لم يبق لديه من شيء يفعله إلاّ مشواره المسائي. يخرج كل مساء في الخامسة، ليتمشّى مع رفيقه الذي quot;يحاول في الأدبquot;. رفيقه على مشارف الستين، وهو على مشارف التاسعة والأربعين. رفيقه يعمل طول النهار في وظيفته وفي قطعة أرض اشتراها. وهو يقرأ طول النهار، وأحياناً يكتب. خلا ذلك لا شيء، غير ما هو جد ضروري ولا مندوحة عنه.
لقد لاحظ منذ سنوات ندرة رنين الجرس، سواء جرس التلفون أو جرس الباب.
قبلها، حين سكن هذا البيت، كان ينزعج في البداية من رنين الجرسيْن المتكرّر. أصدقاء ومعارف يأتون ويذهبون، وأصدقاء ومعارف يتصلون ويتكلمون.
زوجته وأولاده كانوا سعداء بذلك. فهم اجتماعيون بطبعهم، ويحبون الناس. الزوجة تجهز الغداء أو العشاء، والأولاد يحملون الأطباق ويدخلون على الضيوف يسلّمون عليهم.
لم يشكُ أحد سواه.quot;دخلت في الخامسة والأربعينquot; يقول لزوجتهquot;ولا بد من احترام الوقت الباقيquot;. تزوم الزوجة ويقول هوquot; الأدب أولى بوقتي منهمquot;. هي يئست من كثرة السجال، وتعرف أن لا فائدة. تتنهّد، وتقوم لشئونها.quot;يريد أن يقطعنا عن الناسquot;.
وشيئاً فشيئاً خفّ الزوّار، وتباعدت رنّات التلفون. حتى لم يبق لديه من quot;كل تلك الحياة خارج البيتquot; إلا المشوار المسائي.
لم يعد شيءٌ يناديه أبعد من عتبة الباب.
كل الحماسات القديمة تبخّرت. الأحلام والصبوات والأشواق. هو الذي يحب الناس كطفل، صار يرى بؤسهم وخرابهم، بأكثر من قدرة معدتهِ على الاحتمال.
أهو تقدم العمر والمرض أم هي مضاعفات القراءة والتأمل؟
لا يعرف. مع أنه لاحظ من زمان تأثير الكتب السوداوي عليه. كلما أغرق فيها، ينسحب إلى الداخل أكثر فأكثر. وما كان يتقبّله من كلام وسلوك الناس بأريحية، يراه الآن بعدسة مكبّرة، فيزهده ويغضب منه.
الكتب تورّث الحساسية، يقول. تُرهف حواسّ الاستقبال لدى المرء، فيشقى، بدل أن يبتهج.
تمنحك البهجة أثناء قراءتها فقط، وبعد ذلك، في بحر الحياة الكبير، تخذلك.
تمتدّ يداه إلى دواء المعدة، ويفكّر في المفارقة التي لم ينتبه إليها غير المُبتلين.
كل دواء تشتريه يُذكّرك الصيدلاني بمضاعفاته. وإن نسيَ فستذكّرك الورقة المرافقة للعلبة، إلا القراءة.. إلا أصحاب المكتبات!
يبيعونك الكتاب، ولا يخطر في بالهم مرّة أن يحذروك من المضاعفات الجانبية لما تشتري!
quot;مضاعفات جانبيةquot;؟... يا ليت! بل قل: مضاعفات رئيسية في بعض الأحيان.
إنه يعرف على الأقلّ ثلاثة ممن دمّرت القراءة حياتهم. ثلاثة في محيط مخيمه الصغير. ومع هذا، ليس من هدف هذا المقال توبيخ القراءة، بل العكس: مديحها وتقريظها والثناء عليها، بما هي علامة ابن آدم الفارقة. فما من كائن حيّ خلا الإنسان يقرأ.
إنما، مع ذلك، التنبيه إلى مخاطرها، والتحذير مِن مضاعفاتها الوخيمة في حالة الإغراق فيها. فالمرء قابل للعدوى. وإذا كانت له طبيعة مرهفة، وحسّ استقبال فعّال، فما من شيء يُعديه كالكتب!
