نقلت الأخبار من بغداد قيام سلطاتها المحلية بغلق المقاهي الليلية ومحلات بيع الكحول بما فيها النوادي الثقافية التي تتبع جمعيات ثقافية ونقابية مثل quot;اتحاد الأدباء والكتاب العراقيينquot;، ما اثأر ردود أفعال كثيرة في الأوساط الثقافية خاصة والليبرالية عامة، قادتها quot;مؤسسة المدى الثقافيةquot;. وتبع هذه الخطوة بأيام قليلة إجراء تجميد تدريس الموسيقى والمسرح في معهد الفنون الجميلة العريق ببغداد، والذي يمتد عمره إلى ما يقارب ثمانين عاما أو أكثر.
أصابع الاتهام والاحتجاجات وجهت إلى حكومة بغداد المحلية التي يرأسها محافظ بغداد (صلاح عبدالرزاق)، المنتمي إلى حزب الدعوة الذي يقوده المالكي، وكذلك مجلس المحافظة الذي يرأسه كامل الزيدي الذي ينتمي إلى نفس الحزب. وقد ردت الحكومة المحلية ومجلس المحافظة بأن الإجراءات الأخيرة جاءت تنفيذا لقرارات مجلس الوزراء الذي يرأسه المالكي. ولم يعلق أو يرد مكتب رئيس الوزراء على ذلك بعد، رغم تعالي الأصوات التي صنفت تلك الإجراءات بأنها تصب في خانة كبت الحريات بل نعتتها مظاهرات بغداد بـquot;إجراءات طالبانيةquot; في إشارة إلى حركة طالبان المتطرفة في أفغانستان. كما أن مجلس المحافظة ممثلا برئيسه قد تبنوا إدارة الصراع مع الجهات الرافضة خاصة مؤسسة المدى واتحاد الأدباء وراحوا يصفونهم quot;بأدباء الخمرquot; وما شابه ذلك من نعوت. تبع ذلك إصدار بيان تأييد من المرجع الديني ومؤسس حزب الفضيلة الشيخ اليعقوبي، ثم آخر من السيد مقتدى الصدر الذي دعا أنصاره لتأييد القرار بالتظاهر عقب صلاة الجمعة الماضية. وإثناء على القرار من وكيل السيد السيستاني في النجف. ما أعطى دفعة معنوية قوية لمجلس محافظة بغداد ومجالس المحافظات الأخرى وحكوماتها المحلية التي اتخذت إجراءات مشابهة منها مثلا إلغاء فقرات الموسيقى والغناء في مهرجان بابل الثقافي، ومهرجان البصرة للغناء الريفي وغيرها. هذا ناهيك عن أن واقع محافظات جنوب بغداد والمنطقة الغربية وديالى تشهد منعا تاما تقريبا لأي مظاهر quot;تخالف الشريعة الإسلاميةquot;، مثل عدم ارتداء الحجاب أو إقامة الحفلات الموسيقية وما إلى ذلك.
يرى البعض في أن هذه الخطوات بوادر لأن تتحول الحياة الاجتماعية في العراق إلى كابوس يكتم الحريات الفردية ويطبق ما يدعى بـquot;أحكام الشريعة الإسلاميةquot;، التي تطبق في بعض الدول التي تحكمها حكومات دينية. ومع أن هذه التطبيقات جاءت كفرض أمر واقع من قبل الجهات والحركات الدينية التي أصبحت متنفذة بعد سقوط النظام السابق، وقد كان مسكوتا عنها بداعي عدم استتباب الوضع الأمني وتوحيد الصفوف من أجل محاربة الإرهاب، وتوحيد الصف الوطني. لكن الأمر الخطير الآن أن تتم شرعنة هذه الإجراءات بعد أن قارب الحال الأمني على الاستتباب.
لسنا ضد الحفاظ على قيم المجتمع ومنها القيم الدينية، ولكن السؤال بل الأسئلة هي، هل نحن دولة دينية فعلا؟؟ وهل المجتمع يحتاج إلى تطبيق مثل هذه الإجراءات؟؟؟ هل نضمن بذلك عدم تفشي المخدرات مثلما هو الحال في إيران، هل نضبط حدودنا من التهريب، حيث quot;كل ممنوع مرغوبquot;؟؟
لاحظ أن هناك إحصاءات تشير إلى أن هولندا قد شهدت تراجعا كبيرا في أعداد المدمنين والمتعاطين للمخدرات الخطرة منها خاصة، السبب الرئيسي لأنهم فتحوا مقاه خاصة لتعاطي المخدرات الخفيفة وتخلصوا إلى حد كبير من مطاردة المدمنين والمتعاطين والمهربين ووفروا أمولا كبيرة كانت ستنفق على ذلك. مرة أخرى لا نريد معالجة مسألة شرب الكحول، لأنها ليست مسألة فقهية فقط، إنما تتعلق بثقافة أو انتماء أعداد كبيرة من أبناء هذا البلد، وتحتاج إلى ضمان حقوقها. كما لا نريد أن تكون مثل هذه الإجراءات مقدمة لسلب حريات وحقوق أخرى كانت مصادرة في عهد النظام السابق.
