سيرة حياة أحمد أبو مطر، لمن يعرفها منذ بداياتها، هي سيرة الفلسطيني النموذجي. الفلسطيني كما يليق به أن يكون، وكما نحلم له أن يكون. فهذا quot;الطفلquot; الذي هُجّر من مدينة بئر السبع، ورائحة الحليب لم تكد تجفّ على شفتيه، كان من الممكن ألا يكون شيئاً. كان من الممكن أن يُضاف إلى ألوف الأطفال، الذين بخسارتهم لأرض آبائهم وأمهاتهم، خسروا كل شيء، فصاروا عبئاً حتى على آبائهم وأمهاتهم.
لكن أحمد أبو مطر، كان شيئاً آخر. بنى نفسه طوبة طوبة، وكان رائدهُ في هذا طموحهُ المقدس بأن quot;يكونquot; وأن quot;يصيرquot;. وما أصعب أن تكون وأن تصير وأنت فرد في تجمّعٍ للاّجئين المعدمين، اسمه quot;مخيم رفحquot;. كل الظروف ضدك، وكل الظروف تدفعك دفعاً لأن تسقط تحت quot;رِقّ الضرورةquot;، وتبقى هناك للأبد.
كثيرون، على أية حال، نجوا من هذا المآل. استمسكوا بالعلْم (وقد صار العلمُ رأسمالَ الفلسطيني الوحيدَ، في الخمسينات والستينات) وتفوّقوا فيه، مرحلة تلو مرحلة، وصولاً إلى الجامعة، ومروراً بالماجستير، وانتهاء بالدكتوراه.
لكن قليلين من هؤلاء quot;الكثيرينquot;، مَن نجوا حقاً. إذ أنّ معظمهم، بقيَ أسير المعادلة الأولى وقد تغيّرت، فمن رِقّ الضرورة انتقلوا إلى رِقّ الرفاهية. وكمنوا هناك. أو ظلّوا في منتصف المسافة بين(الرِّقيْن): يخافون من النزول إلى الرقّ الأول، ويحلمون بالصعود إلى الرقّ الثاني.
هكذا باختصار يمكن تلخيص حياة مئات الألوف من المتعلّمين الفلسطينيين (الشريحة الواسعة التي خرجَ منها فيما بعد كلّ مثقفينا تقريباً) سواء من بقيَ منهم في الداخل، أو من هاجروا في أربعة أركان الكوكب.
قلّة فقط، بل قلة القلة، من استطاعوا تجاوز رقّ الضرورة ورقّ الرفاهية ورقّ الما بين_بين، فانتقلوا بأفعالهم وأقوالهم، من ذلك الرقّ إلى أفق الحرية، بالمعنى النبيل والسامي للكلمة.
ولقد كان أحمد أبو مطر واحداً منهم. واحداً من كوكبة نادرة ثمينة، اختارت أن تنحاز لأفق الحريّة، وألا تخاف من quot;دفع الثمنquot;.
خرجَ بعلْمه وكفاحه وإرادته الصلبة، من رقّ الضرورة، إلى فضاء الحرية الواسع، دون أن يسقط في رقّ الرفاهية أو حلمها، كغالبية المتعلّمين والمثقفين من أبناء جيله والأجيال التي تلت.
كان بحثه الأكاديمي الرائد quot;الرواية في الأدب الفلسطيني من1950 إلى 1975quot; (والذي نال عليه درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة الإسكندرية، بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى، في النصف الثاني من عقد السبعينات، أي أواخر الزمن الذهبي للجامعات المصرية) يؤشر إلى ميلاد، ليس فقط باحثٍ متميز، وإنما، وهذا هو مقصدنا الآن، ميلاد مثقفٍ فلسطيني متميّز ورائد كذلك. وستثبت الأيام صدق وفحوى هذه الصفة الجليلة، حين يخرج أحمد أبو مطر من خلف أسوار الجامعات، في غير بلد عربي، بعد تجربة اغتراب مُحبطة أوصلته إلى يقين شخصيّ وعامّ بأن (لا فائدة من كل هذا) في منطقة تغصّ بالطغيان. ليلتحمَ، وقد ترك المنطقة نهائيّاً، وهاجر إلى الشمال الأوروبي، بمآسي العرب المعاصرين وقضاياهم اليومية الملّحة. فينحاز في كل ما يكتب، إلى همومهم الأصلية وإلى توقهم الحزين للديمقراطية بوجهيها العقلاني والعلماني، بما هي ثقافة مستقبلهم، وبما هم قابعون تحت نير ديكتاتوريات قومية وأصوليات دينية، تجرّهم جرّاً إلى التحجّر والتخلّف والعطالة، من أقصى المحيط إلى أقصى الخليج.
