يعتبرُ المؤرّخون الثورة الفرنسية (1789- 1799) أهمّ ثورة في العصر الحديث انتقلتْ بها فرنسا من دولة خاضعة لنفوذ الملك والكنيسة والإقطاع إلى دولة شعارها العدالة والمساواة والإخاء، ثم صدّرتْ هذه الأفكارَ إلى أوروبة فأرستْ فيها معالمَ المدنية الحديثة. قد يغري بريقُ دماء الملوك التي سالت فيها وبريقُ النصر والمجد اللذين توّجاها الثائرين المنتفضين في الشوارع العربية، ويغيبُ عنهم أنّ هذه الثورة أكلتْ أبناءها حين جرّتها الثوراتُ المضادة إلى حلقات العنف وتبادل أنخاب الدم، فكادت تتآكل في حرب أهلية استمرت أكثر من عشر سنوات.

عنفُ الثورات والحروب خلق ميلاً مضاداً إلى القيم الإنسانية والدينية التي تشيد بالسلم، فتبنّى بعضهم الآية القرآنية: quot;لئن بسطتَ إليّ يدك لتقتلني ماأنا بباسط يدي إليك لأقتلك،quot; وتمجّدتْ مقاومة غاندي السلمية للاستعمار، وتألّقتْ ثانية صورة المسيح وهو يحمل صليبه على كتفه ويمضي فداء للبشر أنموذجاً أمثلَ لخلاص الإنسانية من الألم والمعاناة. ثم هبّت رياحُ التغيير على الأمة العربية، فاعتلتها تونسُ ومصرُ ناشرتين أنفاسهما البيضاء في أعطاف البلاد، مبشرتين بربيع الأحرار. لكنّ الثورات المندلعة تباعاً خلال عام 2011 جمحتْ أحياناً لأسباب داخلية أو خارجية، ومالتِ الدفّة إلى جهات خطرة أو مجهولة. وحين تصلُ الثوراتُ إلى مفارق طرقٍ مجهولة تحتاجُ إلهاماً خاصاً وبصيرة ثاقبة يمنحانها الإيمانَ بالطريق والجرأة على بلوغه. دون الإلهام والبصيرة تموتُ الثورة في منتصف الطريق أو تصلُ أهدافها متأخرة كثيرا.

قد يبدو التمسك بالسلمية مثيراً للسخرية إذا ماأصرّ طرفٌ على العنف والعدوان ضارباً بعرض الحائط أخلاقَ الفروسية، فيُتهم المسالمُ بالعجز والغباء، وغالباً مايُقتل كصيدٍ سهل عارٍ من فضيلة الشجاعة. هذه النهايات المأساوية تجعل الدعوة إلى السلم خجولة جداً، فمن يجرؤ أن ينادي الثائرَ المنتفضَ الآن في الشوارع العربية:
quot;لاترفع حجراً أو عصا في وجه إخوتك العسكر ولو زخوك بوابلٍ من الرصاص؟!

لاتسمح لبندقيتك أن تخربش فوق اللوحات النيرونية التي ينجزها فنانو الأمن والجيش بفوضى وجنون خلاقين؟!
ولاتبتسم إن خايلتْ لك قامة الحرية عند الحد الفاصل بين الحياة والموت لئلّا يردّدُ الأعداءُ عنك: كان محشّشاً؟!
وإذا رأيت رأسَ أخيك أو ابنك يتفجّر وامرأتك وبناتك يغتصبن أمام عينيك وجدران بيتك تتهدّم ونعيق الغربان يملأ خرائب مدينتك فخبئ سلاحك ومتْ بصمت القديسين حالماً بعدالة في السماء؟!quot;

من يجرؤ أن يناشدَ هذا الثائرَ على الموت:
quot;اصنع ثورتك حسب المعايير القياسية التي قررتها الأمم المتحدة، واحلم أنك وشعبك سترقدون أخيراً بسلام في معلّبات الشهادة المعقمة، وأنكم ستشكلون زيادة حسنة في عدد الضحايا المسجل في بيانات منظمات حقوق الإنسان، عسى أن تنجحَ هذه في استصدار آهة حزن ومواساة من صالة سينما مجلس الأمن؟!
لاتفكر باستخدام السلاح، فالأمطار الحديدية التي تنصبّ فوق رأسك من سموات إله الاستبداد ستلتهمه سريعاً وتلتهمك؟!
لاخيارَ لك إلا المقاومة السلمية، فمعركة الحديد مع الحديد منتهية لصالح من يملك المدافع والمدرّعات والطائرات والجيش العتيد، أما معركة الإرادة فلها حسابات واستراتيجيات مختلفة.

لاينتصر من ترهّلت روحه فوق المعدن القاتل عقوداً ثقيلة، وقلّما يُغلَب من ملأ كيانه الإيمانُ بذاته وبقضيته.
كلّ مغيبٍ توارى جثامينُ الشهداء المثقوبة بالرصاص، فتنتشي الأرضُ بدمائهم، وتبعثُ كلّ صباح مئاتٍ من السنديان المقاوم.
أما الياسمين الذي تقتلعه الدباباتُ وتلقيه على الطرقات لتصفعه الشمسُ ورائحة الموت وضحكاتُ القتلة الشيطانية فتلتقطه عيونُ الحقيقة وترسله إلى شاشات التلفزة ليناديَ قلوبَ الملايين. يحرّضهم على الحلم والمقاومة، ويرسم لهم روائحَ مستقبلٍ جديد.

رخيصة كلماتُ المواساة والعزاء، ومثيرة للسخرية والأسى دعواتُ السلم، لكنها أفضلُ من أن نحتاجَ يوماً أصواتٍ تدعو لإيقاف حربٍ أهلية فلا نجدَ في عالمٍ تتنازعه الأطماعُ السياسية والمصالحُ المادية كريمين اثنين: الحارث بن عوف والهرم بن سنان.