عند ديستويفسكي، إذا غاب الله، فكل شيء مباح: من أصغر الجرائم حتى أكبرها. وعند الفلسطينيين، إذا حضرت انتخابات جديدة في إسرائيل، فكل شيء مباح، من أصغر الجرائم حتى أكبرها. هكذا عوّدتنا أحزابهم المتعاقبة، سواء من المعراخ أو الليكود أو كاديما. ستون عاماً والعبث بالدم الفلسطيني هو سُلّمها للوصول لمقعد رئاسة الوزراء. إنه شيء كلاسيكي جرّبناه وتعوّدناه على جلودنا. لكنه، مع ذلك، لم يصل لحماس كما ينبغي له الوصول. إذ فاجأت المخابراتُ الإسرائيلية الحركةَ، في توقيت الضربة وحجمها ونوعيتها. فأين يقظة حماس!
لقد كان المواطن الغزاوي البسيط يتوقع ضربة كبيرة. وكان من البديهيات أن تكون حماس أخلت مواقعها ومقرّاتها الأمنية والشرطية، على الأقل قبل أسبوع من انتهاء التهدئة. لكن الذي حصل هو استرخاء حماس، ووثوقها بمعلومات أتتها عن طريق مصر، تقول بأنّ إسرائيل لن تضرب غزة.
المهم: ضربت إسرائيل ضربتها الموجعة. ستون طائرة إف 16 ومئة طن من المتفجّرات، في طلعة واحدة، وفي توقيت واحد تقريباً، شملَ قطاع غزة كله، من إيرز حتى رفح.
هولوكوست حقيقي هذه المرة، في عملية أطلق عليها جنرالات الموت اسم quot;الرصاص المصبوبquot;. لاحظوا التسمية: الرصاص المصبوب! تسمية متواضعة قياسا إلى نتائجها المهولة. تسمية أبدا لا تفي بالدلالة. وغريبة أيضاً. فهم على عادتهم، يُعطون لجرائمهم أسماء مخففة(أدبية في الغالب) كنوع من التضليل، وكنوع من إثبات أنهم لا يفتقرون، حتى وهم في ذروة صناعة الموت، إلى مخيلة ثقافية. فما الذي حدث؟ هل قامَ بالتسمية الأخيرة جنرالٌ يهوى السباكة؟
المهم: هولوكوست جديد وُعدنا به من قديم، وها هو يتحقق اليوم. هولوكوست أسفر حتى لحظة كتابة هذه السطور، عن 280 شهيد وألف جريح، منهم 280 في حالة الخطر الشديد. والحبل على الجرّار.
الحبل على الجرّار. فهل يتعظ قادة الفصيلين الكبيرين في الساحة الفلسطينية؟ وهل يشعرون الآن بأن فشل حوارهم في القاهرة هو الذي أعطى الغطاء لهذا العدوان الإجرامي المُعدّ له مسبقا؟ وهل يفهمون أنه لا بد مما ليس منه بد؟ فيُغلّبون مصالح شعبهم العليا على مصالحهم الفئوية، بالعودة الصادقة إلى مائدة الحوار ونبذ الانقسام؟
لقد تم تقديم قطاع غزة ككبش فداء لخدمة المصالح الإقليمية في المنطقة. فهل آن الأوان للعودة عن هذا، والرجوع إلى الثوابت القديمة، التي أهمّها أنّ تناقضنا الأساسي هو مع الاحتلال، والاحتلال فقط؟ وأننا ما زلنا حركة تحرر وطني، ولم نصل بعد إلى الاستقلال، لنختلف ونفترق، كيفما شاء لنا؟
إنها بديهيات غابت عن رؤوس الجميع. وإذا قُدّر للكارثة الجديدة المتدحرجة، أن تُذكّرنا بذلك، فحينها لن تذهب دماؤنا هدرا. أما إذا لا، فواحسرتاه على هذه الدماء.
