محطات عمره الذي لم يتجاوز الثالثة والعشرين رغم إن كل شي حوله يمضي بصورة طبيعية، ولكن الشيء الغير طبيعي كان في داخله فحسب حيث يتغلغل في أعماقه ويوخز صدره كيما يجعله يترقب ماسيحدث له رغم روتين الحياة الطبيعي الذي اعتاده في بغداد حيث نشأ وترعرع، حيث ضحك من القدر كما بكى منه، حيث مقت الحياة في عيون الحرب التي مزقت البلاد ومزقت عائلته، كما عشق الحياة في عيني الهام... حيث التحدي يشعره بالرغبة في الاستسلام والترقب بصمت لما يخبئه القدر في محطته المجهولة، فالحرب التي عاصرها أعواما ثمان قد زرعت فيه بذور هذا الشعور الذي لم يزده إلا إحباطا وخصوصا بعد أن نالت من عائلته حيث هدمت عمودين من أركانها في شخصي أخويه الأكبر منه سنا، فالأول التهمته نيرانها وعاد اشلاءا ممزقة ليشيع نحو مثواه الأخير، والأخر سقط أسيرا في عالم يجهل عنه أي شي، وهاهو ذات الشعور يعاوده من مصيدة القدر رغم ان الحرب قد أخمدت نيرانها منذ اشهر عدة ولم يعد هناك أمل في اشتعالها لتلتهمه أيضا كما لم يعد له أمل في اصلاح ما أفسدته من حياته وعائلته التي لم يبق لها سواه معينا لوالده الكهل وأمه العجوز وأخت صغيرة، كان يسد رمقها في الحياة عبر محل متواضع لتصليح الاجهزة الكهربائية اعتاد على تمضية ما يتبقى من ساعات النهار بالعمل فيه بعد انتهاء دوامه في كلية الزراعة...
لم يكن يائسا من الحياة بالقدر الذي كان محبطا منها، مترقبا مقالبها، فها هو ذات الشعور يعاوده ولكن هذه المرة بصورة لم يألفها هو نفسه، فقد أزعج اقرب إنسانة الى قلبه -الهام- تلك التي تشعره بطعم الحياة، ولا يعرف أي معنى للحياة دونها، مذ تعرف عليها عندما كانا في العام الاول من نفس الكلية، وهاهي أربعة أعوام تمر على علاقتهما التي لم يخفيا خيوطها أو أي شيء حولها عن بعضيهما، فما أن سرت مشاعر العشق في نفسيهما حتى اعترفا بذلك وبما يحمل قلباهما من مشاعر انسانية دافئة ليمضيا أجمل أيام حياتهما بين جدران كلية الزراعة ببغداد...
كل شيء كان يدور في ذهنه بسرعة، لم يتذكر أنه ضايقها في أي وقت من الأوقات، كما لم يكن يشعرها بالاحباط الذي يساوره حينما يكون بعيدا عنها، الا انه اليوم لايدري مايحدث له..، كما لم يكن يعرف ماالذي يمنعه من استدراك الموقف الذي أدى الى ازعاجها، فلم يكن يرغب بفعل أي شيء من اجل نفسه، لكن!! من اجلها لابد من التحرك، فنهض من مكانه متثاقلا ليسير بضع خطوات بطيئة في أثرها...
كانت الهام تحاول اخفاء انزعاجها وهي تتوسط مجموعة من زميلاتها وزملائها الذين بدأوا بالتوافد على الدوام ودخول قاعة المحاضرات بانتظار أولى محاضراتهم التي لم يتبق على بدئها سوى دقائق قليلة... كانت تترقب باب القاعة في لهفة لرؤية مصطفى الذي تأخر على غير عادته، لم تأبه بأي مما يدور حولها من احاديث سواء كانت موجهة لها أم لا، فذهنها كان مشغولا وهي تردد بهمس كلمات غير مفهومة، لم تطق الانتظار حين أزاحت لحظات الانزعاج واستذكرت سنوات من الحب وهي تتوجه مسرعة الى حيث تركته جالسا، لكنها فوجئت باختفائه، وأخيرا قررت العودة الى قاعة المحاضرات والاستسلام للانتظار الممل...
* * *
ثمة فرق كبير بين النور والعتمة، لايشعر به الا من جرب دهاليز الظلام وسراديب الموت الاسود.. فالمحطة المجهولة التي حط القدر رحال مصطفى فيها كانت أشد مما يمكن أن يتوقع، وأكبر من شعور الاحباط الذي كان يراوده، فخلال دقائق معدودة أصبح رهينة صندوق ضيق لاحدى السيارات الفارهة التي استقلها مجهولون ليقتادوه معصوب العينين مقيد اليدين الى مكان مجهول بعد أن استباحوا الحرم الجامعي بهدوء..!!
