ثمة من يحلمون بالعودة إلى غزة على ظهر دبابة إسرائيلية. أقول لهؤلاء، وهم كثر، هذا عار: عار عليكم. والعار الأكبر منه، أن تُلمّحوا بذلك، في تصريحاتكم غير المسئولة. بل غير الأخلاقية بكل المقاييس. فلا يوجد فلسطيني حقيقي يقبل بمنطقكم هذا. ولا يوجد فلسطيني، يعرف حقيقة ما تفعله إسرائيل في الحرب، من عدم تمييزها بين فلسطيني وفلسطيني، يقبل بمثل هذه التصريحات. فكلنا أمامها أعداء، وكلنا أمامها أهداف صالحة للموت. إنّ غزة تحترق، وبيوتها تُهدم على رءوس ساكنيها الأبرياء، وشلال الدم يشخب من رقبة الذبيحة -الذبيحة التي هي أهلكم وجيرانكم، فعن أي عودة تتكلمون؟ وبأي عودة تحلمون!
لم أشعر بالعار فقط، وأنا أسمعكم، وإنما شعرت بالقرف، وبمدى ما وصل إليه بعضنا، من انحطاط، ومن بُعدٍ عن بديهيات جامعة تربّينا عليها في الطفولة.
نختلف مع حماس؟ أكيد نختلف مع حماس. ولكنه خلاف الإخوة في بيتهم الداخلي. أما أن نختلف معها، ونتمنى محقها، بينما البيت كله، بجميع ساكنيه، يترنّح تحت ضربات الوحش، فلا وألف لا.
خلافنا يُحلّ بالحوار. وبالحوار فقط. ولا مكان بيننا لمن يستقوي بعدونا. كما لا مكان بيننا لمن يشمت بالضحايا. مهما كان ومهما يكن.
تألّمت في اليوم الأول من هذه الحرب، حين نُصبت خيمات العزاء بالشهداء، فلم أجد فيها معزّين من هذا الفصيل أو ذاك. وتألمت على نحو أعمق، حين سمعت من بعض الرعاع، شماتة صريحة بأصحاب الدم الطرّي بعدُ. لكنني خفّفتُ عن نفسي بالقول: إنهم رعاع. أما أن أسمع تصريحات مخزية من بعض المستشارين وغيرهم، فماذا سأقول؟ هل هم رعاع أيضاً؟
إنه فقط الاهتراء والابتذال، يأتي من بعض الفلسطينيين، في لحظة نحن أحوج ما نكون فيها إلى التوحّد وضبط أنفسنا.
لحظة يسيل فيها دم الجميع، ولا أحد بمنأى. لا أحد بعيد عن همجية وبربرية الغول الإسرائيلي. لا الحمساوي ولا الفتحاوي ولا ابن الحزب الشيوعي.
إنّ من لم توحّدهم لحظةُ الدم الكبيرة هذه، من لم تُعدهم إلى رشدهم، هم غرباء عنا، وشاذون، شاذون حقاً.
نختلف مع حماس، من الأرض إلى السماء. لكننا معها، بما هي جزء أصيل وكبير من نسيج شعبنا، حين يتعرّض هذا الشعب الأعزل للمحق والمحو. ولنتعلّم من أعدائنا ذاتهم: فما أكثر أحزابهم، وما أكثر خلافاتهم. هدفهم واحد، وفقط يختلفون في أفضل الطرق للوصول إليه. ليكن أعداؤنا معلمينا، إن كان لا بدّ. فلا بأس من ذلك، بل فيه كل الصحة، حتى ونحن في ذروة الهول.
لا شماتة في خصم داخلي، ولا شماتة في عدو خارجي حين يموت. فالموت كاف، بما هو موت، والموت لا يَسُرّ إلا من فقدوا رشدهم، وقبل ذلك، بشريتهم وإنسانيتهم.
هذا شأن، والشأن الثاني، هو تصريحات السيد المحترم يان كيمون، سكرتير عام الأمم المتحدة. فقد خرج علينا الرجل، قاطعاً إجازة نهاية الأسبوع (وليته لم يقطعها) بأقوال غريبة وعجيبة فعلاً. إذ حمّلَ حماس مسئولية ما يجري، مُلمّحاً، إلى تقاعس الدول العربية في حثّها عن(.. كاد أن يقول quot;إرهابهاquot;).

