تشويش ذهني أم عقوق للضاد أم ماذا؟
الجزائريون.. واللاَّ لُغة!
كامل الشيرازي من الجزائر: رأى الدكتور والباحث السميولوجي الجزائري عبد المالك مرتاض، أنّ مواطنيه أضحوا يدورون في فلك اللا لغة، في ظلّ تبعثر المسارات والاستعمالات اللغوية في البلاد، ففي وقت يدافع فيه السواد الأعظم من الجزائريّين عن العربيّة باستماتة وينافحون عنها، هناك فريق آخر متعصّب للأمازيغيّة مدافع عنها، وثالث متشيّع للفرنسيّة؛ وبين مندرج للغةٍ رابعة تأخذ من الينابيع السابقة بديلا، وهذه اللغة الأخيرة باتت اللّغة السائدة في مختلف الشوارع والأسواق والمجالس العامة والمنتديات في الجزائر، وفي وقت انتشرت فيه اللغة ذاتها كالهشيم واقتحمت أكثر المناطق عذرية وتوهجا، لم يبادر أحد بالحديث عن أفق لغوي مهدد بالتبّدد والفصام.
ويرى د/ مرتاض، الذي سبق له أن ترأس المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر، وله عديد الإحرازات الأكاديمية النفيسة، أنّ ظاهرة التشوّه اللغوي استفحلت كثيرا في الجزائر، على نحو صار واجبا معه التحرك لتقويم الوضع اللساني في البلد، بعد أن أصبح منشّطوا التليفزيون والإذاعة يغترفون من لّغة تنتمي إلى الصنف الرابع، موسومة بـ quot; الساقطة quot; يخاطبون بها، ويتخاطبون، دونما إلقاء بال للغة الضاد وجواهر العربيّة السليمة، وذلك باستعمالهم ألفاظاً هجينةً تشجّع متحدّثيهم على أن يحادثوهم بالْمِثْل؛ وهنا يقع السقوط اللغويّ إلى أبشع مستوياته.
ويتساءل مرتاض، عما فعلته المدرسة الجزائريّة للتصدي إلى هذا النزيف، ولِمَ أنفقت الدّولة الجزائريّة عشرات الآلاف من الملايير لتعليم الأطفال؟ أمن أجل أن يكبروا فيتحدّثوا هذه اللّغة الهجينة التي يمكن أن نطلق عليها (اللاّ لغة)، التي تتغذّى من العربيّة والفرنسيّة والأمازيغيّة معاً، وربما التركيّة والمالطيّة -على الرغم من عروبيّة المالطيّة أصلاً- وربما الإسبانيّة والإيطالية أيضاً؟ ويتحسر مرتاض عن واقع كهذا هو بمثابة خيانة لذاكرة الشهداء، ومصادرة لما يتمثّله
المصلحون والمفكّرون والمنظّرون.
ويعارض الأكاديمي الجزائري المخضرم، التصور القائل بحرية تحدّث الناس بأيّ لغة شاءوا، والمهمّ في الحكاية أن يتفاهموا فيما بينهم، ولو بلغة الإشارات (..)، إذ يؤكد أنّ اللّغة كمفتاح أوّل للمعرفة، ولا يمكن دون إتقانها إتقاناً كاملاً، أو الرنّو إلى إنتاج هذه المعرفة، في أيّ مستوىً من مستوياتها، حتى وإن كان البعض يتصورون أنّ الجزائريّين سينتجون المعرفة العليا بلّغة الرابعة، أو بلغة quot;الإسـبرنتوquot; الفاشلة.
ويحترز مرتاض على هذا الخليط البشع من الأصوات المتنافرة أو ما يسميه (لغة رابعة)، ويعزوه إلى مدى التشويش الذي أصاب العقول، والاضطراب الذي خالط الأذهان، إلى درجة أنّ عامّة الشباب الجزائريّين لم يعودوا قادرين على تركيب ثلاثِ جمل متتابعة تركيباً صحيحاً، لغويّاً ونحويّاً ودلاليّاً! ويتساءل عن مؤدى كل هذا العيّ الذي أصاب ألسنة الجيل الجزائريّ الجديد فتلجلجَتْ؟ وهل ما يراه المرء ويسمعه في الجزائر هو جهل مركّب فعلاً بمعرفة العربيّة، أو هناك من يتعمُّد إيذاء هذه العربيّة بتعويمها في هذه الأمشاج من الأصوات المتنافرة، والألفاظ المتناكرة؛ حتى لا يدري الواحد أيّ لغة يسمع، وبأيٍّ من ألفاظها يتخاطب هؤلاء الناس؟
ويتصور مرتاض بحساسية المسارعة إلى تكوين جيل المستقبل في المستقبل تكويناً لغويّاً سليماً وصحيحاً، بحيث يقع التنافس في حذق العربيّة ليقعَ الحديثُ والكتابة بها دون عقدة، وحتى يتم ذلك يشدّد الدكتور المختص في السمياء على ضورة تلقين جزائريي هذا الزمان، كيف يتكلّمون العربيّة بطلاقة وسلاسة منذ نعومة أظافرهم؛ فلا يرطّنوا بالعربيّة، كأنّهم يرطّنون بالعجميّة؛ فإذا الصديق في نطقهم (سديق)؛ وإذا الصاروخ في حديثهم (ساروخ)، وإذا ضخّة المطر، وهذا موجَّهٌ إلى أصحاب الأحوال الجويّة (زخّة) التي لا وجود لها إلاّ في عربيّتهم العجيبة، على حد تعبيره.
وينتهي مرتاض إلى أنّ العيب ليس كامن في الجيل الجديد الذي أبدى كثير من براعمه قدرتهم على تعلّم لغات كثيرة تعلّماً سليماً، بل يلقي باللائمة على الآباء، والمؤطرين وتحديدا نظام التعليم الضعيف في بلاده، لذا يصر على توخي الجدية في إنهاء وضع أعرج له تبعاته على منظومة المجتمع الجزائري طبعة 2008.