لم يقاوم أو حتى يستفسر منهم عن سبب اعتقاله، فهم كما أوحت غريزته من رجال السلطة ويحق لهم أن يفعلوا مايشاءون، كما لايحق له السؤال أو الاعتراض حتى لو كان ثمة خطأ ما في اعتقاله، فهو يعلم ان الاستسلام اضمن وسيلة لتجنب الأذى الذي قد يتعرض له فيما لو اعترض، كان المكان الذي حشر فيه يسهل عليه تصور وضع الجنين في بطن امه، وياله من جنين لايدري أيضحك أم يبكي او يصرخ في استقبال ولادته الجديدة، والعالم الجديد الذي سيفتح عينيه عليه، كان واثقا من انها سخرية القدر تعبث معه كما كان يتوقع ويترقب، السخرية التي تهزأ بأقدس مخلوق على وجه البسيطة وتنتهك حرماته لسبب او دونه، السخرية التي أودت به الى ماكان يسمع عنه فحسب من محاجر الاعتقال الضيقة، لكنها على كل حال كانت أهون من صندوق السيارة الذي حشر فيه، فهناك مكان ليسند ظهره على جدار ويعلق رجليه على الجدار المقابل، كما يلامس بكتفيه الجدارين الاخرين، ويستمتع بالظلمة التي تتيح له المزيد من التأمل في معنى النور الحقيقي الذي ينبعث من مكان ما في داخله فحسب، ولو كان خيطا رفيعا يتمسك من خلاله ببقايا حياة...
* * *
سرعان ماانتشر خبر اعتقال مصطفى بين طلبة كلية الزراعة وأساتذتها، فما أن انتهت المحاضرة الاولى حتى كانت الهام تتسمر في نفس المكان الذي كان يجلس فيه مصطفى هذا الصباح غير راغبة في تصديق ماسمعته من أخبار، لم تدر ماستفعل وكيف ستواجه الموقف، انتابتها رعشة سرت في انحاء جسدها وهي تركز النظر الى الاريكة الخشبية الخالية غير قادرة على الحراك حتى ان كل من ينظر اليها كان يحسبها في حالة من التأمل والتفكير في أمر ما، والحقيقة ان ذهنها لم يكن قادرا على استيعاب مفاجآت هذا الصباح ولا حتى التفكير فيها وكيف حدثت ولماذا..؟؟
اقتربت احدى زميلاتها منها وقد لفت انتباهها ارتعاش جسدها وتغير لون وجهها والتعابير الغريبة التي طغت عليه بشكل لم يكن مألوفا لها من قبل، ظنت في بادئ الامر انها تشعر بالبرد حيث بدت كغصن يتمايل مع نسمات الهواء، غير ان الهام لم تستطع جوابا حين سألتها زميلتها عن امرها، كما لم تلتفت اليها بل آثرت الرحيل عن المكان الذي شهد صباحا لم تتوقع ان يمر مثله عليها في يوم من الايام، لتطلق العنان لدموعها التي جرت على خديها دون ان تستطيع السيطرة عليها..
* * *
ايام طوال لم يعرف لها عدد قضاها بين جدران الظلام في مكان لايعرف عنه شيء سوى انه احد معاقل السلطة التي تتحكم بحياة الناس في هذا البلد، اما سبب اعتقاله ففي الحقيقة لم يكن هناك ثمة اتهام معين موجه اليه، فكل ما في الامر ان اخاه ndash;الأسير- كان قد خرج من معتقلات الأسر بعد ان أعلن توبته وبراءته من سلطات بلاده كما أعلن استعداده للعمل ضمن صفوف ndash;المعارضة- الناشطة في تلك البلاد التي يجهل عنها أي شيء ومن ثم اصبح عنصرا مزعجا للسلطة التي قامت باعتقال جميع افراد عائلته في بغداد واولهم مصطفى ثم والده الكهل وامه العجوز وحتى اخته الصغيرة التي لم تتجاوز الاثني عشر ربيعا، بل والاكثر من ذلك مصادرة اموالهم واملاكهم...
جن جنون مصطفى وهو يرى ماتبقى من عائلته رهائنا بين ايدي جلاوزة لايعشقون سوى رائحة الدم والموت الذي نشر ظلاله في كل بقعة من المحطة المجهولة التي توقف فيها قطار عمره... كان اعتقال عائلته اكثر ماينغص عليه بين جدران اعتاد على ظلامها طيلة اشهر لايعلم كم بلغت من السنوات، كان يجهل خلالها كل شيء مما يدور خارج زنزانته الانفرادية والتي لم يكن ليغادرها الا خلال اوقات ثلاث، صباحا وظهرا ومساءا من كل يوم لدقائق لاتتجاوز الاربع او الخمس في كل مرة عليه خلالها ان يقضي كل حاجته او نصفها المهم ان يعود مسرعا الى زنزانته قبل ان ينال من الضرب والالم مايزيد عن طاقته اذا ماتأخر،...أسعد خبر تلقاه كان ترحيل عائلته من جدران الظلام الى ماوراء الحدود بعيدا عن الظلام، ورغم انه لم يكن يستطيع تقصي اخبارهم في منفاهم الجديد الا انه كان اكثر اطمئنانا من حيث انهم اصبحوا بعيدين عن ايدي جلاوزة الموت، لم يتبق له في هذه البلاد سوى ذكريات لاتحمل اي معنى في مكانه هذا سوى انها كانت تواسيه بعض الشيء في وحدته.. وحتى وسيلة المواساة هذه كان يفقدها شيئا فشيئا لما لهذا المكان من تأثير على ذاكرته وذهنه، فحتى الشعور نفسه كان قد فقده، فهو لايشعر بالألم طالما لم يعرف معنى للسعادة، كما لم يعرف الجوع مادام لايوجد شيء اسمه الشبع خلف جدران الظلام، الشيء الوحيد الذي كان يعرفه هو الحب الذي لولا الحقد والكراهية التي تملأ المكان لكان هو الآخر في طي النسيان مع مانسي وينسى من أيام عمره الماضية، حتى الهام تكاد تصبح في ذاكرته صورة مشوهة لايستطيع توضيح معالمها في مخيلته، وكيف لا وقد نسي حتى صورته هو والتي لم يرها طيلة اعوام الظلام، فلم يكن يستطع ان يعرف ماتغير من ملامحه ومظهره، حتى صور عائلته، والبيت الذي ضمهم، والحي الذي كانوا يقطنونه، معظم الصور ان لم تكن جميعها اصبحت مشوهة المعالم في ذهنه، وطالما انه فقد كل شيء فلم يعد مهتما الى اليوم الذي سينتهي فيه هذا الكابوس الرهيب رغم انه لايعرف ايضا متى ينتهي، وهل سيرى النور مرة اخرى، غير ذلك الذي ينبعث من الاضواء الباهتة لغرف التحقيق وعلب التعذيب وحمامات طافحة تتيح له دقائق من الراحة يقطعها جلاوزة الموت بزعيق يهرب منه حتى الموت، وكيف له ان يعلم وهو لايجرؤ حتى على السؤال، فهو يعرف جيدا عاقبة السؤال، وكل مايعرفه انه محجوز الى اجل غير مسمى، والحجز في هذه البلاد اما ينتهي بالموت واما ينتهي بالجنون فالموت...