والسؤال المهم هو: ما سبب تطبيق مثل هذه الأحكام الآن، خاصة وان الحكومة لم تتشكل بعد؟ ولماذا لم تطبق من قبل، في وقت كان البلد يعاني من ما يعاني من ضربات الإرهاب.
لم يكن متوقعا أن يقدم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي على مثل تلك الإجراءات وهو الذي عرف بتركه هامشا من الحرية في هذه الجوانب طيلة فترة حكمه السابقة. وهو الذي عادت الحياة في عهده إلى شارع أبي نؤاس الشهير في بغداد، بعد أن استقر الوضع الأمني نسبيا وعادت الحياة الليلية إلى بغداد بدرجة معقولة.
إن الجواب المرجح هو أن المالكي بدأ بتطبيق أولى صفحات اتفاقه مع مقتدى الصدر حيث كسب المالكي فيه جولتين من صراعه على السلطة. الجولة الأولى حينما انتصر على انشقاق حزبي المجلس الأعلى والفضيلة ومرشحهما quot;عادل عبدالمهديquot;، والثانية حينما كسب معركة رئاسة الوزراء ضد القائمة العراقية وزعيمها إياد علاوي، كل ذلك جاء بفضل دعم التيار الصدري ووقوفه بكل ثقله إلى جانبه. ولكن ما ثمن وقوف التيار الصدري إلى جانب المالكي؟
من المعروف للمتابعين أن التيار الصدري لا تهمه المناصب الحكومية كثيرا، ولا ثقلها وتأثيرها، وهم من يطلبون باستمرار quot;مناصب خدميةquot;.
لقد صرح قائد التيار الصدري quot;مقتدى الصدquot;ر، قبل أيام قلائل بما مضمونه أنه quot;يحاول إصلاح وهداية المالكيquot;، ومفهومي quot;الإصلاح والهدايةquot; لدى فقهاء الدين ورجالاته لا تعني إصلاح quot;وطنيquot; مثلا أو سياسي أو فكري، إنما أخلاقي أو المسؤولية بذلك بالدرجة الأولى، وهذا ينسحب على سلوك السياسي في الواقع الاجتماعي.
إن تيار الصدر وجناحه العسكري quot;جيش المهديquot; يعتبرون واجبهم الأول هو quot;البناء الأخلاقيquot; بما يمارسوه من دور رقابي على المجتمع ومؤسساته الرسمية والمدنية. وتتناغم الحركات الدينية الأخرى مع هذا بدرجات أو تغالي فيه حركات دينية أخرى سواء من الشيعة أو السنة.
باختصار شديد إن شكل الحراك الأخير الذي وصل إلى درجة الصراع quot;السلمي لحد الآنquot;، يشي بنوع جديد من الصراع، مرجح أن يصل إلى حد إراقة الدماء، خاصة إذا ما كان أحد أطرافه quot;ديني أو مذهبيquot;. وبصورة أدق عندما يؤيده مرجع ديني، لان ذلك سوف يعطي الشرعية لبعض المتهورين من الأتباع أن يقتلوا الآخر بدم بارد quot;قربة إلى اللهquot; مثلما تقوم الحركات الإرهابية الأخرى. كما أنه سوف يفتح الباب، لأن يكون الخصم المستضعف هدفا للحركات الإرهابية التي تريد إضعاف البلد بأي صورة وتبحث عن أي هدف سهل. الخشية أيضا أن نشهد تطبيقا تدريجيا لضوابط تنسب إلى الدين تقيد الحريات الفردية والفكرية خاصة. وتعود بنا إلى ابعد مما نحن عليه الآن.
إن البلد لا يحتمل أي شكل جديد من الصراع أو قمع لحرية المواطن يضاف إلى معاناته من الإرهاب وتهديد وحدته وهويته الوطنية، والفساد الإداري والبطالة ونقص الخدمات الأساسية وغيرها ممن يحتج المواطن يوميا ويصل صراخه إلى عنان السماء. كل يغطى عليها بمسائل جانبية لا تخلف إلا مزيدا من التدهور وتنسحب إلى ابعد مما تهدف له.
إذن نحن على أعتاب مرحلة صراع جديدة في العراق ونأمل أن يكون سلميا بين هذين التيارين كما كان سابقا منذ أيام الشاعر جميل صدقي الزهاوي وعبدالفتاح إبراهيم بداية القرن الماضي مرورا بالجواهري وعلي الوردي وغيرهم، ولكن الخشية الآن تأتي من أن أحد طرفي الصراع قد أصبح في السلطة الآن، ما يعني عدم الارجحية.
- آخر تحديث :
التعليقات