هو خبرَ هذا بنفسه. وخبره مع الجيل التالي لجيله. يراهم في البداية في شبق للقراءة واستعارة الكتب. حماسة لا تدانيها حماسة. وغالباً ما يرافقها نشاط جسماني متوهج. لكن بعد كم سنة أو حتى عشرة، تعال وقلّ لي ما ترى!
يبدؤون يكتئبون. ويصبح الحال غير الحال. وما حدث مع الأجيال السابقة، يحدث هو ذاته معهم: تزوغ نظراتهم، وتشحب بشرة وجوههم، ويأرقون، وأثناء كل هذا: ينسحبون إلى الداخل.
إنها إذاً العزلة أو الوحشة أو السويداء أو التوَهَان أو سمّها ما شئت، فلا تهم التسمية. الأهمّ تشخيص الحالة وتقريرها، وذا يكفي.
لذا كان يعطيهم من مكتبته ويشفق في دخيلته عليهم. ومع أنّ الشفقة إحساس غير نبيل بالمرّة، إلا إنه لطالما وجد نفسه متلبّساً به.
فهو في سنّ تخوله بمعرفة ما سيصير على نحو من الإنحاء. إنهم في البداية يقرؤون. ثم بعد فترة، تطول أو تقصر، يشرعون في الكتابة. وحين تتمكّن quot;الجرثومةquot; من مكامنهم، لن تحتاج إلى ذكاء رفيع لتعرف التالي. ستراهم وكأنّ هذه الدنيا الكبيرة لم تعد دنياهم هم، بل هي دنيا الآخرين فقط. حتى لو غطّوا حالاتهم البازغة بقناع من المرح والصخب. فهو محض قناع، منذور للخارج: للآخرين. أما هم، مع أنفسهم وفي خلوة الليالي، فمكسورون ومهزومون. لقد هزمتهم الكتابة!
وما كان لهم، إلا فيما ندر وتحت ظروف موضوعية وذاتية خاصة، إلا أن يُهزموا. ففي واقع متخلّف وهَوْلِيّ كالواقع العربي، الشيء الطبيعي أن يُهزم الكاتب. الشيء الطبيعي أن يكون جسمه في واقعه المتعيّن وروحه في ملكوت آخر. فالمرء، إذ يكتب، لا يعود قادراً على المصالحة مع محيطه ووسطه. وأولئك الذين لديهم القدرة على المصالحة والتكيّف والانسجام مع quot;خارج_همquot;، من حقك أن تشكّ في دخيلتهم وربما حتى ترتاب.
لا يعني ذلك عدم قدرة هؤلاء على الفهم والاستقراء والاستيعاب. كلا. بل يعني أنهم وصلوا إلى درجة من الصدق والطهارة والشفافية، لم يعد بإمكانهم بعدها، أن يكونوا كما كانوا سابقاً. فهم يرون عيوب مجتمعاتهم وعوراتها بعدسات مكبّرة، ويتألمون.
لقد تحوّلquot;العامُّquot; لديهم إلى quot;خاصّquot;. الألم العامّ هو ألمهم شخصياً. وليس هذا مجرّد كلمات. بل هو سلوك. وحين يصل المرء، في واقع غير مسعف، إلى هذا الحدّ، فماذا يُنتظر منه أن يكون؟
لن يكون إلا مهزوماً. سوى إن وضعَ مسافةَ حمايةٍ بينه وبين الظروف والوقائع والأحداث.
وحسب ما يعرف هو، فقلّة من الكُتاب مَن تنجح في مسعى كهذا.
وهو ممن لم ينجحوا وما عاد يجرؤ على الحلم بهذا النجاح!
لذا...........
لم يبق لديه من شيء يفعله إلاّ المشوار المسائي. يخرج كل يوم بعد المغرب، ليتمشّى مع رفيقه الذي quot;يحاول في الأدبquot;. رفيقه على مشارف الستين، وهو على مشارف التاسعة والأربعين. رفيقه يعمل طول النهار في وظيفته وفي قطعة أرض اشتراها، وهو يقرأ طول النهار، وأحياناً يكتب. خلا ذلك لا شيء، غير ما هو ضروري ولا مندوحة عنه.
[تدبير]
إذ يصعبُ التمييزُ بين الصحّ والغلط
أختارُ أن أراكِ يا بلادي
أراكِ في الليل فقط
جيّدٌ هذا لقلبي!