اخيرا استطاع العقيد ان يمنح شعبه شيئا حقيقيا، مفيدا، مفرحا. الدكتاتور قادر على العطاء مرة واحدة. ومرة أخيرة. هي نهايته. نهاية حياته او نهاية سلطته. ووحدهم الذين جربوا العيش في كنف الدكتاتور يعرفون تلك البهجة. رقصة القلب العجيبة المنبعثة فجأة بعد حكم طويل بالموت على القلب.
الدكتاتور العربي لا نظير له لدى بقية الأمم. او على الأقل من المشكوك ان يضاهيه نظير. صحيح ان كل نسخ هذا النوع من الحكم لااخلاقية. ولكن تبقى هناك اختلافات، وأحيانا نوعية، بين بضاعتنا وبين بضائع الآخرين. ستالين تسلم روسيا وهي تفلح الأرض بالمحراث الخشبي وسلمها دولة نووية. الاقتصاد تحسن في تشيلي مع بينوشيت. ولم تخل حقبة فرانكو من تنمية سياسية واقتصادية مهدت الأرض أمام ملكية دستورية مستقرة في اسبانيا.
لكن ماذا فعل القذافي؟ صدام؟ وماذا سنجني من بشار؟
ان جرائم الدكتاتور العربي لا تتوقف عند أيام حكمه فحسب. فأكبر هذه الجرائم تقع بعد نهاية ايامه، تقع في المستقبل. ان نهايته ليست تامة. انها بداية ازالة مخلفاته، وهي غالبا ما تكون تركة ثقيلة ممتدة في روح الشعب، فوق هدر الأنفس ودمار القانون والسياسة والاقتصاد والعلم والثقافة.
ان نهاية الدكتاتور العربي تكاد تكون بداية من الصفر. والبناء من الصفر عمل يشبه الثورة، اي ثورة، والثورة فعل غير مضمون النتائج. شعوب بأكملها تخرج من السجن، وقد فاتها الكثير في كل شيء، لتخوض في المجهول، في فك طلاسم المجهول، في التعلم، في التجريب، في محاولات اكتشاف الطريق. وطريق النجاة الوحيدة التي تقدمها الأزمنة الحديثة هي الحرية. وهي طريق تحتاج الى مقومات فوق الصفر بكثير.
اهم هذه المقومات هي حريات التعبير والتفكير، ومجتمع مدني ( السوق لحمته وسداه)، وأحزاب. وبغياب هذه المقومات فان فضاء الحرية الناشىء مليء بغيلان الأفكار والأشباح القديمة من قبلية وطائفية وسلفية واصولية. انه فضاء الصفر الذي تخلفه الدكتاتورية العربية. انه رعب الماضي ورعب المستقبل.
ولعل هذا هو المعنى العميق ل quot; الاستثناء العربيquot;. فليست الدكتاتورية المميتة هي وجهه الوحيد. وانما تأثيرها المميت للمستقبل ايضا. والفوضى موت. كذلك الأصولية. التعصب. والحرب الأهلية:هذه أخطار محدقة، هذه مخلوقات الدكتاتوريات الميتة.
يعطي الدكتاتور مرة واحدة. يعطي بموته ضحيته فرحة العمر. يعطيها الشعور الرائع بنهاية الذل، والبهجة بالمصير المستحق للظلم، ويعطيها الأمل. ولكنه قد يعود ليسرق من الضحية فرحتها في quot; اليوم التاليquot;. مبارك السجين المريض قد يتشفى من شعبه المريض اليوم بقلة الشعور بالأمان وبالخوف من المستقبل المجهول. تشفي صدام قد يكون أكبر بانزلاق العراق بعده من قصة موت سري الى قصة موت معلن. القذافي ينتظر، والله يستر، نأمل من كل قلبنا ان يستر على هذا الشعب الطيب. بشار يوغل في تعميق الهوة. والله وحده يعرف الى اين يمضي علي عبد الله صالح باليمن.
ولربما بدت تونس استثناء من quot; الاستثناء العربيquot;. فهي على وشك العبور من الخواء المظلم الى شاطىء النور. لعل ذلك يعود الى ارث بورقيبة، الدكتاتور العربي المتنور الوحيد.
بقية النماذج هي تجسيد الاستثناء العربي الخاوي. عطاؤها الوحيد ، حتى عطاؤها الوحيد والأخير، متشبع بالسموم، غاص بالوحول، وعاج بالمخاوف. ولكنه في كل الأحوال ينهي الجمود، يعيد شعوبه الى حركة التاريخ، يضعها امام موعد تلو آخر، وينقلها من محطة الى اخرى، بانتظار بلوغ البركة، بركة الحرية. وهي بركة قادمة لامحالة، لأن الاستثناء طارىء، والقاعدة سارية مهما شق الزمن وطال.
أخيرا استطاع العقيد ان يعطي ليبيا، وأن يعطي العروبة شيئا. كان عارا خالصا. كان عيبا علينا. وكان موته قصة كريمة، على غير العادة، في تاريخ القتل quot;غسلا للعارquot;. لقد أخزانا الرجل بما يكفي، بما يملؤنا بالخجل من أنفسنا، الخجل من طبقة ما في جيولوجيا انفسنا أنتجت ذلك المسخ. quot;مسخناquot; الذي سيأتيه يوم ليتعب ويغرق ويتذرر وينتهي اذا ما فضنا خجلا منه. ان اصل النبل، أصل الأخلاق، هو الشعور بالعار من الغرور. وقد بلغت قلة الحياء بالعقيد درجة التشبه بالإله. كان خزيا. كان موتا.