السبت 10/1، ظهراً
* أخبار لا نعرف إن كانت صحيحة أم إشاعة، عن وجود عشرات الجثث، على أطراف البلدات الشمالية (بيت حانون، بيت لاهيا، جباليا، شرق غزة، عبسان). عشرات الجثث لمدنيين تحت الردم، ولا تستطيع الطواقم الطبية الوصول إليها، بسبب تواجد قوات الجيش. وأخبار(مؤكّدة هذه المرة) عن استهدافات عشوائية بقذائف الدبابات والبوارج الحربية، فضلاً عن صواريخ الطائرات، لكل مِن: حيّ الزيتون، حي التفاح، جباليا البلد.( كلّها أماكن مكتظة بالسكان) فهل بدأ تنفيذ المرحلة الثالثة من خطط حربهم بالتوغّل في عمق الأحياء السكنية القريبة من الحدود؟ ربما. على كل حال، ثمة مؤشّرات لا تُدحض على استخدامهم لعدة أنواع من القنابل المحرّمة دولياً، مثل القنابل الفسفورية والمسمارية والعنقودية. بل لا يُستبعد أنهم استخدموا مقذوفات مشبعة باليورانيوم المستنفذ. كل ذلك سيُكشف بعد أن ينجلي غبار هذه الحرب. لقد عوّدتنا نازيتهم على أنهم لا يتورعون عن الإتيان بكل محرم. ألم يستخدموا في خان يونس، ليس بعيداً عن بيتي، قذائف يورانيوم مستنفذ، في بدايات الانتفاضة الثانية؟ خبراء دوليون محايدون أثبتوا ذلك. فإذا فعلت دولتهم هذا الفعل في quot;انتفاضةquot; فما الذي سيمنعها عن تكراره أو حتى الزيادة عليه ونحن الآن في وضع quot;حربquot; بأسوأ وأحدث معاني الكلمة؟ إنها لَحرب فعلاً وقولاً. حرب لم يُجرّبها الشعب الفلسطيني، منذ كان هذا الشعب. فلا حرب 48 ولا احتلال ال56 ولا حرب ال67 ولا حرب ال82 (فقد حدثت هذه في بيروت لا على أرض فلسطينية) ولا الانتفاضات وما سبقها وما لحقها يُشبه من قريب أو بعيد ما نراه ونسمعه ونشمه في هذه الأيام.
* اليوم، بعد الظهيرة بقليل، ألقوا عشرات ألوف المنشورات التحذيرية والترعيبية، من طائراتهم. تساقطت هذه على الشوارع وفي الحواري وفوق السطوح. كان نصيبي منها 12 منشوراً، 9 هبطت على بلاط البيت، والباقي علق بين فروع الأشجار. قرأت إحداها وابتسمت. نفس عقلية التبجّح والاستعلاء. سأنقل لكم الفقرة الأخيرة فقط، لكي تبتسموا معي: [ يرجو جيش الدفاع الاستمرارَ على هذا النهج في الانصياع للتعليمات الموجّهة إليكم عبر كافة الوسائل.] نقطة نهاية الجُملة منهم، أما علامة الشدّة على الجيم فمني. التوقيع: قيادة جيش الدفاع الإسرائيلي. لا حظوا هَزَل الصياغة وتناقضها: إنه quot;يرجوquot;، يرجوا ماذا؟ يرجو الانصياع! مش راكبة على بعض والله. لأ. عن جَد مِشْ مذاكرين!
*سؤال يؤرقني منذ بدء المجزرة وإلى أن تنتهي: أنستطيع بمقاومتنا الباسلة، وبصمودنا الثابت، تحويل كل هذه الفظائع والشنائع [غير المسبوقة] إلى مكسب سياسي، فنظفر بحصادها المأمول؟
* فينوغراد من ورائكم والانتخابات من أمامكم. ونحن: البحر من ورائنا ووحشيّتكم من أمامنا. أنتم محشورون ونحن محشورون. الفارق فقط: أننا مهددون بمصيرنا، فيما أنتم مهددون بمصالحكم. فمن الذي سيصمد؟ سؤال نوجهه إلى ثلاثي المطبخ الأمني، أولمرت وباراك وليفني. قبل توجيهه إلى غابي أشكنازي رئيس الأركان وإلى قائد عملية quot;الرصاص المصبوبquot;، قائد المنطقة الجنوبية، يوآف غلنت. سؤال نعرف فداحة الجواب عليه، ولكننا جاهزون للردّ والإجابة.