حتى أنت يا كيمون! وفي هذه اللحظة؟
هل حقيقة أن حقيقة الوضع في الميدان لم تصلك؟ أم هو الانحياز لأمريكا وإسرائيل؟ وهل يليق هذا بمكانتك الرمزية كممثل لكل دول وشعوب العالم؟ إنّ مرؤوسيك في قطاع غزة يعرفون كل الحقيقة، ولطالما جهروا بها، وإنّ تفاصيل ما يحدث من وقائع هذه الحرب القذرة، مبثوث، دقيقة بدقيقة، في معظم وسائل الإعلام، أفلا ترى؟ أمّ أنّ المشكلة في العين ذاتها؟
لا تقتلونا كلنا بحجة حماس وquot;إرهابquot; حماس. فالإرهاب الحقيقي هو إرهاب الدولة الفالتة. إرهابها المنظم المبرمج. فهي لم تكتف بكل ما لديها من أسلحة متطورة، كما تناقلت وكالات الأنباء، بل اشترت من حليفتها قبل ثلاثة شهور، مئات القنابل الصاروخية الذكية ذات القدرة المريعة على التدمير، وها هي تستخدمها،.. وأين؟ في حواري غزة وأزقتها المنغولة بالبشر. إنّ إعلامها ذاته يعترف بمقتل 77 مدنياً من الأبرياء، حتى اليوم الثالث فقط، بما فيهم نساء وشيوخ وأطفال (آخرهم الطفلات الشقيقات الخمس من عائلة بعلوشة). وهو طبعاً رقم غير صحيح، فالضحايا الأبرياء أكثر من ذلك بكثير. ومرشّحون، إذا حصل اجتياح برّي، إلى الزيادة على نحو لا يعرفه أحد.
فأين هو الإرهاب؟ وكم قتلت حماس حتى الآن من الإسرائيليين؟ لا نحب هذا المنطق وهذه المقارنة، ولكننا مجبرون على ذلك الآن. الآن ونحن تحت القصف والموت. الآن حيث أطفالنا بدأوا يخافون حتى من برق الشتاء، فهم يظنونه وميض صاروخ الموت القريب. وأكثر: حتى أنا بات يُخيّل إليّ، كلما سمعت عواء قطط تجوح، وكأنّ ما أسمع هو صوت عويل جارة أتاها نبأ ابنها أو أخيها للتوّ.

يا لها من حياة ويا لها من حرب!
تهجم إل ف 16 فنخشى على حيطان منازلنا أن تهيل علينا. ننام في صقيع الأربعينية، تاركين الأبواب والشبابيك مفتوحة، كي لا يحصل ارتداد في الهواء، وما أدراك ما الارتداد. إذهب وادرس قوانين الفيزياء، ولك أن تتصور بعدها، كيف تفعل هذه القوانين فعلها الكوني في بيوت المخيّم الفقير المبنيّ منذ ستين سنة. معظم بيوت القطاع آيلة للسقوط بدون طائرات ال إف 16. إنّ الساديّ يتمتع أكثر ما يتمتع إذا كانت ضحيته تقاومه، فما بال جنرالات سلاح الجو، يتمتعون، ونحن تحتهم، في غاية الضعف والبؤس؟
لكنْ كل هذا كوم، والحرب البرية كوم بل أكوام. فلا تنسوا أنّ الاجتياح البريّ هو أبو المجازر. ولا تنسوا ما حصل في مخيم جنين.
جنرالات إسرائيل يُحضّرون للاجتياح. وربما بين لحظة وأخرى يبدأ. فهل نأمل أن يلحقنا الله، العرب، أوربا، الشيطان، أيٌّ كان، فيعفينا من هذه الكأس؟
لقد بُعثت رسائل عديدة للأول والثاني والثالث والخامس فلم تصل.
لم يبق إلا الرابع، فهل تراه يستجيب؟
اللعنة!