إحدى مفاجآت العام 2011 التي لاتتوقف نيل اليمنية توكل كرمان جائزة نوبل للسلام، وهي أول امرأة عربية وأول مسلمة محجبة تنال الجائزة، وهي بعد في الثانية والثلاثين من عمرها، أي واحدة من أصغر من حصلوا على نوبل منذ أنشئت عام 1901.
حرمان العرب من هذه الجائزة عقوداً طويلة جعل كثيرين منهم يشككون بنزاهة اللجنة. وحتى عندما حصل عليها الروائي المصري نجيب محفوظ عام 1986 في الآداب رأى بعضهم أنّ موقفه الحيادي والصامت وربما المستكين والممالئ لاتفاقية السلام التي وقعها الرئيس أنور السادات مع إسرائيل هو مادفع الغرب إلى مكافأته، وليس إبداعه الذي لاخلاف عليه. منحها للسادات نفسه قبل ذلك في مجال السلام ndash;وهو الموصوف بالخيانة عند معظم العرب-هو ماعزّز ذاك الشك، وأكد خضوعها لهيمنة القوى السياسية العظمى.
لكنّ ماشهده العقد الأخير من حراك سياسي وعقائدي استدعى تغيّراً ما في الذهنية الغربية. فضآلة ماحققته الحرب على العراق وأفغانستان سمحت ببلورة رؤية عند العقلاء تبحث عن تدبير للأزمات غير البتر الجراحي. ولعلّ انشغال السلطات الغربية كثيراً بمكافحة إرهاب القاعدة جعلها تهمل بيتها، فجاءت حاثة قتل 94 مدنياً في النرويج على يد متطرف مسيحي غربي لتشكل صدمة هذا العام، تبعتها أحداث شغب لندن واحتجاجات وول ستريت وماتلاها في بقية مدن أوروبة وأمريكا واستراليا منذرة بالتحول إلى مشاكل مؤرقة إذا لم تستطع الحكومات معالجة الأزمة الاقتصادية والنظام المالي سريعاً. هذه الأحداث الأخيرة المتزامنة مع الثورات العربية طرحت أسئلة وشكوكاً حول فاعلية وأخلاقية الأنظمة التربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الغرب، وعززت الشعور بأنّ الإسلام ليس وحده المسؤول عن مشاكل العالم.
مجيء الربيع العربي في هذا الوقت أعاد إلى الأذهان سحرية النضال السلمي، وبشّر بنهاية مرحلة صعبة عربياً ودولياً. ولهذا ربما رأت أميرة الشريف في النيويورك تايمز أنّ منح كرمان جائزة نوبل للسلام حملَ رسالة دعمٍ للثورات العربية ولدور المرأة، واعتبرت أنّ الجائزة ليست فقط من أجل ماأنجزته كرمان على هذين الصعيدين، وإنما تعبيراً عن الأمل بالنجاح في أن يقوم الإسلام المعتدل الذي تمثله بدور إيجابي في المجتمع العربي. هذا الرأي يشبه ماتحاول الولايات المتحدة الأمريكية القيام به منذ ثورتي تونس ومصر، إذ وجدت أنّ دعم الإسلام المعتدل يوفر جهداً في مكافحة الإرهاب. وإذا كان اختيار اللجنة لتوكل كرمان يتماشى مع نظرة القوى السياسية الغربية، فإنّ هذا لايقلّل من شأن كرمان، بل ربما يعني أنّ التغير الإيجابي في الموقف الغربي من قضايا الشرق العربي ارتقى إلى مستوى الفعل الثوري.
فكرمان التي درست الاقتصاد وحملت ماجستير في الدراسات القانونية ودبلوما في الصحافة من أمريكا وانتسبت إلى حزب إسلامي محافظ لم يقنّنها شيء، إذ اعتادت منذ عام 2006 الاعتصام مع مجموعة من النشطاء الحقوقيين كل ثلاثاء مطالبة بالإصلاح ومحاربة الفساد ودعم المرأة، وقد اعتقلت مرات عديدة بسبب ذلك. حدّدت كرمان ابنة السياسي ورئيسة منظمة صحفيات بلاحدود في اليمن منطلقاتها وأهدافها دون خوف أو محاباة لأحد، فكماهاجمت نظام علي عبدالله صالح، هاجمت القاعدة، وحاولت إعادة تشكيل حزبها ليكون أكثر انفتاحاً، مما أثار زملاءها المحافظين وبعض شيوخ اليمن فحرّضوا الناس ضدها في المساجد، وحاولوا اغتيالها بحسب الواشنطن بوست فماانثنت عن رسالتها.
في 23 من شهر كانون الثاني قادت كرمان مظاهرة تأييد لثورة تونس فاعتقلتها السلطات، ثم اضطرت لإطلاق سراحها في اليوم التالي حين خرج الآلاف للمطالبة بالإفراج عنها. رحيل ابن علي ومبارك منحاها شجاعة كافية لتطالب بتنحي علي عبدالله صالح ، ولتقود الاحتجاجات السلمية ثمانية أشهر دون أن ينالها اليأس والإحباط من مراوغته، كيف لا وهي الملقبة بالمرأة الحديدية وأمّ الثورة!
قال ناشطون يمنيون للغارديان إنّ الجائزة جاءت في فترة عصيبة تنذر بتحول الاحتجاجات إلى حرب أهلية، فمنحت الثوار راحة وانشراحا، وجددت الأمل والثقة بالمستقبل. ولعلّ هذا مااستشعرته كرمان نفسها فجعلها تهدي الجائزة للثوار العرب جميعاً وثوار اليمن خاصة. لكنّ ناشطين جنوبيين أكبر منها سناً وأكثر ليبرالية شعروا بالظلم، ورأوا أنّ تجربتهم النضالية الأطول أحق بالتقدير بحسب علي سالم في الحياة. التضارب حول أحقية كرمان للجائزة تحكمه نوازع الغيرة من جهة وأسلوب قيادتها الذي وصف بالتهور والاندفاع من جهة أخرى. مازال العربيّ يفترض مثالية جاهزة تسمُ شخصياته العامة، بينما بدا مرة أخرى أنّ دماء الشباب الفائرة والمتدفقة في ربيع التغيير السلمي هي ماجذبت نوبل إليها. إن كانت كرمان ليست الأهم بين من يصنعون ثورات بلادهم، فهي صورة عنهم، ويفترض أن يشعروا جميعاً بأنهم نالوا معها الجائزة.
قد تكون كرمان ليست سيدة كاملة في نظر الكثيرين، خاصة أنها تركت أطفالها الثلاثة لرعاية الجدة منذ ثمانية أشهر، وسكنت خيمة زرقاء وسط ساحة التغيير. وربما يستنكر بعضهم أن تخرج زعيمة شابة من قبائل العرب المحافظة تتقدم الرجال في الساحات والشوارع تهتف ملء صوتها مطالبة الرئيس بالرحيل. عصورٌ مرّت حتى رأينا وسمعنا كرمان تهتف خضراء الصوت... متوهجة الرؤى والحلم. تدق أبواب المستقبل بيديها السمراوين كحمامتي سلام، وتقود شعبها إلى شرفات الحرية والكرامة والعدالة!
.
- آخر تحديث :
التعليقات