حين وقع في يدي ديوان قديم لزكريا محمد- وكان ذلك في النصف الثاني من الثمانينات، أيام طاغوت الرقابة العسكرية وشحّ الكتب- فرحت به، واعتبرت نفسي محظوظاً. فلقد كان ديواناً غير ما ألفت من quot;دواوينquot; في تلك السنوات البعيدة.
من يومها، بدأت رحلة اهتمامي بزكريا.
جاء مع الذين جاءوا، إثر اتفاقية أوسلو. وبعد فترة، صرتُ زميله في العمل الثقافي الرسمي. وانتظرت منه كتاباً جديداً، فلم يخذلني. وكان جديدُه رواية. رواية أهدانيها في حينه، فقرأتها، بما تستحق من تركيز واهتمام.
ثم تعرّفت على وجه آخر من وجوه زكريا، هو زكريا كاتب المقال الصحفي. وأشهد أنه في هذا المقام، من قلّة تستحوذ على اهتمامي. فهو كاتب أصيل، يكتب ذاته، وله بصمة وأسلوب فريدان.
ومع الأيام فاجأني زكريا بوجه رابع لا يخطر على بال، هو وجه الباحث التاريخي المجدد.
ومع كل ذلك، فزكريا، بالنسبة لي ولنا جميعاً، هو أولاً وأخيراً: زكريا الشاعر، الشاعر الكبير.
شاعر لم يأخذ حقه، مثل سواه من مجايليه- سواء في المدونة النقدية، أو الإعلام الثقافي العربي.
فهو، شأن الشعراء الأصلاء، مشغول بنصه فقط. ولمّا كنا نفتقد إلى ما هو ضروري من حسّ النزاهة، كنقاد وإعلاميين ثقافيين، فقد حاق الصمت، بزكريا وأمثاله.
وهو لم يكذّب خبراً. تمادى أكثر فأكثر في عزلته المزدوجة: عزلته عن النشر وعزلته عن الوسط الثقافي برام الله. فاءَ إلى صدقه الحارق، مثل شهيد، واكتفى بكتابة الشعر دون نشره غالباً، وبكتابة المقال السياسي الجريء مع نشره على الملأ، دون خوف ودون حسابات.
كنت أقدّر له هذه الشجاعة التي تفرّد بها دوناً عن كل المثقفين القادمين بعد أوسلو. إذ كان بينهم نسيجاً وحده: يقول كلمته في وقتها تماماً، ولا يتورّع عن ذكر أسماءٍ لفاسدين، لهم صولة وبطش، في المشهد الفلسطيني.
إنه زكريا نفسه في كل ما يكتب. زكريا بلا رتوش أو تعميات. يذهب إلى الهدف مباشرة، ولا يحتاج إلى التواء أو مراوغة.
لهذا أحببته. ولهذا احترمته. ولهذا وضعته في مكانة لم يصل إليها سواه.
في الأسابيع الأولى من الألفية الجديدة، سمعت أنه مصاب بمرض عضال. تألّمت، حتى نسيت أن أرفع له تلفوناً. وبعد سنة أو سنتين، عرفت من أصدقاء مشتركين، أنه تعافى تماماً. لكنني لم أطمئن، إلا عندما قرأت مقالة له في مجلة quot;مشارفquot;، يشير فيها عرضَاً إلى quot;عبورهquot; الكأس المرّة. يقول[ لقد مضى زمن الخوف بالنسبة لي. فقبل عام ونصف أصبت بسرطان القولون وأجريت عملية، وبدا لي- كما آمل
- أنني نجوت. ومنذ تلك اللحظة اعتقدت أن الله قد منحني وقتاً إضافياً لكي أفعل بعض الأشياء. لذا فأنا الآن ألعب في الوقت الإضافيّ، ومن دون خوف.]
فرحت بالبشرى، حتى نسيت أن أرفع له تلفوناً. لكنه ظلّ في خاطري دوماً. لا أُفوّت قصيدة أو مقالاً أو كتاباً من كتبه إلا قرأته ونبّهت الأصدقاء.
والآن تجيء الأخبار بما لا يسرّ: زكريا مريض. زكريا متعب. زكريا... صه يا صديقي ولا تكمل! فهذا شاعر عزيز عليّ. شاعر ومثقف لا يختلف جوهره عن مخبره. وذا نوع نادر من مثقفينا يكاد ينقرض الآن. لذا لا تهيئني لما هو أقسى، بل جئني بديوانه الجديد الصادر حديثاً من رام الله، ودعني معه. فهذا هو زكريا الذي نحب. زكريا الذي نضرع أن يعبر- مرة ثانية- الكأس المرّة. ليعيش لنا نحن محبيه وعارفي فضله. وليعيش لأولاده ولزوجته: إنساناً نبيلاً في زمن الكَذَبة. وشاعراً كبيراً في زمن الكَذَبة أيضاً.