[الحرب أكثر خطورة من أن تُترك للعسكريين] شارل تاليران(سياسي فرنسي,1754/ 1839)
الخميس 1/1
نعم: أكثر خطورة من أن تترك للعسكريين. وبالأحرى: أكثر خطورة من أن تُترك للسياسيين الفاشلين. ونحن، لسوء حظنا، محاطون بالسياسيين الفاشلين من كل الجهات: من الداخل والخارج معاً في آن. لذا على المجتمع الدولي أن يتدخل. على حكماء هذا العالم، إن ظلّ فيه حكماء، أن يتدخلوا، الآن الآن وقبل فوات الأوان.
فساعة المجزرة البرية بدأت تدق. ولو دخلت دباباتهم إلى أزقة القطاع، فسيكون القتلى بالألوف. فغزة تعجّ بكثافة بشرية غير مسبوقة في التاريخ، قياساً إلى حجمها الميكروسكوبي. مليون ونصف المليون من البشر في أقلّ من 140 كيلو متر مربع(دعك من مساحتها الإجمالية البالغة 360 كيلو، إذ 60% من مساحة هذا الرقم كانت أحراشاً، ثم تحوّلت إلى مستوطنات، وبعد رحيل المحتلين، عادت إلى سيرتها الأولى: إنما مساحات عارية مكشوفة بلا شجر. أي أنها لا تصلح لهروب الأهالي، واتخاذها كملجأ وملاذ، مثلما حصل في حرب ال 67)
على المجتمع الدولي أن يتدخّل. على المتحضّرين والإنسانيين فيه أن يتدخلوا. لقد أخذت البشرية شوطاً طويلاً، أكثر مما يجب، إلى أن وصلت لهذا الطور: طور التّحضّر. لذا نأمل من بعضها، في أوروبا بالأخصّ، أن يتدخلوا. وألا يتركونا لمصيرنا المرعب.
ثمة مؤرخ روماني اسمه ليفيوس، قال قبل الميلاد، عبارة شهيرة: quot;woe unto the vanquished. quot;: ويلٌ للمغلوب! فلا تقولوها في العام 2009 أرجوكم!
إني أسمع الكثير منquot;لوم الضحاياquot;، يأتي مرة من سياسيين (حتى عرب)، ومرة من كتّاب (حتى عرب). وأقول للجميع: لا تأخذونا بجريرة حماس. فالجريرة الأكبر هي جريرة وجريمة إسرائيل. إسرائيل هي الأصل، وهي الجلاد. فلا تلوموا الضحايا. لأنّ لوم الضحايا هو فعل غير نبيل بالمطلق. ثم إننا الآن في وقت لا يجوز فيه أن نطرح الأسئلة من قبيل quot;كم ملاكاً يقفون على رأس الإبرةquot;.
ليس هذا وقت الجدل، بيزنطياً كان أم ليبرالياً أم ما تشاءون. إنه وقت اللحاق بالقلعة قبل احتراقها وانمحاقها.
إسرائيل تشن علينا حرباً قذرة. بإمكانيات قذرة. أكثر من 100 طائرة إف 16، والأباتشي بالعشرات، وسواهما من أنواع الطائرات التي سمعنا ولم نسمع بها. ناهيكم عن مئات وربما في المستقبل القريب ألوف الأطنان من المتفجرات. كل هذا لمن؟ لشعب أعزل: أعزل ليس فقط من السلاح، بل من الماء والكهرباء والوقود والغذاء والدواء. هذا هو حالنا. هذه هي حقيقتنا التي صنعتها إسرائيل ما غيرها.
فلا تتركونا لقمة سهلة في فمها.
إنها تقصف على مدار الساعة. تُسوّي المباني والبيوت والمؤسسات بالأرض. quot;حرب بلا هوادةquot; كما وصفها جنرال الموت باراك. حرب على المدنيين بالأساس. فلا يوجد جيش مرئي لحماس، ولا توجد دبابات، ولا مواقع عسكرية معروفة. حماس منتشرة بين الناس، في كل عائلة وكل بيت. سلاحها البدائي في البيوت. فإذا أرادت إسرائيل القضاء عليها، فهذا يعني ارتكاب المجازر. اقتحام البيوت بيتاً بيتاً وردمها على رءوس ساكنيها. لن تقلع الشجرة بل ستحرق وتمحق الغابة كلها.
وغزة غابة من البشر والبيوت. أزقة متداخلة متداعية تستند على كتف بعضها البعض كي لا تسقط. وإسرائيل، كما عوّدتنا في اجتياحاتها السابقة، تختار الحل الأسهل والأيسر: حرق الغابة كلها لا الشجرة. هذا ما سوف يحصل لو قُدّر لها ودخلت بدباباتها وجنودها.
لقد فعلت هذا في مخيم جنين الصغير: ارتكبت المجزرة تلو المجزرة، ليس مع البشر فقط، بل مع المكان. سوّت المباني بالأرض وحوّلتها دروباً ومماشيَ لدباباتها وعرباتها. وفعلته أيضاً في مدن وقرى ومخيمات غزة، في غير وقت وغير مكان.
وأخشى ما نخشاه، أن تُعيد إسرائيل سيرتها الأولى، وأن يعود العالم 2000سنة إلى الوراء، إلى زمن ذلك المؤرخ الروماني، فيستنكر ويشجب، ولكنه في قلبه، يقول ما قاله الرجل، أي: ويلٌ للمغلوب!
الرحمة. إنقذوا غزة من الوحش. إنه، وفي اليوم السادس للحرب، يتلمّظ على مقربة، ويتحضّر على مقربة. نسمع صرير أنيابه، ونرى سيلان لعابه. فالوحش شرِه، والوحش مُدلل، والوحش، مثلنا تماماً إنما بالمعكوس: يرى كثيراً ولكنْ لا يرى أحدا.
يرى شعوباً قامت من أقصى الكوكب إلى أدناه، تتظاهر وتُعبّر عن غضبها الإنساني النبيل، بينما حكامها، ساستها ذوو الأيدي القذرة، نائمون.
وهو، أي الوحش، لا تهمّه الشعوب، في القارات الست، بل يهمّه فقط ذلك القابع في البيت الأبيض. والقابع في البيت الأبيض أكثر يمينية وعنصرية وليكودية منه.
فعلى أي جانبيك تميل؟
وإلى أي أرض تذهب؟