* * *
كان الناس قد نسوا حكاية العائلة المنكوبة في احد احياء بغداد او تناسوا ذلك خشية من عواقب التذكر، فالبيت الذي كانت تقطنه اصبح ملكا لاحد جلاوزة الموت، وما من احد يجرؤ على السؤال كيف حدث ذلك..؟! فكل ماتبقى في ذاكرة سكان ذلك الحي الخوف الذي يمنعهم من الهمس او الاشارة لبيت جيرانهم القدامى، فلم تستطع الهام أن تعرف شيئا عن قضية مصطفى وعائلته طيلة الفترة التي ظلت تتردد فيها على ذلك الحي للاستفسار من أي شخص كان، والأغرب من ذلك ان سكان الحي كانوا يخشون التحدث معها ايضا لذا كانوا يبتعدون عنها دائما حتى شعرت باليأس من تقصي اخباره، غير ان سخرية القدر كانت تتربص بها ايضا، فطالما كانت تريد معرفة سبب اعتقال مصطفى والوقوف على اخباره، لكنها لم تفكر مطلقا بأنها ستعرف كل ذلك من قبل جلاوزة الموت انفسهم حين انتهكوا الحرم الجامعي مرة اخرى ndash;وفي كل مرة- ليقتادوها الى احد معاقل الظلام، ليس لسبب، ولكنها كانت تتساءل كثيرا مما افقدها كل شيء، بعد ان عرفت كل شيء عن مصطفى وعائلته، لكنها لم تجد مايمنعها عن مواصلة حبها والاحتفاظ به الى الأبد حيث أخذته معها الى حيث وري جسدها الثرى لتدفن معها أسرار ماحدث معها في معتقل الموت حيث جدران الظلام التي أنهت عمرها في ربيعه بل واطفأته...
* * *
في وسط العاصمة بغداد وامام مرآب للنقل العام توقفت سيارة فارهة كانت تقل مصطفى ليرى النور بعد سنوات طويلة من الاعتقال، حيث كانت قد قطعت مسافة قصيرة في شوارع العاصمة ومصطفى في المقعد الخلفي معصوب العينين وبجانبه أحد جلاوزة الموت، وقبل أن تصل به السيارة الى المكان المقصود تم فتح العصابة السوداء من على عينيه غير انه لم يستطع مقاومة نور الشمس فغطى عينيه بكلتا يديه حتى توقفت السيارة امام المرآب ليأمره مرافقوه بالترجل فورا بعد ان وضعوا في يده حزمة من الدنانير التي لم يسبق له ان رأى مثلها، فقد كان كل شيء حوله قد تغير، فيما عدا ذلك الصنم الجاثم على صدور العباد ويحجب الشمس عن البلاد، فحتى العملة التي كان يتداولها الناس قد تغيرت الى طبعة جديدة ورديئة بسبب سنوات الحصار الذي فرض على البلاد وبعد الأزمة التي شهدتها منطقة الخليج بسبب اجتياح سلطة الظلام للخطوط الجمر وانتهاكه لسيادة جيرانه ومن ثم حرب الخليج الثانية و... واشياء وامور اخرى كثيرة كان يجهلها الا انها لم تكن تشغل له ماتبقى من ذهنه طالما هدأت لعبة القدر بالنسبة له...
جلس على أقرب رصيف للمشاة وهو لايدري ماسيفعل او الى اين سيذهب، فكل ماكان يحمله هو بقايا ذاكرة صدأة لم تكن احسن حالا من الدنانير التي بين يديه، متى اعتقل؟ وكم امضى؟ او في اي عام هو الان؟.. لايعلم، لكنه كان متيقنا بأنه أمضى أعواما طويلة لاتقل عن سبعة او ثمانية في زنزانة الظلام حيث نسي ملفه فوق الرفوف العالية ليهمل هو في قعر الزنازين القذرة رغم الازمات التي عصفت بالبلاد، لم يكن ملفه مهما جدا بالنسبة لجلاوزة الموت بقدر ماكان مهملا حتى حانت ساعة التخلص من عبئه، وليكملوا لعبة القدر شردوه في شوارع العاصمة دون ان يسمحوا له اللحاق بعائلته او حتى اللحاق بالهام...