* هم قوم عقلانيون في أمور ومجانين أو مغامرين أو حتى حمقى في أمور: فما من قوة مصفّحة استطاعت تدمير وإبادة حركة مقاومة شعبية لها كل هذا الانتشار بين الناس. لقد كانوا يأملون بصورة لإسماعيل هنية أو الزهار أو الجعبري، تشبه صورة صدام حسين وهو خارج من حفرته. تجاهلوا الفروق الكبرى بين الحالتيْن: صدام كان ديكتاتوراً، بلا غطاء شعبي، بينما حماس حركة مقاومة تحت احتلال، وكل أفرادها، هم أفراد من هذا الشعب. أم تراهم يظنّون أنّ جمهور حماس هبط علينا من المريخ؟ إنّ كل قطرة دم تُسفك، وكل بيت يُردم، وكل جريح يئن، وكل جثة تتعفّن تحت الأنقاض: كل هذا يزيد من تعاطف شعبنا مع حماس. فنحن جميعاً تحت سنّ السكين. ونحن جميعاً شعب واحد، مهما اختلف وافترق سياسيّونا. الرباط الاجتماعي الفلسطيني، واحد من أقوى الأربطة في العالم. ويكفي ما نعيش من ويلاتكم وجرائمكم لكي نكون شعباً واحداً متحداً. حماس، أقول لكم، محمية من الناس. وكل يوم يمرّ من أيام حربكم هذه يضيف في رصيدها ولا يسحب. تلك هي الحقيقة التي لا ترغبون أبداً في سماعها. لكنها الحقيقة، ولا يضير الحقيقة أنها غالباً لا تُسمع.
السبت عصراً
* طلب مني الصديق عبد القادر الجنابي إرفاق بعض الصور مع اليوميات إن أمكن. ولمّا كنت لا أستخدم الكاميرا، ولا الهاتف النقّال، لم أجد بدّاً من البحث عن مخرج. ذهبت بالصدفة إلى مستشفى ناصر الكبير، فهناك يعمل صديق لي، طبيب وشاعر، وربما بعلاقاته يستطيع تدبير المطلوب. لم أجد الصديق، فسألت إن كان للمستشفى مركز إعلامي، فأجابوا بنعم، وأرسلوني للمسئول. هناك وجدت صديقاً صحافياً، فلبّى طلبي وأرسلت الصور من شبكة الإنترنت التابعة لهم. قال لي تستطيع بعث موادّك من هنا، بدل البهدلة في مقاهي الإنترنت. شكرته وحدثني عن وجود ضيوف أعزاء لا بد من رؤيتهم. كانت مفاجأة سارّة أوشكت أن تجعلني أدمع: بعض الأطباء المصريين الداخلين إلينا منذ ساعات. سلّمت عليهم فقط، على أمل إجراء حديث معهم في ما بعد. إنهم دكاترة جامعيون بدرجة أستاذ في الجامعات المصرية. جاءوا إلى غزة تعاطفاً معها ووقوفاً إلى جانبها في محنتها المهولة هذه. شكراً للشعب المصري وللشعبيْن المغربي واليمني(بينهم طبيبان من المغرب واليمن) ولكل شعوب العرب والعالم، وشكراً لكل من يقف معنا، بالقول أو بالفعل إنْ قدر، فنحن بحاجة إلى الجميع، وإلى طاقات الجميع، خصوصاً في هذه اللحظة.
