الحلقة الأولى |
الثانية صباحاً. لم أنم بعد. أتقلّب على شوك. لا أدري ماذا أفعل؟ الجو العام مُكفهرّ, الجنازات تزداد والأُفق يتلبّد. أما باراك فهذه أسعد أيامه, فصانع الأرامل هذا يوغل عميقا في الدم, بعد أن خلا له الجو وباضَ صواريخَ اغتيالٍ وموت. وبعد أن صمت العالم جميعا وكأنّ على رؤوسهم الأباتشي!
لم أنم بعد. وكيف يأتي النوم؟ فها هي الأباتشي تُحوّم فوق البيت. فوق البيت تماما, وكأنني أنا المطلوب وبعد قليل.. ربما بعد ثوان معدودة, سنتلقّى هداياها: صواريخَ وإطلاقات عيار ألف ملّيمتر.
آه يا إلهي! كم يشتاق المرء لليلة بلا شهداء! لليلة بلا إصابات وبلا هدم! فقد مللتُ حدّ السأم من شيوع الشهداء وازدهار الأرامل.. أما من طريقة أخرى للعيش؟ وإن كان فمتى أيها الربّ؟ متى حقاً وصدقاً.
ها هي الأباتشي لم تخلف وعداً. لقد ضربت ناحية ما من المدينة, وها أنذا أسمع دمدمة الانفجار البعيد.. انفجار ضخم يُرجّع صداه سكونُ الليل البهيم. تُرى مَن انعجن جسدهُ الآن؟ ومَن أُصيب ومن مات؟ آمل أن تكون ضحية واحدة لا أكثر, فالأباتشي ديناصور لا يرتوي من ضحية واحدة. هكذا عوّدنا, وهكذا لم يُخلف توقعاتنا مرة واحدة للأسف.
الإنفجارات تتوالى. وزعيق سيارات الإسعاف يملأ أركان المدينة النائمة. بعض الجيران يستيقظون, وتدبّ حركة ما في الشوارع والأزقة. إنهم المقاومون: حرّاس المدينة من صغار الشباب ومن مختلف التنظيمات. يلعلع رصاص أسلحتهم الخفيفة في سماء الفجر, فقط لكي يعلم الديناصور الحديدي أنهم موجودون فحسب! وأنهم مستعدون للدفاع عن حمى مدينتهم لو فكّر هو بالاجتياح!
معركة ظالمة أبعد ما تكون عن التكافؤ. ورغم ذلك: هم يقظون ومستعدون. في أيديهم أسلحة بدائية وكلاشنكوفات, وفي يد عدوهم آخر جيل من ترسانة أسلحة البنتاغون. فآه وآه من تشاؤم العقل, وآه وآه من تفاؤل الإرادة, الذي لا يكفي لكي ينتصر الحقّ.
قبل ساعات فقدت المدينة خمسة من أطفالها دفعة واحدة. وهذه الليلة ماذا سيخبّئ لنا صباحُها الحزين؟ يا رب, يا ملاذ العاجز والأعزل والمتروك وحده لعراء الجدار: أَمَا من نهاية لهذا الكابوس؟ أما من حلّ قريب؟ أما من(كفى) حاسمة وجازمة يقولها عاقلٌ قادر!
الثلاثاء ظهراً
الدوغما لا يرى الخارج. عينا الدوغما مقلوبتان إلى الداخل. عيناه لا تبصران, وإن أبصرتا لا تفهمان. فالدوغما لا يسكن عالمنا, إنه يعيش فوق السحاب: مع أوهامه واستيهاماته وجوّانيّاته التي لا تخصّ إلاّه ومَن هم على شاكلته. لذلك, عندما يتقلّد الدوغما مقاليد السلطة, لا يأتي غالبا إلا بالكوارث. والتاريخ مليء بالدوغماءات: هتلر, موسوليني, ومن قبلهما نيرون إلخ. لكن بشر أيامنا لا يقرؤون, وإن قرؤوا لا يستوعبون, وإن استوعبوا لا يعتبرون. ذلك دأبهم على مدار التاريخ. والسلالة البشرية واحدة, لم تتطور كثيرا في صفاتها: ما إن تمتلك القوة حتى تبطش بمن أقل منها قوة, بل وبالذات بمن هو معدوم القوة. كما فعلت وتفعل وستفعل إسرائيل بنا. إسرائيل التي كنت أظن أن بعض مثقفيها أفضل من رعاعها وعسكرييها, لكن للأسف: مجتمع عقدة (المتسادة) هو مجتمع عقدة المتسادة! تثبيت سيكولوجي وعماء إنساني وفاشيّة متأصلة! حتى ولو دخلنا الألفية الثالثة! يا مثقفي إسرائيل: ليس الجنرال باراك وحده هو الدوغما, أنتم أيضا تماهيتم معه. أنتم أيضا عيونكم مقلوبة إلى الداخل. كنت أتمنى _ وأغلب الأمنيات وهم_ أن يكون لي من بينكم أعداء نبلاء قليلا. فعهدي أن الكثير من الثقافة يخلق عند صاحبه بعض النبل, وبعض الحس الإنساني, ولكن حتى في هذا خذلتموني. كم هو بائس مناخ المتسادة الذي تعيشونه. وكم هو بائس أن تكونوا مثقفين بإطلاق. أي ثقافة وأي إحساس بالألم وواحدٌ منكم لم يخرج ليقول للجنرال الفالت أنْ كفى؟! ماذا؟ هل تعجبكم عنصريتكم وهل يعجبكم قتلنا وفناؤنا؟ هل تريدون منا أن نكون نحن المثقفين الفلسطينيين والعرب رُسل سلامٍ ودعاة محبة بين شعبكم وشعوبنا؟ أينَهُ المنطق في هذا؟ حقا: الدوغماءات لا ترى. وإن رأت لا تفهم: سيما إذا كانت دوغماءات مثقفة. [تعليق على لغط مثقفين في إذاعة عبرية]