الخميس عصرا

للمرة الثالثة على التوالي، يتم قصف عربات تجرّها الحمير، بطائرات الإف 16. ما يعني أنّ quot; الجماعةquot; وصلوا، ليس إلى ذروة العبث، فحسب، وإنما إلى ذروة الهَزَل. وهذا يعني في ذاكرة وتجربة الفلسطينيين، أمراً واحداً مؤكّداً: أنّ هذه الحرب جديّة جداً، جديّة إلى حدّ أنها زادت عن حدّها، فانقلبت إلى ضدّها. وهو أمر يُبيح لهم أن يقلقوا ويتوجسوا من القادم. أليس من ذروة الهَزَل أيضاً أن يقصفوا البيوت، بصواريخ طائرات الاستطلاع مكتومة الصوت، وحين يهرع الجيران والأهالي للمساعدة ، تُغير الإف 16على ذات البيت، بصواريخها المرعبة، مستغلة جمهرة الأهالي، وذلك لإيقاع أكبر عدد من الضحايا؟

الخميس ليلا

كم تستفزّني هذه العبارة: quot;الاستخدام المفرط للقوّةquot;. عبارة ممسوحة كوجه العملة القديم. عبارة ملعوب عليها جيداً، بحيث لا توحي بشيء تقريباً. بل عبارة مصاغة خصيصاً على هذا النحو المهذب المشذب، لِتُضلّل لا لِتُنوّر: لتُخفي لا لتكشف. عبارة تلعب على سيكولوجيا اللفظ، وتنجح في تحقيق هدفها خاصة مع المستمع البعيد. فيذهب هذا لشأنه ولا يخطر بباله أنّها عبارة غير بريئة. عبارة أستُبدلت ب(محذوف) يقبع خلفها هو quot;ارتكاب جرائم حربquot;! وفي حالتنا، ارتكاب جرائم حرب ضدّ المدنيين بالذات: أطفال بلا رءوس. أشلاء مقطّعة. جثث متفحّمة. عمارات سكنية من خمسة طوابق مُسوّاة بالأرض. كل هذا، وتخرج علينا تسيبي لفني، من عاصمة النور باريس، لتقول أنه لا داعي لهدنة إنسانية في غزة، فحكومتها تُتحفنا بالكثير من اللفتات الإنسانية ، التي جرّبناها طوال سنوات الحصار الثلاث!
ومن لفتاتهم الإنسانية تلك، مكالمة وصلت زوجتي على رقم هاتفها المحمول، تُهدّد ب quot;ضرورة إخلاء البيت، تمهيداً لقصفه ونسفهquot; فيا للهول! تُراهم يظنّوننا من quot;كتائب عز الدين القسّامquot;؟ ساد هرج ومرج في المنزل، وارتعبت الزوجة والأطفال، ناهيك عن الأقارب والأصدقاء، إلى أن تبيّن أنها رسالة مسجلة، ترسلها مخابراتهم العسكرية، لمئات وربما ألوف الغزاويين، كنوع من الحرب النفسية، وذلك لإحداث مزيد من البلبلة والتشوّش بين الناس.
تسيبي لفني ذات اللفتات الإنسانية وquot;الأنثويةquot; أيضاً، تسيبي لفني الجميلة: أقول لكِ شكراً على هذه اللفتة. فإن لم تفهميها، أقول لكِ: تودا راباه!

