والعقول النووية التي اقصدها في مقالي هذا ليست العقول النووية التي تصنع ما يدمر البشرية، وإنما العقول التي يجب على دول الخليج أن تصنعها بالتعليم القوي والأنظمة المتطورة لا لتصنع قنابل نووية هدفها التدمير والقتل وإنما لبناء أوطان متحضرة وشعوب منتجة دون النظر إلى من يزرع المخاوف في نفوس الخليجيين من صناعات نووية إيرانية حتى يدفع الدول الخليجية أن تفكر في استثمار أموالها في بناء منشآت نووية باهضة التكاليف تستنزف ثروات الدول الخليجية وتحرف مسارها كيلا يتجه نحو تنمية الشعوب الخليجية التي لاتزال مصنفة كشعوب متخلفة رغم الثروات المالية المتوفرة. وعندما تستنزف الثروات في بناء منشآت نووية لاحاجة لها تتوقف الدول الداعمة لبناء المصانع النووية عن الاستمرار في تكملة المشاريع كعادتهم دون أن تتمكن دول الخليج من تحقيق هدفها النووي في الوقت الذي لاينفع الندم وقد ضاعت الثروات في غير سبيلها وأهدافها التنموية الحقيقية.
إن تخويف دول الخليج أن تكون إيران دولة نووية هو في ظاهرة تعاطف كاذب وفي جوهره رغبة في امتصاص ثروات الخليج إما لدفعهم لبناء مفاعلات لاتؤدي الهدف المنشود او لتوقيع الكثير من الصفقات التسلحية من وقت لآخر مما يثقل كاهل الميزانيات ويشغل الحكومات عن ممارسة دورها الحقيقي في بناء شعوب متحضرة، لأن تطور الشعب وارتفاع نسبة المتعلمين فيه المتخرجين من مدارس وجامعات متطورة ووجود مستشفيات عالية المستويات وطرق عصرية ومدن منظمة وقوانين تتناسب مع روح العصر وتنشئة أجيال مبدعة تقوم بدور المعلمين والمهندسين والأطباء والعلماء هم القوة الحقيقية لحماية امن أي شعب. خاصة ونحن نعلم أن باكستان بقنبلتها النووية لم تستطع أن تخرج من محنة تمزقها وتخلفها وفقرها ولم تحميها من أعمال الإرهاب التخريبية التي تضرب كل يوم لقتل العشرات من أبناء شعبها في الوقت الذي تقع دول أوروبية عديدة بين دول أخرى نووية كفرنسا وبريطانيا دون أن تحقق أي من الدولتين النوويتين أي تميز على باقي الدول الأوربية التي لاتملك قنابل نووية لكنها تملك اقتصادا قويا وشعوبا متطورة. بل أن الاتحاد السوفيتي السابق لم تنفعه قنابله النووية الكثيرة وصواريخه العابرة للقارات أن ينجو من التفكك والانهيار بسبب حكمه الشمولي وأنظمته القمعية ومخابراته التي ترصد أصوات العصافير ودبيب الصراصير. وربما في العقود القريبة القادمة يخترع العلم قنابل مضادة للقنابل النووية لتصبح القنبلة النووية مجرد وهما من الماضي.
أن القنابل النووية لاتستطيع أن تحقق نصرا نهائيا لمن يصنعها ويملكها، بل أنها تصبح خطرا يهدد امن من يصنعها، وسوف يكون القرن القادم مقبرة لكل المصانع والقنابل النووية، ويكون الانسان الذكي هو من يفكر كيف يبني بالأموال المقررة للمصانع النووية المزيد من المدارس والجامعات والمستشفيات التي تبني عقولا مستنيرة، لأن صناعة الانسان القوي موفور الصحة والعلم في بيئة نظيفة ووسط أنظمة عادلة هي السياسة الناجحة التي سوف يصفق لها المستقبل بعيدا عن كل تفكير عدواني او خوف غير مبرر يجعل الانسان يفكر بعقل مرتجف ورؤيا ضبابية.