* ربما لا يعرف القرّاء العرب ما معنى أن نجد عرباً في غزة. لقد عُزلنا منذ حرب ال67 عن محيطنا العربي. اثنان وأربعون عاماً لم نر عرباً في القطاع. فقط نتعامل مع جيشهم في غزة ومع شعبهم داخل دولتهم. لذا كانت لحظة مؤثّرة عاطفياً، أن نستقبل عرباً هنا. الدمُّ يحنُّ إلى الدم. وما من حدث أعاد فكرة أننا شعب واحد في 22 دولة مثل هذا الحدث. حقاً إنّ فلسطين [كما قال عزمي بشارة] هي عنصرٌ مُكَوِّنٌ في الهوية العربية، تماماً كما أنّ كل دولة عربية، كل شعب عربي، من المحيط إلى الخليج، هو عنصر مكوّن في الهوية الفلسطينية. نأمل أن يتقاطر علينا الأطباء العرب، وأن تسمح مصر لهم بالعبور، فما أشدّ حاجتنا لهم. لقد قمت بجولة على أقسام المستشفى، ورأيت بعيني مدى الخطر الذي يتهدّد حيوات شبان وشابات وأطفال وشيوخ، من نقص المعدات ونقص الخبرات. إنها الحرب بأبشع وأحطّ معانيها. وليس كالمستشفى من مكان يُريك حقيقة الحرب بكل هذا الجلاء والوضوح العارييْن.
* لقد حوّلت إسرائيل مستشفياتنا إلى مسالخ. مسالخ تُحرق وتُقطّع فيها أعضاء البشر، فقط لأنهم فلسطينيون. لكوندليزا رايس تصريح فظيع قالته اليوم أو أمس، وتذكرتهُ وأنا أعود المصابين في غرف العناية الفائقة. رايس تقول: quot;لا يمكن تجنّب إصابة المدنيين في مناطق مأهولة بالسكانquot;. إنه ضوء أخضر منها ومن رئيسها لجنرالات القتل بأن يأخذوا راحتهم. فلا حسيب ولا رقيب. وهذه هي النتيجة. تعال على المستشفى لتراها بأم عينك. أية امرأة هذه وأي رئيس هذا؟ بل أية دولة؟ الدولة الأعظم؟ الرئيس الأعظم؟ لكم يبدو لي هذا البوش، وكأنّ تحت كل شعرة في جسمه يقبع سلفستر ستالوني. فعلاً: النزاهة شيءٌ لا يُمسك باليد في أمريكا.
الأحد صباحاً
* نستيقظ على عطش. لا ماء حتى للجلي. أخرج وأعود بغالون عشرين لتر. نتدبّر أمورنا بالكفاف. الكفاف في كل شيء. ما ذنبهم الأولاد؟ الكبير يفهم ويستوعب. كيف تُقنع الصغير؟ لم نسمع صوت الحنفية من أربعة أيام. المخزون نفد في برميل السقف. والكهرباء تأتي لماماً، وحين تأتي تكون الحنفية قاطعة. ماذا نفعل؟ أمس وصلتني إشاعة بوجود طحين. قمت من فوري وتوجّهت إلى العنوان. مئات يتقاتلون أمام المحلّ. يتدافعون بالمناكب. وفي الأخير لا يحصلون إلا على عشرة كيلو غرامات. فعلت مثلهم، وعدت بالغنيمة الأعظم: عشرة كيلو غرامات من الطحين. ثم تكذب ليفني على كل العالم، بمن فيهم العرب، فتقول بأن لا أزمات إنسانية في غزة. الغذاء موجود، والوقود موجود، والماء موجود. إنه موجود حقاً، ولكن في مكان آخر غير غزة. تُرى هل قرأتْ ليفني(المثقفة) الروائي ميلان كونديرا وتأثّرتْ بروايتهquot; الحياة في مكان آخرquot;؟ ... متى .. متى يكفّون عن الكذب؟
* مَن يقتلك، هل كثير عليه أن يجوّعك؟ نعرف الجواب. لكنّ المؤلم حقاً، أنّ معبر رفح لم يأت لنا، في الأسبوع الثالث للحرب، بكيس طحين واحد. فهل هذا معقول؟ ماذا ينتظرون؟ حدوث مجاعات؟ لا نطلب سلاحاً. نطلب أيها الأخوة طحيناً. طحيناً فقط لا غير. فلا تخذلونا حتى في مطلب بدائي وضروري كهذا. بل بالذات في مطلب ضروري وبدائي كهذا. وألا كيف نصمد؟ وكيف سنستمرّ؟
التعليقات