* * *
عاد لتحدي القدر حين استعاد وعيه وأشتاتا من ذاكرته بعد أشهر اخرى من الضياع بين الفنادق الرخيصة والأعمال المرهقة حين قرر استعادة ماضيه بالبحث عما تبقى منه، فكان يتوقع كل شيء، أي شيء، حتى رحيل الهام الأبدي كان بالنسبة له متوقعا، لكنه لم يكن مستعدا له خصوصا بعد أن علم ان ماحدث لها كان بسبب اللعبة التي يمارسها القدر معه حين اشركها فيها من حيث لايدري، فقد علم انها لم تستطع مواجهة الحياة سوى لشهور معدودة بعد أن أطلق سراحها من معتقل الموت،... لم يعد يشعر بأية رغبة في الحياة، فانها في حكم المنتهية بالنسبة له، كما لم يكن يشعر بأية رغبة في الانتقام، وممن ينتقم؟؟، فهو لايعلم ممن ينتقم لنفسه، اذ لم يكن قد رأى وجها واحدا من وجوه جلاوزة الموت، الشيء الوحيد الذي كان يرغب القيام به هو تحطيم ذلك الصنم القابع وسط المدينة، ولكن هيهات له ان يفعل ذلك طالما يشعر بوجود صنم صغير داخله وداخل كل من حوله، صنم يذكرهم دائما بمعنى الخوف... وهو يعلم جيدا ان عدم تحطيم الاصنام الصغيرة يعني بقاء أكبرها، فلم يملك سوى اللجوء لنعمة النسيان والتسليم مجددا للقدر حيث فكر بالهرب من البلاد للحاق بعائلته لاسيما بعد أن سمع الكثير من الحكايات عن أناس أفلحوا بالهرب من الجحيم، كانت الوسائل كثيرة وماعليه سوى الاختيار، عامين او ثلاث قضاها في أعمال مرهقة ومختلفة حتى قرر أخيرا الرحيل بعد أن اعتاد مرة أخرى على تصاريف الحياة وتقلباتها، واستطاع أيضا جمع مبلغ من المال ظن أنه كاف لرحلته حسب ماقدر لها حين اختار مدينة السليمانية في كوردستان العراق طريقا للخلاص ولاجتياز الحدود من هناك خصوصا وان هذه المدينة ومدنا كوردستانية أخرى كانت قد تحررت منذ مايقرب على الثمانية أعوام من قبضة جلاوزة الموت وسيطرة سلطة الظلام او هكذا بدا له مما سمعه وتخيله...
* * *
لم يصدق نفسه وهو يتجاوز آخر نقطة تفتيش عسكرية دون أن يعترضه أحد، فكل ماقام به هو دفع مبلغ من الدنانير التي سهلت له عملية المرور دون أية عراقيل، كان في لهفة لرؤية رجال ((البيشمركه)) الذين كثيرا ماكان يسمع عنهم فقط لكن لم يسبق أن رأى أحد منهم قط، كان مما يتوقعه منهم معاملة تزيح عنه بعضا مما عاناه في الماضي، وتفتح له آفاق الحياة التي أغلقت أبوابها خلفه مترقبا بقية الابواب التي أمامه، مر عبر أولى نقاط التفتيش الكوردية دون أن يعترضه أحد مما زاد من تفائله وانشراحه في ظن منه انه لم يتبق من الصعوبات الكثير للوصول الى الجانب الاخر من الحدود ليبدأ رحلة البحث عن عائلته او بقاياهم، وعلى الرغم من انه توقع بعض العراقيل الا انه كان يحسب ان أكبرها قد انتهى مع تجاوزه نقاط التفتيش التابعة لجلاوزة الموت، ليستنشق أولى نسمات الحرية، ويتحسس أول خيوط النور الممتد أمامه بعد سنوات طويلة من الظلام...
* * *
مضى كل شيء بسرعة لم يتوقعها حين انقطع فجأة الخيط الأول من الأمل وانحسر النور تدريجيا لتعود الدنيا كما كانت ظلاما بل وأشد عتمة مما اعتادتها عيناه التي لم تخب في استشعار أصابع جلاوزة الموت، فثمة زنزانة جديدة كانت بانتظاره، وكأن زنازين العالم بانتظار تشريفه اليها لتستحق عن جدارة تدشين صفحات ملوثة من التاريخ المستعار لمجد موبوء توصم به البشرية لأجيال وأجيال...
جلاوزة جدد بأسماء أخرى وأزياء أخرى وشعارات أخرى وأصنام أخرى وعناوين أخرى للظلام، كلها تمخضت عن ولادات غير شرعية مع سلطة الظلام...
المجرم يتهم كل الناس بالاجرام.. أصابع الاتهام تتوجه نحو مصطفى المرمي في زنزانة جديدة للظلام، للموت..، مجرم، ارهابي، عميل...، جاء ليهدد أمن واستقرار المنطقة، الادلة كلها ضده وهي عبارة عن أوهام وتخيلات لرؤوس خاوية لاتريد أن تعيش الا على عذاب الانسان، أيا كان، المهم أن يسقط بين الايادي القذرة وهي كفيلة باجباره على الاعتراف بأي شيء، المهم أن يعترف ويقر حتى ولو بجريمة لم يرتكبها او جريمة كانوا سباقين الى ارتكابها..