على دول الخليج أن تستغل الثروات المالية المتراكمة لتأسيس البنى التحتية التي تخدم شعوبها لقرون عديدة، لأن النفط لن يدوم، ووجود بنى تحتية متطورة من محطات تحلية للمياه وطرق سريعة تشمل كل نواحي الوطن وكذلك خطوط سكك حديدية وجوية تصل إلى كل مدينة وقرية ومطارات متطورة، ومحطات صرف صحي تغطي كل الأماكن القديمة والتي يراد إنشاءها بعد قرن من الزمان، هو ما سوف يؤسس لبناء أوطان لا تخاف من المستقبل، ولكي ينطلق الانسان الخليجي لممارسة دوره الوطني في التعلم والإنشاء والبناء والاختراع حتى لايبقى عالة على أوطانه معتمدا اعتمادا كليا حتى في تربية أبناءه على العامل الآسيوي وهو ما يهدد مستقبل الانسان الخليجي بالخطر، بشرط أن يكون الانسان الخليجي هو محور ذلك التطور ليشعر بحقيقة الانتماء بعيدا عن كل فكر فئوي ضيق يعمق شعورا بالغبن لدى فئة دون أخرى ويؤخر مسيرة النمو الطبيعي لكل شعب يطمح أن يكون حرا كريما مستقرا ومنتجا.
تكدس الأسلحة في المخازن كتراكم الأموال في الحسابات البنكية، كلاهما لايصنع أمنا ولا يحقق استقرارا إذا لم يستغل المال في بناء الانسان المتعلم الحر، وتكون الأسلحة المكدسة من صنع الانسان نفسه، ولم نسمع او نقرأ أن شعبا بنى حضارته وحقق انتصاراته بفعل أسلحة لم يصنعها او بكثرة مال بحوزته، مالم يكن المال مقابل ما ينتجه وتكون الأسلحة من صناعة أبناءه التي تعلموها في جامعات تعلم علما وفكرا وتنبذ أدلجة العلم والمعرفة.
على دول الخليج أن تستغل الفرصة التي لن تعوض وقد وهبها الله ثروات نفطية كبيرة يجب أن توضع لها الخطط السليمة لتحقيق انجازات حضارية حقيقية محورها الانسان الخليجي بعيدا عن التركيز على التنافس في بناء العمارات الشاهقة التي لايشارك في بناءها إنسان خليجي ولا معدات مصنوعة في المصانع الخليجية، لأنه لو توقف تدفق النفط لأصبحت العمارات الشاهقة والشوارع المزدحمة والمصانع المستوردة وخزانات الصرف الصحي ومولدات الكهرباء وآلاف السيارات مشكلات لايستطيع الانسان الخليجي كيف يتعامل معها ولتمنى أن يعود به الزمان إلى عصر الخيمة وبيت الشعر والبعير والحمار، لكنه للأسف لن يجد لذلك العصر أثرا ولن يستطيع التعامل مع حضارة مادية بناها غيره ورحل، لأنه لم يعد لذلك إعدادا جيدا وكان يعتقد أن المال وحده كفيل بجعله يتفاخر بركوبة سيارة غالية السعر لم يشارك في صناعة مسمار صغير في جسدها.
فلتصنع إيران قنبلتها النووية مثلما صنعت باكستان قنبلتها،ولنصنع مستقبل أجيالنا بعيدا عن التفكير في الحروب والعنف وكل سوف يلاقي ما يناسب تفكيره،لأن الأمن لاتخلقه القنابل النووية وإنما تصنعه وتحافظ عليه العقول المبدعة التي تساوي إحدى خلاياها ألف قنبلة نووية لو أحسنا صناعة ذلك العقل وصرفنا على تعليمه ربع ما نصرف على أدلجته!
سالم اليامي [email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات