قديماً قيل: مصائب قوم عند قوم فوائد. وهذا القول ينطبق الآن على تجّار الأنفاق في القطاع. فمنذ بدأ الحصار الخانق مع تسلّم حماس للسلطة, شرعَ هؤلاء في حفر الأنفاق على حدود الرّفحين: رفح الفلسطينية ورفح المصرية. وبدأت البضائع المهرّبة تتدفق إلى الجانب الفلسطيني. بضائع تصل المواطن العادي بأضعاف سعرها الحقيقي على الجانب المصري. ما نتج عنه, وخلال أقلّ من سنتين, تكوّن شريحة من الأثرياء الجدد, لا أحد يعرف عددها بالضبط. لكنّ كبارها أو حيتانها, لا يتعدّون الألف بكل حال. ألف حوت هم الآن المهيمنون على الوضع الاقتصادي في كامل قطاع غزة. ألف حوت لا يعرفون شفقة ولا رحمة. وكيف لا وهم مُطلقو السراح, يسرحون ويمرحون, دون أن يُحاسبهم أو يُسائلهم أحد. بعضهم يربح في الليلة الواحدة مئة ألف دولار. وبعضهم يربح في الصفقة الواحدة نصف هذا المبلغ أو ثلثيه. فيما الغالبية العظمى من سكان القطاع تعيش على مُدّخراتها السابقة. فلا راتب الوظيفة عادَ يكفي, ولا العمل الإضافي بعدها يكفي, ولا ما يحزنون. عملية استنزاف متواصلة لِ quot;شقا الناس وتحويشة عمرهمquot;. وكل ذلك يحدث تحت علم وسمع وبصر حماس. بل يُقال إنّ حماس ذاتها تشارك في عمليات التهريب, مقابل مبالغ طائلة تجنيها من وراء ذلك. وإنّ لها شبكات من المُهرّبين, يُهرّبون ليس البضائع فحسب وإنما البشر أيضاً. ويأخذون على quot;الرأسquot; ألفي دولار جرّاء نقلها مسافة مئتي متر لا أكثر.
عموماً, سواء صحّ هذا القول أم لا , فإنّه لا يُغيّر من قتامة الوضع الكارثي في شيء. فالمفروض على حماس, بصفتها الحاكمة المطلقة للقطاع, ألا تترك تجار الأنفاق يتحكّمون في الأسعار على هواهم. فهؤلاء المهربون لا نهاية لجشعهم. ولذلك, لن يكون مفهوماً ولا مُبرراً, أن تتغاضى حماس عنهم. فالمسألة مسألة قوت شعب, ومصالح شعب, وآلام شعب.
وإذا كان الحصار الإسرائيلي الفاشي لا يرحم, فكيف تسمح حماس باستغلال حيتان المهرّبين لشعبها الواقع تحت أكثر من مطرقة وسندان؟
إنه استغلال لا يقلّ فاشية عن حصار أولمرت وليفني وبراك. بل إنه جريمة حرب هو الآخر. جريمة تُرتكب بحق 80 % من سكان واقعين أصلاً تحت خط الفقر, حسب تقارير منظمة الأمم المتحدة.
فإلى متى يستمر هذا الوضع؟
وإلى متى يستمرّ طناش حماس؟
وإلى متى يُضحّى بمليون ونصف المليون من المواطنين من أجل عيون ألف مهرّب؟
لو شاءت حماس ضبطَ ومراقبة الأحوال, فلن تعجز. فلديها جيش من العاملين في أجهزة أمنها, يستطيع ضبط النملة. لكنها, على ما يبدو, لا تشاء.
ولو شاءت وضعَ تسعيرة لكل سلعة, لفعلت دون تعب كثير. فهي تعرف أسعار هذه السلعة في الجانب المصري, ومع وضع نسبة معقولة من الربح, تأخذ بالحسبان مصلحة التاجر ومصلحة المواطنين معاً, يمكن أن تسير الأمور بأقلّ الخسائر. لكنها, على ما يبدو, لا تشاء.
ولا تشاء, لأنّ في ذلك مصلحتها.
مصلحتها ولو على حساب المصلحة العامة لعموم المواطنين.
وإلا, ما معنى استمرار هذا الوضع؟ وإلى متى؟ إلى أن يطير آخر قرش في جيوب الناس؟
ذات يوم, قال سعيد صيام, وزير داخلية حماس, في تصريح مُلْغِز: quot;إننا لا نستطيع مراقبة التجار, وليس هذا من مهامّنا أصلاًquot;.
وأنا أقول لهذا المسئول: وما هي مهامّكم؟ إن لم تراقب أنت الأسعار والتجار, فمن هو الذي سيراقب؟ أم أنكم تتركونهم لضمائرهم quot;الإسلاميةquot;؟ وللحلال والحرام لا للقوانين وآليات المحاسبة؟
إنها بالفعل مهزلة. لكنها مهزلة على طريقتكم: مهزلة أقلُّ ما فيها هو جانبُ الهَزَل, وأكثرُها جَدٌّ تنوء تحت ثقله الأكتاف.
يستيقظ المواطن كل صباح جديد, فلا يعرف ثمن هذه السلعة أو تلك. ففي كل صباح للسلعة ذاتها ثمن مختلف. وثمن يزيد دائماً. فما يشتريه اليوم بعشرة شواكل مثلاً, قد يشتريه في الغد بخمسين شيكلاً. حسب مزاج الحوت الكبير وصبيانه وجيش المسترزقين منه.
لا يعرف السيد سعيد صيام, أنّ كل البلاد التي مرّت بظروف حرب وحصار, تشدّد المراقبة على التجار, ولا تتهاون أبداً في حقوق مواطنيها, كضرب من تحقيق الأمن الغذائي لهم. تفعل ذلك كل الأنظمة, الفاشيّ منها والديمقراطي, فهل نحن بدعة؟ وهل ما يجوز على الشعوب الأخرى, لا يجوز على شعبنا؟ أم أنه هكذا هو quot;الاقتصاد الإسلاميquot; في التجربة والتطبيق؟
لقد تفشّى الفقر والعوز, في عهدكم, كما لم يتفشَّ حتى في عهد الفساد السابق. فأين هي وعودكم للناس؟ وأين هي مصداقيتكم؟
لقد كان من البديهي, ومن طبائع الأمور, أن تُولوا كل انتباهكم لتفاصيل الحياة اليومية, ولشئون الناس الصغيرة قبل الكبيرة, فلا تتركوهم لقمة سائغة في فم الوحش. لكنكم لم تفعلوا, ولا يبدو في الأفق أنكم ستفعلون. فأنتم تركتم الأوضاع سداح مداح, وعلى المواطن الفرد أن يُدبّر نفسه.
إنها بلاد تسير بقوة التسيير الذاتي لا غير. فلا تخطيط ولا مراقبة ولا مساءلة, وكأنكم لستم سلطة, ولا تعيشون عصركم, كما يعيش المسئولون. وإنما هي حال بدائية من الحُكم, لا نعرف لأيّ عصرٍ ننسبها. فهي حقاً بلا شجرة نَسَب وخارج كل ما نعرف من أشجار النسب.
تقولون: الحصار. الحصار. نحن محاصرون كما لو كنا في قنينة. نعم هذا صحيح. وهو يستدعي بالبداهة فعل كل ما تستطيعون, كيلا تستغلّ كائنات القنّينة بعضها البعض. كيلا تثرى فئة وضيعة جاهلة قليلة العدد على مقدّرات ومصالح شعب بأكمله.
إنهم يستثمرون الأزمات. مقاولو الأزمات يستثمرون كل مصائب الشعب الفلسطيني. ومع تصريح كتصريح سعيد صيام, يحقّ لهم أن يأمنوا وأن يرتاحوا. فقد خلا لهم الجوُّ, فلماذا لا يبيضون ولا يصفرون؟
قطاع غزة يوغل في الكارثة ساعة بعد ساعة, ويوماً بعد يوم. والطبقة الوسطى التي عليها مناط صحة المجتمع, تتهاوى وتذوب. وليس هذا بسبب إسرائيل وحدها, بل بسبب المهرّبين المحلّيين, وبأيدي فئة من تجار المصائب الغزاويين. فلا تملأوا الدنيا صراخاً على إسرائيل فقط, بل املأوها (عملاً لا صراخا هذه المرّةً), على من يستثمرون آلام الناس, فيحوّلونها إلى ما هو أكبر من ستة أرقام في البنوك.
لقد عجزت حماس عن حسن إدارة الاقتصاد داخل حدود القطاع( اقتصاد الأزمات) كما لم تعجز سلطة غيرها. ولولا وكالة غوث وتشغيل اللاجئين [الأونروا], ولولا رواتب سبعين ألف موظف تأتي من رام الله, لكان حالنا كحال إخوتنا في أفقر بلد أفريقي.
هكذا تبدو محصّلة مشروع الإسلام السياسي في قطاع غزة. هكذا تبدو بعد أقلّ من ثلاث سنوات. فما بالكم لو استمرّ هذا الحال (وكل الدلائل تشير إلى أننا ربما نكون quot;في البداية فقطquot;) لثلاث سنوات أخرى؟
أظنّ, وأرجو من كل عقلي أن يكون ظنّي كلّه إثماً, أننا سننقرض. وهذه المرة بأيدينا وبأيدي عمرو معاً.
تماماً كما انقرضت الديناصورات من قبل.
وتماماً كما ستنقرض كل الشعوب التي لا تعرف مصلحتها من بعد.