الكذاب يتهم كل الناس بالكذب.. لم تنفع الحكاية التي سردها لهم حول حياته وماضيه متهمين اياه بالتلفيق ونسج الاكاذيب للتنصل من التهم الموجهة اليه، وما محاولاته الا أضغاث أحلام، غير انه لم يتوسل لأنه منذ زمن طويل لم يعد يشعر بأي رغبة في الحياة، كما تعلم خلال تجربته الطويلة خلف جدران الظلام بأن لايطلب الحياة ممن لايعرف الا الموت طريقا للحياة.. تحققت العدالة التي تبغيها سلطة الظلام عبر قانون صوري ومحكمة صورية وقاض صوري وسجن حقيقي، ليتيقن اخيرا ان الحرية والعدالة والنور التي تركض هواجسها خلفه، ماهي جميعا الا أضغاث أحلام...
* * *
لم يكن يائسا من الحياة بالقدر الذي كان محبطا منها، مترقبا مقالبها، فها هو ذات الشعور يعاوده ولكن هذه المرة بصورة لم يألفها هو نفسه، فقد أزعج اقرب إنسانة الى قلبه -الهام- تلك التي تشعره بطعم الحياة، ولا يعرف أي معنى للحياة دونها، مذ تعرف عليها عندما كانا في العام الاول من نفس الكلية، وهاهي أربعة أعوام تمر على علاقتهما التي لم يخفيا خيوطها أو أي شيء حولها عن بعضيهما، فما أن سرت مشاعر العشق في نفسيهما حتى اعترفا بذلك وبما يحمل قلباهما من مشاعر انسانية دافئة ليمضيا أجمل أيام حياتهما بين جدران كلية الزراعة ببغداد...
كل شيء كان يدور في ذهنه بسرعة، لم يتذكر أنه ضايقها في أي وقت من الأوقات، كما لم يكن يشعرها بالاحباط الذي يساوره حينما يكون بعيدا عنها، الا انه اليوم لايدري مايحدث له..، كما لم يكن يعرف ماالذي يمنعه من استدراك الموقف الذي أدى الى ازعاجها، فلم يكن يرغب بفعل أي شيء من اجل نفسه، لكن!! من اجلها لابد من التحرك، فنهض من مكانه متثاقلا ليسير بضع خطوات بطيئة في أثرها...
كانت الهام تحاول اخفاء انزعاجها وهي تتوسط مجموعة من زميلاتها وزملائها الذين بدأوا بالتوافد على الدوام ودخول قاعة المحاضرات بانتظار أولى محاضراتهم التي لم يتبق على بدئها سوى دقائق قليلة... كانت تترقب باب القاعة في لهفة لرؤية مصطفى الذي تأخر على غير عادته، لم تأبه بأي مما يدور حولها من احاديث سواء كانت موجهة لها أم لا، فذهنها كان مشغولا وهي تردد بهمس كلمات غير مفهومة، لم تطق الانتظار حين أزاحت لحظات الانزعاج واستذكرت سنوات من الحب وهي تتوجه مسرعة الى حيث تركته جالسا، لكنها فوجئت باختفائه، وأخيرا قررت العودة الى قاعة المحاضرات والاستسلام للانتظار الممل...
* * *
ثمة فرق كبير بين النور والعتمة، لايشعر به الا من جرب دهاليز الظلام وسراديب الموت الاسود.. فالمحطة المجهولة التي حط القدر رحال مصطفى فيها كانت أشد مما يمكن أن يتوقع، وأكبر من شعور الاحباط الذي كان يراوده، فخلال دقائق معدودة أصبح رهينة صندوق ضيق لاحدى السيارات الفارهة التي استقلها مجهولون ليقتادوه معصوب العينين مقيد اليدين الى مكان مجهول بعد أن استباحوا الحرم الجامعي بهدوء..!!
لم يقاوم أو حتى يستفسر منهم عن سبب اعتقاله، فهم كما أوحت غريزته من رجال السلطة ويحق لهم أن يفعلوا مايشاءون، كما لايحق له السؤال أو الاعتراض حتى لو كان ثمة خطأ ما في اعتقاله، فهو يعلم ان الاستسلام اضمن وسيلة لتجنب الأذى الذي قد يتعرض له فيما لو اعترض، كان المكان الذي حشر فيه يسهل عليه تصور وضع الجنين في بطن امه، وياله من جنين لايدري أيضحك أم يبكي او يصرخ في استقبال ولادته الجديدة، والعالم الجديد الذي سيفتح عينيه عليه، كان واثقا من انها سخرية القدر تعبث معه كما كان يتوقع ويترقب، السخرية التي تهزأ بأقدس مخلوق على وجه البسيطة وتنتهك حرماته لسبب او دونه، السخرية التي أودت به الى ماكان يسمع عنه فحسب من محاجر الاعتقال الضيقة، لكنها على كل حال كانت أهون من صندوق السيارة الذي حشر فيه، فهناك مكان ليسند ظهره على جدار ويعلق رجليه على الجدار المقابل، كما يلامس بكتفيه الجدارين الاخرين، ويستمتع بالظلمة التي تتيح له المزيد من التأمل في معنى النور الحقيقي الذي ينبعث من مكان ما في داخله فحسب، ولو كان خيطا رفيعا يتمسك من خلاله ببقايا حياة...