الثلاثاء عصرا
لا بد أن [تستمر الحياة] أليس كذلك؟ نعم: لا بد, وإلا انتصروا علينا! لا بد من مواصلة قراءة فويرباخ! وحبذا لو تقوم الآن تبحث عن شريط موسيقي ليوهان سبستيان باخ! كلا: لا تصدّقوا_ فقط( حَبَكَتْ القافية). ما أسمعه من موسيقى كلاسيك هو ما أسجّله من إذاعة(ريشت بيت رقم quot;3quot; كل يوم جمعة من الساعة السادسة مساء حتى الثامنة) فأين تجد باخ أو فاغنر أو غيرهما وأنت في قطاع غزة؟ (مرة أخرى: صوت الإطلاقات, مرة أخرى: اللعنة عليكما يا باراك وليفني). ألا يمكنني القراءة بهدوء؟ أين أنت يا مدير عام منظمة اليونسكو؟ أين أنت يا كويتشيرو ماتسورا؟ النجدة! إنّ شاعرا يريد أن يتثقّف ولا يستطيع! النجدة! إرحموا شعراء العالم الثالث...
الأربعاء 31/ 12
حظ منكود! حظ منكود هو حظنا نحن الفلسطينيين! ألم يفكر هرتسل في: أيضا أوغندا؟ العلماني لم تكن تعنيه كثيرا فلسطين, إنما في النهاية تغلبت المصالح الإمبريالية فربحَ المتدينون. ضربة حظ.. وعلينا أن ندفع نحن ثمنها إلى أجل غير منظور! يا لها من طريقة عبثية وغامضة: تلك الطريقة التي يسخر فيها التاريخ!
الأربعاء ضحى
طُقْ.. طُقْ.. طُقْ. ما أبأس صوت إطلاقاتنا: واهنة ومتحشرجة. قلّة إمكانيّات. بنادق لها خمسون سنة في الخدمة! أما إطلاقاتهم فما أفجرَها رررممم شششش فففف/ نَفَس طويل يا خال. نفس طويلٌ ومُعافى. ومال أمريكي سائب بلا حساب. كل طلقة مُتحشرجة من مقاومينا يردّون عليها بألف طلقة عيار 1000 أو 800. أي سخاء يهودي وأنت شايلوك يا شايلوك؟ ها هي ذي الآن: طلقة كلاشنكوف قديم كسُعلة مريض في التسعين! صدقوني: إني أُقهقه الآن_ حَبَكَتْ النكتة! وأخشى أن يكون صوت قهقهتي أعلى من صوت طلقة الكلاشنكوف إياه! شعب معدوم الإمكانيات وأعزل: ثم يحدثونك عن الإرهاب. يا أحفاد يوشع بن نون: تتبيشوا إكصاد*! تتبيشوا حبّة. يوشعُكُم أوقف الشمس في زمانه, وانتم تريدون في زمن الاستنساخ تغطيتها بغربال لا أقل! أين المنطق؟ أم أنه لا يجوز لنا أن نسأل سؤالا كهذا مع أناس تأسست حقيقتهم المادية الأولى على الخرافة والخرافات؟
الأربعاء مغرباً
[... أصبحت الرغبةُ في أن يحصل المرء على موت خاص به في انحسار مستمر.] جميلة هذه العبارة. جميلة. أين يا باسم قرأتَها؟
الأربعاء ليلاً
أتذكّرُ... (يا لروعة
مَن لا يظنُّ أنّ quot;الحياة زائلةquot;
حينَ يرى وميضَ البرق.)
أستبدل البرق بالصاروخ, وأسألُ: مَن قالها؟ تُرى من قالها؟ quot;باشوquot; الياباني؟ أم مَن؟.... أيتها الذاكرة التي مِن قشٍّ: ألا تخذليني هذه الليلة أيضاً؟
مَن لا يظنُّ أنّ quot;الحياة زائلةquot;
حينَ يرى وميضَ البرق.)
أستبدل البرق بالصاروخ, وأسألُ: مَن قالها؟ تُرى من قالها؟ quot;باشوquot; الياباني؟ أم مَن؟.... أيتها الذاكرة التي مِن قشٍّ: ألا تخذليني هذه الليلة أيضاً؟
الأربعاء فجراً
صحيٌّ وذو فائدة: هذا التقريع_بين السنة والأخرى_ للسلالة البشرية الضالة. صحيٌّ وذو فائدة, أن أضعها_بين السنة والأخرى_ في متناول السخرية وعلى مقربة_أحياناً_ (ولو مجازيّاً) من أصابع اليدين.
* استحوا قليلا
التعليقات