إذ يضيق الخناق على الرقبة، يبدأ دُعاة حماس في اجترار حلّهم الأوحد: الاستنجاد بالسماء، ومحاولة استمالتها إلى جانبهم، بحيث تقف معهم ضدّ كلّ الآخرين. ولهم في ذلك فنون كثيرة لا يتسع لها مقامنا. لكننا سنذكر فناً واحداً فقط (إن جاز أن نسمّيه فناً) ألا وهو فنّ الدعاء. الدعاء، وتكثيره، والتطويل فيه، والارتكان إليه، وكأنه الوسيلة والغاية معاً. نوبة، يخرج بعدها المصلّون، وهم مرتاحون نسبياً. فقد فعلوا ما عليهم، وهم الآن واثقون بأنّ السماء لن تنساهم، وستنصرهم على من عاداهم.
هكذا يتعامل دعاة حماس مع مشاكل واقعنا المركّبة المعقّدة. هكذا بتبسيط مخلّ. ولو اقتصر الأمر عليهم، لهان الأمر. فهم في الأول والتالي دعاة، وربما تكون تلك مهمتهم التي يؤجرون دنيوياً عليها. لكن، ليت المسألة تقف عند ذلك. إنها تتعدّى الدعاة إلى السياسيين، وهنا مكمن الخطر. فكلما ضاق الخناق على رقبة الناس، لجأ السياسي الحمساوي إلى ماضيه الدّعَويّ، فباعهم من البضاعة ذاتها المطروحة على قارعة كل مسجد. فإن كان له حظّ أوفر من quot;الثقافةquot;، لجأ إلى quot;البلاغةquot;، ليعومَمعها ويُعوّم كل الناس. مأثورات من الشِّعر الخليلي، وشذرات من quot;فنّ الخطابةquot;، وقول لهذا المفكّر أو ذاك، وكفى الله الفلسطينيين المعذّبين، شرّ قراءة الواقع قراءة محايثة، وفهم قوانينه ومعادلاته الظاهرة منها والخفيّة.
إنه، في أحسن الأحوال المتاحة، عقل لغويّ تراثيّ بلاغيّ في مواجهة كلّ العالم! عقل مؤمن، جوانيّاً، قبل أن يؤمن برّانيّاً، بأنه مالك الحقيقة الناجزة، ولا أحد سواه، يمتلك ولو جزءاً يسيراً من تلك الحقيقة.
وكأنما أنت أمام بشرٍ يعيشون في كهف معزول، وفي زمنٍ متأخّر على الأقلّ، سبعة أو ثمانية قرون، عن زمن العالم الحاليّ.
تودّ أن تناقش معهم مشكلة سياسية آنيّة، فيُحيلونك إلى ما كان يحدث أيام الرسول أو زمن الفتوحات الأولى.
ما دخْلي أنا بما كان يحدث في تلك الأزمان؟
ولماذا لا بدّ أن تكون تلك الأزمان مرجعيّتي؟
وماذا عن اختلاف الزمان والمكان والظرف؟
وماذا يعنيني أصلاً من الماضي البعيد، ومشاكلي ومصائبي كلها بنت هذا الراهن؟ أو بنت قرن من الزمان على الأكثر؟
هذه أسئلة لا قيمة لها عندهم. فهم مسكونون بالماضي، والمؤامرة عندهم مستمرة على الإسلام منذ الأزل وحتى الأبد. هكذا يقفلون القوس، بأبخس وأكثر طرائق التفكير عبثاً ومجّانيّة. لكأنّهم فوق- سرياليّين، كي لا نقول سرياليّون، فالسرياليون محبّون للحياة لا عدميّون.
إنهم يُحاربون الواقع بالبلاغة والهلوسة. يَحلّون مشاكلهم (ليتها كانت مشاكلهم حقاً)، إنما هي مشاكلنا نحن الواقعين تحت قبضتهم وقبضهم) باللغة وكفى. شأنهم في ذلك شأن كلّ العاجزين النرجسيّين في التاريخ. فلا معاصرة وصلتهم ولا حداثة ولا ما يحزنون.
ولا علم ولا فلسفة ولا دارون ولا ماركس ولا فرويد.
إنّ هو إلاّ حسن البنّا، وتلامذته من بعده.
فكيف بعُدّةٍ كهذه سنواجه إسرائيل ومن ورائها العالم؟
وكيف بعدّة كهذه سنجيب على ألوف الأسئلة المعلّقة بلا جواب وبلا محاولة تلمّس الجواب؟
لو كانت الهلوسة تنفع لهلوَسنا.
ولو كان الهذيان ينفع لهذَينا.
ولكننا محكومون بالعالم من حولنا، وبمواضعاته الصلبة الصلدة.
لذا فلا الأدعية هي الحلّ، ولا عقلية المؤامرة هي الحلّ، ولا التعويل على الصبر والانتظار حلّ. فما من مشكلة تُحلّ من تلقاء ذاتها. وما من مشكلة تُحلّ بترحيلها إلى السماء أو المستقبل.
إنّ المطلوب هو النزول من علياء اللاهوت والميتافيزيقيا إلى أرض الواقع. ومن صفحات الكتب الصفراء إلى أوراق الواقع بمختلف ألوانها.
لقد حمّل قادة حماس أهالي قطاع غزة فوق ما يُطيقون.
وكل ذلك مقابل ماذا؟ مقابل تجريب أفكار ورؤى ثبت فشلها وقصورها. وثبت أنّ الاستمرار في اعتناقها ما هو إلا ضرب من العناد والمكابرة.
لقد دعا الفلسطينيون البسطاء ستين سنة كاملة، فهل استجاب لدعائهم أحد؟
وهل زالت دولة إسرائيل؟
وهل قصم الله ظهر الأعداء؟
ولماذا هذا المسعى النكوصيّ أصلاً؟
إنّ أخطر ما في حماس هو افتقارها للنخبة. فما من فرق جوهري بين بسطائها وقادتها. إنها تمشي على خطى quot;فتحquot; في الطريق ذاتها. فحين نحّت هذه نُخبَها، وسلّمت مقاليد أمورها لدهمائها الأمنيين وغير الأمنيين، فشلت. وكذلك ستلاقي حماس نفس المصير.
بيد أنّ ما يعنينا نحن هو ألا يطول زمن معاناتنا أكثر. وألا نسفح المزيد من آلامنا البينيّة سدى. إذ نحن بحاجة لها كاحتياطي ثمين في مواجهة أعدائنا.
عندما تسلّمت حماس مقاليد الحكم، تفاءل الكثيرون ممن انتخبوها بغدٍ أفضل. لم يكونوا يعرفون أنّ زمن الدولة الدينية مضى إلى غير رجعة، علاوة على أنه غير مقبول في عُرف العالم كله.
لقد عرفوا الآن، وهم يدفعون ثمن هذه المعرفة. على الأقلّ العاقلُ منهم يعرف. والعاقل منهم يعرف، باستخدامه الخاصّ لعقله، بعيداً عن رِقّ الجماعة والإجماع، أنّ البقاء في كرسي السلطة، بهذه الصورة دون غيرها، سيُكلّف شعبنا الكثير من الألم الإضافي.
وحقاً، إنّ شعبنا يحتاج لمن يُخفّف عنه فلا يزيد الشيلة.
لقد جاءت حماس باسم هذا الهدف. لكّنها لم تنجح في تحقيقه، ولن يتركها المجتمع الدوليّ تنجح، ما لم توافق على ما يريده منها.
وهي حرّة في ألا توافق. انسجاماً مع مبادئها ومُنطلقاتها.
لكنها أبداً ليست حرة في تأبيد شعبنا كله في سجن الحصار الطويل.
لن يُجدي الدعاء. ولن تجدي البلاغة. ولن تجدي ردود الأفعال على رام الله.
يجدي فقط أن نخرج من النفق المعتم، باجتراح حلول أرضيّة معقولة.
وهما حلاّن في نظري لا غير: إما المصالحة الوطنية على أسس وقواعد دقيقة، لا تستثني أي تفصيل صغير، وذلك باتفاق سياسي شامل. أو الدعوة لانتخابات رئاسية وتشريعية جديدة (وهذه لن تنجح في ظل عدم وجود الحلّ السياسي المأمول) أو... وهذا حلّ ثالث يراه البعض: أن تترك حماس السلطة وتعود إلى سابق سيرتها كقوّة مقاومة. إلا أني لست مع الحل الأخير لعدة أسباب، منها أنه يُلقينا في جُبّ المجهول وفي وطيس الحرب الأهلية، ومنها: رغبتي في أن تندمج حماس في الحلبة السياسية، وتكون قوة فاعلة في المشهد. ومنها: الخوف من انفراد فتح بالحكم، كما في الماضي، فتعود إلى سابق عهدها.
فهل تقبل حماس بأحد الحلول الثلاثة؟
أتمنى أن تقبل الحل الأول فهو الأفضل لها ولنا جميعاً.
أتمنى هذا قبل فوات الأوان، وقبل دوران الأفق. وإلا فسنظلّ ندعو على بعضنا وعلى عدونا في زمن دائري مقفول، حتى نصل إلى درجة الدروشة أو الهلوسة. وهو ما لا يجوز لشعبي بأيّ حال من الأحوال: أنّ يتحوّل من شعب مكافح يحلم بالعدالة والحرية إلى شعب من الدراويش والمهلوسين.