* * *
سرعان ماانتشر خبر اعتقال مصطفى بين طلبة كلية الزراعة وأساتذتها، فما أن انتهت المحاضرة الاولى حتى كانت الهام تتسمر في نفس المكان الذي كان يجلس فيه مصطفى هذا الصباح غير راغبة في تصديق ماسمعته من أخبار، لم تدر ماستفعل وكيف ستواجه الموقف، انتابتها رعشة سرت في انحاء جسدها وهي تركز النظر الى الاريكة الخشبية الخالية غير قادرة على الحراك حتى ان كل من ينظر اليها كان يحسبها في حالة من التأمل والتفكير في أمر ما، والحقيقة ان ذهنها لم يكن قادرا على استيعاب مفاجآت هذا الصباح ولا حتى التفكير فيها وكيف حدثت ولماذا..؟؟
اقتربت احدى زميلاتها منها وقد لفت انتباهها ارتعاش جسدها وتغير لون وجهها والتعابير الغريبة التي طغت عليه بشكل لم يكن مألوفا لها من قبل، ظنت في بادئ الامر انها تشعر بالبرد حيث بدت كغصن يتمايل مع نسمات الهواء، غير ان الهام لم تستطع جوابا حين سألتها زميلتها عن امرها، كما لم تلتفت اليها بل آثرت الرحيل عن المكان الذي شهد صباحا لم تتوقع ان يمر مثله عليها في يوم من الايام، لتطلق العنان لدموعها التي جرت على خديها دون ان تستطيع السيطرة عليها..
* * *
ايام طوال لم يعرف لها عدد قضاها بين جدران الظلام في مكان لايعرف عنه شيء سوى انه احد معاقل السلطة التي تتحكم بحياة الناس في هذا البلد، اما سبب اعتقاله ففي الحقيقة لم يكن هناك ثمة اتهام معين موجه اليه، فكل ما في الامر ان اخاه ndash;الأسير- كان قد خرج من معتقلات الأسر بعد ان أعلن توبته وبراءته من سلطات بلاده كما أعلن استعداده للعمل ضمن صفوف ndash;المعارضة- الناشطة في تلك البلاد التي يجهل عنها أي شيء ومن ثم اصبح عنصرا مزعجا للسلطة التي قامت باعتقال جميع افراد عائلته في بغداد واولهم مصطفى ثم والده الكهل وامه العجوز وحتى اخته الصغيرة التي لم تتجاوز الاثني عشر ربيعا، بل والاكثر من ذلك مصادرة اموالهم واملاكهم...
جن جنون مصطفى وهو يرى ماتبقى من عائلته رهائنا بين ايدي جلاوزة لايعشقون سوى رائحة الدم والموت الذي نشر ظلاله في كل بقعة من المحطة المجهولة التي توقف فيها قطار عمره... كان اعتقال عائلته اكثر ماينغص عليه بين جدران اعتاد على ظلامها طيلة اشهر لايعلم كم بلغت من السنوات، كان يجهل خلالها كل شيء مما يدور خارج زنزانته الانفرادية والتي لم يكن ليغادرها الا خلال اوقات ثلاث، صباحا وظهرا ومساءا من كل يوم لدقائق لاتتجاوز الاربع او الخمس في كل مرة عليه خلالها ان يقضي كل حاجته او نصفها المهم ان يعود مسرعا الى زنزانته قبل ان ينال من الضرب والالم مايزيد عن طاقته اذا ماتأخر،...أسعد خبر تلقاه كان ترحيل عائلته من جدران الظلام الى ماوراء الحدود بعيدا عن الظلام، ورغم انه لم يكن يستطيع تقصي اخبارهم في منفاهم الجديد الا انه كان اكثر اطمئنانا من حيث انهم اصبحوا بعيدين عن ايدي جلاوزة الموت، لم يتبق له في هذه البلاد سوى ذكريات لاتحمل اي معنى في مكانه هذا سوى انها كانت تواسيه بعض الشيء في وحدته.. وحتى وسيلة المواساة هذه كان يفقدها شيئا فشيئا لما لهذا المكان من تأثير على ذاكرته وذهنه، فحتى الشعور نفسه كان قد فقده، فهو لايشعر بالألم طالما لم يعرف معنى للسعادة، كما لم يعرف الجوع مادام لايوجد شيء اسمه الشبع خلف جدران الظلام، الشيء الوحيد الذي كان يعرفه هو الحب الذي لولا الحقد والكراهية التي تملأ المكان لكان هو الآخر في طي النسيان مع مانسي وينسى من أيام عمره الماضية، حتى الهام تكاد تصبح في ذاكرته صورة مشوهة لايستطيع توضيح معالمها في مخيلته، وكيف لا وقد نسي حتى صورته هو والتي لم يرها طيلة اعوام الظلام، فلم يكن يستطع ان يعرف ماتغير من ملامحه ومظهره، حتى صور عائلته، والبيت الذي ضمهم، والحي الذي كانوا يقطنونه، معظم الصور ان لم تكن جميعها اصبحت مشوهة المعالم في ذهنه، وطالما انه فقد كل شيء فلم يعد مهتما الى اليوم الذي سينتهي فيه هذا الكابوس الرهيب رغم انه لايعرف ايضا متى ينتهي، وهل سيرى النور مرة اخرى، غير ذلك الذي ينبعث من الاضواء الباهتة لغرف التحقيق وعلب التعذيب وحمامات طافحة تتيح له دقائق من الراحة يقطعها جلاوزة الموت بزعيق يهرب منه حتى الموت، وكيف له ان يعلم وهو لايجرؤ حتى على السؤال، فهو يعرف جيدا عاقبة السؤال، وكل مايعرفه انه محجوز الى اجل غير مسمى، والحجز في هذه البلاد اما ينتهي بالموت واما ينتهي بالجنون فالموت...