لن ينقذنا أحد، ما لم ننقذ أنفسنا بأنفسنا. ولن يحترمنا أحد ما لم نحترم أنفسنا أولاً. إسرائيل ماضية في عدوانها الهمجي. والوقت بيننا وبين انتخاباتهم طويل. لذا فقائمة الضحايا مرشحة للاتساع والمراكمة لا مفر. والاجتياح البري على الأبواب. وعلينا قبل أن نطالب أحد بالاجتماع من أجل مصيبتنا، أن نجتمع نحن ببعضنا البعض. من جديد؟ نعم من جديد. إنّ الرد على هذه المجزرة هو أن يجتمع عباس بمشعل ومشعل بعباس. تلك أقصر وأجدى الطرق. أما الجامعة العربية فلن تأتينا بالمعجزات. أقصى ما هنالك، هو تقديم بعض المساعداتquot;الإنسانيةquot; لمليون ونصف المليون من المحاصرين، وإدخالها عبر معبر رفح. بينما ما نحتاج إليه هو quot;حلّ سياسيّquot;، لا مساعدات إنسانية من الصديق والشقيق.
ليكن عباس ومشعل على مستوى هذه الدماء. ليعودا إلى وحدة الصف الفلسطيني، قبل أن نصبح شذرا مذرا. إسرائيل هي المستفيد الوحيد من الانقسام، وستبذل كافة الوسائل لإدامته. فهو حقق لها ما لم تستطع تحقيقه طوال تاريخها. ليس بذكائها الخارق بل بغبائنا الخارق. فنحن من حقّق لها هذا الحلم. وعليه، فشهيتها مفتوحة الآن لرعشة القتل الجنسية. وكل الظروف الدولية والإقليمية مواتية لها لبلوغ هذا الأورغازم. ولن تردعها لا القمم العربية البائسة، ولا عواطف الجماهير، من المحيط إلى الخليج. يردعها فقط أن نتوّحد. وأن تعرف أننا لن نسكت هكذا إلى الأبد.
لن نتفاوض إلى الأبد في مفاوضات عقيمة. ولن نقاوم إلى الأبد، في مقاومات غير محسوبة جيداً. بل سنجترح طريقاً ثالثاً يليق بمن هم تحت سنّ السكين. طريقا شعبيا عقلانيا، يعتمد على النضال السلمي، كما كان الأمر في الانتفاضة الأولى. طريقا يذهب بنا إلى ضعفنا الأقصى، فتلك حقيقتنا الأولى، كشعب أعزل تحت الاحتلال. لا طريق الميليشيات والأذرع العسكرية. فنحن لسنا ندا لإسرائيل ولا حالنا هو طرف مقابل طرف. وإنما حالنا هو حال الضعف الأقصى مع القوة القصوى. بهذا سنعيد الألق لقضيتنا العادلة. شعب أعزل مظلوم أمام دولة محتلة ظالمة. هذا هو الطريق. الدواء بالداء. وهو طريق _ طريقة في النضال، يفهمها ويتفهّمها كل العالم. أما أن نبدو وكأننا جيش مقابل جيش، فحينها نحن الخاسرون. وحينها، كما هو حاصل الآن، ستتدحرج كل المصائب على رؤوسنا. ولن يكفّ العالم كله، بما فيه الأمم المتحدة والسويد، عن مطالبتنا بوقف صواريخنا مقابل أن توقف إسرائيل صواريخها. مع أنّ صاروخاً عن صاروخ يفرق. ومع أنّ الحقائق على الأرض، تقول بأننا نمتلك مواسير بدائية طائرة، نادرة الأثر، مقابل دولة تمتلك أقوى إعلام، وأقوى ترسانة سلاح في المنطقة.
لنعد إلى الحقيقة الأولى والمربع الأول:
شعب أعزل ضعيف، لا يتمتع بغير تفاؤل الإرادة، ويريد دولة واستقلالاً.
شعب متوحّد، في السراء والبأساء. له هدف نبيل، ولن تستطيع قوة في الأرض أن تثنيه عن تحقيق هدفه.
أحلمُ؟
فليكن!
أفضل من حياة موتٍ بطيء في انتظار موت سريع!