اختار أبو مطر أن يغرّد خارج السرب، ليس العربي (وهو هنا الأهون) بل الفلسطيني(وهو دائماً الأصعب). فما أصعب أن تكون مثقفاً فلسطينياً ليبرالياً حقاً، وتنويرياً حقاً، دون أن تنالك السهام من وطنييك وإسلاموييك وقومجييك ويسارييك وشيوعييك وسواهم. ودون أن تنالك سهامُ النخبة السياسية وسهام المجتمع معاً.
لذلك يندر أن يوجد مثقفون فلسطينيون ليبراليون بين المثقفين الفلسطينيين في العموم. وإن وجد هؤلاء، فهم غالباً quot;موجودون على استحياءquot; أي غير فاعلين بالمرّة.
من هنا، تأتي أهمية وتفرّد أحمد أبو مطر. فهو المثقف الفلسطيني الليبرالي الإنساني، الشجاع والفاعل. الحاضر بكلمته دوماً. الواقف مع قضايا الأقليّات في الوطن العربي، ومع قضايا المرأة العربية المظلومة، ومع قضايا التنوير عموماً.
وليس هذا مجرد كلام. فوقوفه، مبكّراً نسبياً، مع قضية إخواننا الكورد، ووقوفه إلى جانب شعوب المنطقة ضد طغاتها السابقين والحاليين، كما في النموذج العراقي سابقاً، والنموذج الليبي حالياً وكذلك سوريا البعثية، يؤكد هذا الطرح.
إنها شجاعة ليس من السهل على المثقف الفلسطيني المحكوم بحسابات معقدة اجتراحها.
شجاعة لم يصل إليها معظم كبار الثقافة الفلسطينية ورموزها. ولا نريد تعداد الأسماء، لأننا لو فعلنا، فسنحتاج إلى مساحة كتاب لا حيّز مقال.
لهذا، فليكن مرضك يا صديقي الذي لم أره، ولم أراسله مرة، رغم أنني أعيش على بعد كيلومترات قليلة من أهله الأوّلين ومنزله الأول، مناسبة للتذكير بأهمّيتك، وللتنبيه إلى مواضعك ومواقفك التي تفرّدت بها مع آحاد من المثقفين الفلسطينيين، في الزمن الصعب.
الزمن الصعب حقاً.
الزمن الصعب دائماً.
الصعب علينا كفلسطينيين، وعلينا كعرب، وعلينا كإنسانيين.
ولكنْ.. منذ متى كان الرائد يخذل أهله؟ ومنذ متى كان المثقف العصامي مثلك يتخلّى عن دوره؟
الشفاء العاجل لك، وكلنا أمل بألا يخذلك جسدك البشري، الذي لطالما حَمّلته فوق ما يحتمل، سهراً وكتابةً، من أجل جماعتك، ومن أجل مستقبل أفضل لهم ولأبنائهم وأحفادهم من بعدهم، في هذه المنطقة الغريبة وquot;العجيبةquot; من العالم.
لكن أحمد أبو مطر، كان شيئاً آخر. بنى نفسه طوبة طوبة، وكان رائدهُ في هذا طموحهُ المقدس بأن quot;يكونquot; وأن quot;يصيرquot;. وما أصعب أن تكون وأن تصير وأنت فرد في تجمّعٍ للاّجئين المعدمين، اسمه quot;مخيم رفحquot;. كل الظروف ضدك، وكل الظروف تدفعك دفعاً لأن تسقط تحت quot;رِقّ الضرورةquot;، وتبقى هناك للأبد.
كثيرون، على أية حال، نجوا من هذا المآل. استمسكوا بالعلْم (وقد صار العلمُ رأسمالَ الفلسطيني الوحيدَ، في الخمسينات والستينات) وتفوّقوا فيه، مرحلة تلو مرحلة، وصولاً إلى الجامعة، ومروراً بالماجستير، وانتهاء بالدكتوراه.
لكن قليلين من هؤلاء quot;الكثيرينquot;، مَن نجوا حقاً. إذ أنّ معظمهم، بقيَ أسير المعادلة الأولى وقد تغيّرت، فمن رِقّ الضرورة انتقلوا إلى رِقّ الرفاهية. وكمنوا هناك. أو ظلّوا في منتصف المسافة بين(الرِّقيْن): يخافون من النزول إلى الرقّ الأول، ويحلمون بالصعود إلى الرقّ الثاني.
هكذا باختصار يمكن تلخيص حياة مئات الألوف من المتعلّمين الفلسطينيين (الشريحة الواسعة التي خرجَ منها فيما بعد كلّ مثقفينا تقريباً) سواء من بقيَ منهم في الداخل، أو من هاجروا في أربعة أركان الكوكب.
قلّة فقط، بل قلة القلة، من استطاعوا تجاوز رقّ الضرورة ورقّ الرفاهية ورقّ الما بين_بين، فانتقلوا بأفعالهم وأقوالهم، من ذلك الرقّ إلى أفق الحرية، بالمعنى النبيل والسامي للكلمة.