* * *
كان الناس قد نسوا حكاية العائلة المنكوبة في احد احياء بغداد او تناسوا ذلك خشية من عواقب التذكر، فالبيت الذي كانت تقطنه اصبح ملكا لاحد جلاوزة الموت، وما من احد يجرؤ على السؤال كيف حدث ذلك..؟! فكل ماتبقى في ذاكرة سكان ذلك الحي الخوف الذي يمنعهم من الهمس او الاشارة لبيت جيرانهم القدامى، فلم تستطع الهام أن تعرف شيئا عن قضية مصطفى وعائلته طيلة الفترة التي ظلت تتردد فيها على ذلك الحي للاستفسار من أي شخص كان، والأغرب من ذلك ان سكان الحي كانوا يخشون التحدث معها ايضا لذا كانوا يبتعدون عنها دائما حتى شعرت باليأس من تقصي اخباره، غير ان سخرية القدر كانت تتربص بها ايضا، فطالما كانت تريد معرفة سبب اعتقال مصطفى والوقوف على اخباره، لكنها لم تفكر مطلقا بأنها ستعرف كل ذلك من قبل جلاوزة الموت انفسهم حين انتهكوا الحرم الجامعي مرة اخرى ndash;وفي كل مرة- ليقتادوها الى احد معاقل الظلام، ليس لسبب، ولكنها كانت تتساءل كثيرا مما افقدها كل شيء، بعد ان عرفت كل شيء عن مصطفى وعائلته، لكنها لم تجد مايمنعها عن مواصلة حبها والاحتفاظ به الى الأبد حيث أخذته معها الى حيث وري جسدها الثرى لتدفن معها أسرار ماحدث معها في معتقل الموت حيث جدران الظلام التي أنهت عمرها في ربيعه بل واطفأته...
* * *
في وسط العاصمة بغداد وامام مرآب للنقل العام توقفت سيارة فارهة كانت تقل مصطفى ليرى النور بعد سنوات طويلة من الاعتقال، حيث كانت قد قطعت مسافة قصيرة في شوارع العاصمة ومصطفى في المقعد الخلفي معصوب العينين وبجانبه أحد جلاوزة الموت، وقبل أن تصل به السيارة الى المكان المقصود تم فتح العصابة السوداء من على عينيه غير انه لم يستطع مقاومة نور الشمس فغطى عينيه بكلتا يديه حتى توقفت السيارة امام المرآب ليأمره مرافقوه بالترجل فورا بعد ان وضعوا في يده حزمة من الدنانير التي لم يسبق له ان رأى مثلها، فقد كان كل شيء حوله قد تغير، فيما عدا ذلك الصنم الجاثم على صدور العباد ويحجب الشمس عن البلاد، فحتى العملة التي كان يتداولها الناس قد تغيرت الى طبعة جديدة ورديئة بسبب سنوات الحصار الذي فرض على البلاد وبعد الأزمة التي شهدتها منطقة الخليج بسبب اجتياح سلطة الظلام للخطوط الجمر وانتهاكه لسيادة جيرانه ومن ثم حرب الخليج الثانية و... واشياء وامور اخرى كثيرة كان يجهلها الا انها لم تكن تشغل له ماتبقى من ذهنه طالما هدأت لعبة القدر بالنسبة له...
جلس على أقرب رصيف للمشاة وهو لايدري ماسيفعل او الى اين سيذهب، فكل ماكان يحمله هو بقايا ذاكرة صدأة لم تكن احسن حالا من الدنانير التي بين يديه، متى اعتقل؟ وكم امضى؟ او في اي عام هو الان؟.. لايعلم، لكنه كان متيقنا بأنه أمضى أعواما طويلة لاتقل عن سبعة او ثمانية في زنزانة الظلام حيث نسي ملفه فوق الرفوف العالية ليهمل هو في قعر الزنازين القذرة رغم الازمات التي عصفت بالبلاد، لم يكن ملفه مهما جدا بالنسبة لجلاوزة الموت بقدر ماكان مهملا حتى حانت ساعة التخلص من عبئه، وليكملوا لعبة القدر شردوه في شوارع العاصمة دون ان يسمحوا له اللحاق بعائلته او حتى اللحاق بالهام...