الجمعة 2/ا

نهار هادئ تماماً. لا طائرات في الجو، ولا انفجارات. فقط quot;الزناّنةquot; غير المرئية تحوم، وبصوت منخفض هذه المرة. كأنه يوم خارج السياق. أنتهزها فرصةً وأقوم بمعظم المشاغل اليومية المؤجّلة منذ بدء الحرب. أحصل أخيراً على عشرين لتر من السولار الأسود، كوقود ل quot;بابور الفتيلةquot;، بعد أن نسينا غاز الطهي منذ ثلاثة شهور. أشتري بعض الضرورات، المفقود غالبها. مُعلّبات محفوظة، مواد تنظيف، أدوية وزيوت. أما طحين الخبز، فخزيني الاستراتيجي منه يكفي لأسبوع. هذا جيد. هذا سيعفيني من الوقوف في طابور طويل أمام الأفران.
أعود للبيت، وأعجن مئة رغيف، وفي انتظار أن تخمر، أستمع إلى الأخبار في الإذاعات. التلفزيون مقفل، لعدم وجود كهرباء(صارت هذه تأتينا 8 ساعات كل يوم وليلة. ويا ليتها تأتي بشكل منتظم، بل تتخلله الانقطاعات المتكررة، أحياناً مرتين كل عشر دقائق).
أُنصتُ إلى إذاعاتهم. أنتظر بوادر ردود فعل احتجاجية. أنتظرُ الصوت الإنساني، وربما أطمع أيضاً في مظاهرات. لكنّ هذا، في سابع أيام الحرب، يبدو مبكراً. ثمة أصوات إنما قليلة ومعدومة التأثير لا تزال. أعرف. أقفل الراديو، وأقوم للخبيز.

الجمعة ظهراً

ثمة مؤشّران مُقلقان، حدثا صبيحة هذا اليوم. بدء مغادرة 440 أجنبي (معظمهم من الروسيّات) لأراضي القطاع. والثاني: موافقة حكومتهم على حرب برية محدودة وبأعداد كبيرة من الجنود.
تطوران مهمان، ولهما ما بعدهما.
quot;حرب برية محدودة وبأعداد كبيرة من الجنودquot; لا تعني سوى المجزرة. تعني فصل مدن وقرى ومخيمات القطاع، كل على حدة. والشروع بتمشيط الأحياء السكنية، حيّاً بعد حيٍّ، وبيتاً وراء بيت، فيما يُسمّى بتعابيرهم (الأرض المحروقة).

الجمعة عصراً

بدأت طائراتهم بإلقاء منشورات تحريضية وتخويفية من الجو. لقد أفلسوا! كأنهم ما عاشوا معنا ولا عشنا معهم طوال ستين من السنين! هذه المدّة الطويلة كانت كافية لنا كي نفهم خصائصهم، لكنها، على ما يبدو، لم تكن كافية لهم كي يفهموا خصائصنا. رغم تخلّفنا في غير مجال، وتقدمهم في غير مجال أيضاً.
إسرائيل إلى اليوم، تتعامل معنا وكأنها جديدة في المكان. لا تعرف ساكنيه لا حقَّ ولا بعضَ المعرفة. وإلا لكانت من زمان حلّت وارتاحت وأراحت. فهي تراهن على الزمن، وعلى دعم أمريكا المطلق، وعلى تعبنا، لكي لا تعطينا غير ما ترغب هي أن تعطينا إياه.
ومع أنها خبيرة ولديها جيوش من المحللين الاستراتيجيين والأكاديميين، وغيرهم، إلا أنها تتصرّف وكأنها لا تعرف.
حقاً: هي لا تعرف! لا تعرف حتى الآن ذلك العلم المسمّى: quot;علم خصائص الشعوبquot;!

الجمعة مساءً

أقرأ quot;بيير وجانquot; رواية مُوبَاسَان، وترجمة ميشيل خوري. أكملها، كأول كتاب كامل أقرأه على ضوء لمبة الكاز. تأتي الكهرباء بغتة، فيهيص الأولاد ويبتهجون. هييييه! أقول هيييه مثلهم! وأذهب إلى مقهى الإنترنت. أفتح إيميلي: رسالتان من الصديقين سلمان مصالحة وآسيا علي موسى. الصديق وقت الضيق. شكراً. أردّ على سلمان، وأشرع في الردّ على آسيا، فتنقطع الكهرباء.
لا بأس.
أعود إلى البيت، خابّاً في مياه الأمطار والعتمة والمطبّات. قبل أن أدخل العتبة، أُلقي نظرة إجمالية على شوارع الحَيّ وبيوته وقططه الضالة، ثم أنظر أبعد.

أحبها مدينة الأشباح!

quot;أحبُّها
كما تُحبُّ أمٌّ طفلَها المشوّهاquot;