ولقد كان أحمد أبو مطر واحداً منهم. واحداً من كوكبة نادرة ثمينة، اختارت أن تنحاز لأفق الحريّة، وألا تخاف من quot;دفع الثمنquot;.
خرجَ بعلْمه وكفاحه وإرادته الصلبة، من رقّ الضرورة، إلى فضاء الحرية الواسع، دون أن يسقط في رقّ الرفاهية أو حلمها، كغالبية المتعلّمين والمثقفين من أبناء جيله والأجيال التي تلت.
كان بحثه الأكاديمي الرائد quot;الرواية في الأدب الفلسطيني من1950 إلى 1975quot; (والذي نال عليه درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة الإسكندرية، بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى، في النصف الثاني من عقد السبعينات، أي أواخر الزمن الذهبي للجامعات المصرية) يؤشر إلى ميلاد، ليس فقط باحثٍ متميز، وإنما، وهذا هو مقصدنا الآن، ميلاد مثقفٍ فلسطيني متميّز ورائد كذلك. وستثبت الأيام صدق وفحوى هذه الصفة الجليلة، حين يخرج أحمد أبو مطر من خلف أسوار الجامعات، في غير بلد عربي، بعد تجربة اغتراب مُحبطة أوصلته إلى يقين شخصيّ وعامّ بأن (لا فائدة من كل هذا) في منطقة تغصّ بالطغيان. ليلتحمَ، وقد ترك المنطقة نهائيّاً، وهاجر إلى الشمال الأوروبي، بمآسي العرب المعاصرين وقضاياهم اليومية الملّحة. فينحاز في كل ما يكتب، إلى همومهم الأصلية وإلى توقهم الحزين للديمقراطية بوجهيها العقلاني والعلماني، بما هي ثقافة مستقبلهم، وبما هم قابعون تحت نير ديكتاتوريات قومية وأصوليات دينية، تجرّهم جرّاً إلى التحجّر والتخلّف والعطالة، من أقصى المحيط إلى أقصى الخليج.
اختار أبو مطر أن يغرّد خارج السرب، ليس العربي (وهو هنا الأهون) بل الفلسطيني(وهو دائماً الأصعب). فما أصعب أن تكون مثقفاً فلسطينياً ليبرالياً حقاً، وتنويرياً حقاً، دون أن تنالك السهام من وطنييك وإسلاموييك وقومجييك ويسارييك وشيوعييك وسواهم. ودون أن تنالك سهامُ النخبة السياسية وسهام المجتمع معاً.
لذلك يندر أن يوجد مثقفون فلسطينيون ليبراليون بين المثقفين الفلسطينيين في العموم. وإن وجد هؤلاء، فهم غالباً quot;موجودون على استحياءquot; أي غير فاعلين بالمرّة.
من هنا، تأتي أهمية وتفرّد أحمد أبو مطر. فهو المثقف الفلسطيني الليبرالي الإنساني، الشجاع والفاعل. الحاضر بكلمته دوماً. الواقف مع قضايا الأقليّات في الوطن العربي، ومع قضايا المرأة العربية المظلومة، ومع قضايا التنوير عموماً.
وليس هذا مجرد كلام. فوقوفه، مبكّراً نسبياً، مع قضية إخواننا الكورد، ووقوفه إلى جانب شعوب المنطقة ضد طغاتها السابقين والحاليين، كما في النموذج العراقي سابقاً، والنموذج الليبي حالياً وكذلك سوريا البعثية، يؤكد هذا الطرح.
إنها شجاعة ليس من السهل على المثقف الفلسطيني المحكوم بحسابات معقدة اجتراحها.
شجاعة لم يصل إليها معظم كبار الثقافة الفلسطينية ورموزها. ولا نريد تعداد الأسماء، لأننا لو فعلنا، فسنحتاج إلى مساحة كتاب لا حيّز مقال.
لهذا، فليكن مرضك يا صديقي الذي لم أره، ولم أراسله مرة، رغم أنني أعيش على بعد كيلومترات قليلة من أهله الأوّلين ومنزله الأول، مناسبة للتذكير بأهمّيتك، وللتنبيه إلى مواضعك ومواقفك التي تفرّدت بها مع آحاد من المثقفين الفلسطينيين، في الزمن الصعب.
الزمن الصعب حقاً.
الزمن الصعب دائماً.
الصعب علينا كفلسطينيين، وعلينا كعرب، وعلينا كإنسانيين.
ولكنْ.. منذ متى كان الرائد يخذل أهله؟ ومنذ متى كان المثقف العصامي مثلك يتخلّى عن دوره؟
الشفاء العاجل لك، وكلنا أمل بألا يخذلك جسدك البشري، الذي لطالما حَمّلته فوق ما يحتمل، سهراً وكتابةً، من أجل جماعتك، ومن أجل مستقبل أفضل لهم ولأبنائهم وأحفادهم من بعدهم، في هذه المنطقة الغريبة وquot;العجيبةquot; من العالم.
التعليقات