* * *
عاد لتحدي القدر حين استعاد وعيه وأشتاتا من ذاكرته بعد أشهر اخرى من الضياع بين الفنادق الرخيصة والأعمال المرهقة حين قرر استعادة ماضيه بالبحث عما تبقى منه، فكان يتوقع كل شيء، أي شيء، حتى رحيل الهام الأبدي كان بالنسبة له متوقعا، لكنه لم يكن مستعدا له خصوصا بعد أن علم ان ماحدث لها كان بسبب اللعبة التي يمارسها القدر معه حين اشركها فيها من حيث لايدري، فقد علم انها لم تستطع مواجهة الحياة سوى لشهور معدودة بعد أن أطلق سراحها من معتقل الموت،... لم يعد يشعر بأية رغبة في الحياة، فانها في حكم المنتهية بالنسبة له، كما لم يكن يشعر بأية رغبة في الانتقام، وممن ينتقم؟؟، فهو لايعلم ممن ينتقم لنفسه، اذ لم يكن قد رأى وجها واحدا من وجوه جلاوزة الموت، الشيء الوحيد الذي كان يرغب القيام به هو تحطيم ذلك الصنم القابع وسط المدينة، ولكن هيهات له ان يفعل ذلك طالما يشعر بوجود صنم صغير داخله وداخل كل من حوله، صنم يذكرهم دائما بمعنى الخوف... وهو يعلم جيدا ان عدم تحطيم الاصنام الصغيرة يعني بقاء أكبرها، فلم يملك سوى اللجوء لنعمة النسيان والتسليم مجددا للقدر حيث فكر بالهرب من البلاد للحاق بعائلته لاسيما بعد أن سمع الكثير من الحكايات عن أناس أفلحوا بالهرب من الجحيم، كانت الوسائل كثيرة وماعليه سوى الاختيار، عامين او ثلاث قضاها في أعمال مرهقة ومختلفة حتى قرر أخيرا الرحيل بعد أن اعتاد مرة أخرى على تصاريف الحياة وتقلباتها، واستطاع أيضا جمع مبلغ من المال ظن أنه كاف لرحلته حسب ماقدر لها حين اختار مدينة السليمانية في كوردستان العراق طريقا للخلاص ولاجتياز الحدود من هناك خصوصا وان هذه المدينة ومدنا كوردستانية أخرى كانت قد تحررت منذ مايقرب على الثمانية أعوام من قبضة جلاوزة الموت وسيطرة سلطة الظلام او هكذا بدا له مما سمعه وتخيله...
* * *
لم يصدق نفسه وهو يتجاوز آخر نقطة تفتيش عسكرية دون أن يعترضه أحد، فكل ماقام به هو دفع مبلغ من الدنانير التي سهلت له عملية المرور دون أية عراقيل، كان في لهفة لرؤية رجال ((البيشمركه)) الذين كثيرا ماكان يسمع عنهم فقط لكن لم يسبق أن رأى أحد منهم قط، كان مما يتوقعه منهم معاملة تزيح عنه بعضا مما عاناه في الماضي، وتفتح له آفاق الحياة التي أغلقت أبوابها خلفه مترقبا بقية الابواب التي أمامه، مر عبر أولى نقاط التفتيش الكوردية دون أن يعترضه أحد مما زاد من تفائله وانشراحه في ظن منه انه لم يتبق من الصعوبات الكثير للوصول الى الجانب الاخر من الحدود ليبدأ رحلة البحث عن عائلته او بقاياهم، وعلى الرغم من انه توقع بعض العراقيل الا انه كان يحسب ان أكبرها قد انتهى مع تجاوزه نقاط التفتيش التابعة لجلاوزة الموت، ليستنشق أولى نسمات الحرية، ويتحسس أول خيوط النور الممتد أمامه بعد سنوات طويلة من الظلام...
* * *
مضى كل شيء بسرعة لم يتوقعها حين انقطع فجأة الخيط الأول من الأمل وانحسر النور تدريجيا لتعود الدنيا كما كانت ظلاما بل وأشد عتمة مما اعتادتها عيناه التي لم تخب في استشعار أصابع جلاوزة الموت، فثمة زنزانة جديدة كانت بانتظاره، وكأن زنازين العالم بانتظار تشريفه اليها لتستحق عن جدارة تدشين صفحات ملوثة من التاريخ المستعار لمجد موبوء توصم به البشرية لأجيال وأجيال...
جلاوزة جدد بأسماء أخرى وأزياء أخرى وشعارات أخرى وأصنام أخرى وعناوين أخرى للظلام، كلها تمخضت عن ولادات غير شرعية مع سلطة الظلام...
المجرم يتهم كل الناس بالاجرام.. أصابع الاتهام تتوجه نحو مصطفى المرمي في زنزانة جديدة للظلام، للموت..، مجرم، ارهابي، عميل...، جاء ليهدد أمن واستقرار المنطقة، الادلة كلها ضده وهي عبارة عن أوهام وتخيلات لرؤوس خاوية لاتريد أن تعيش الا على عذاب الانسان، أيا كان، المهم أن يسقط بين الايادي القذرة وهي كفيلة باجباره على الاعتراف بأي شيء، المهم أن يعترف ويقر حتى ولو بجريمة لم يرتكبها او جريمة كانوا سباقين الى ارتكابها..
الكذاب يتهم كل الناس بالكذب.. لم تنفع الحكاية التي سردها لهم حول حياته وماضيه متهمين اياه بالتلفيق ونسج الاكاذيب للتنصل من التهم الموجهة اليه، وما محاولاته الا أضغاث أحلام، غير انه لم يتوسل لأنه منذ زمن طويل لم يعد يشعر بأي رغبة في الحياة، كما تعلم خلال تجربته الطويلة خلف جدران الظلام بأن لايطلب الحياة ممن لايعرف الا الموت طريقا للحياة.. تحققت العدالة التي تبغيها سلطة الظلام عبر قانون صوري ومحكمة صورية وقاض صوري وسجن حقيقي، ليتيقن اخيرا ان الحرية والعدالة والنور التي تركض هواجسها خلفه، ماهي جميعا الا أضغاث أحلام...
* * *
التعليقات