لايختلف أحد على أن العملية السياسية في العراق بحاجة لمراجعة شاملة وعملية إصلاح جذري. فواحدة من الخطوات الجيدة في هذا المسار هي عملية الترشيق الحكومي التي يقوم بها السيد المالكي على وزرائه الذين تجاوزوا الأربعين. لكن، هل يكفي هذا في عملية الإصلاح السياسي؟ بالتأكيد لا! أن أهم مايميز الفشل السياسي في العراق هو غياب الاستراتيجية ذات الأهداف الواضحة للدولة العراقية وفي جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فهي تفتقد إلى الإطار الفكري والأيدلوجي الذي يؤسس لتلك الإستراتيجية. فترى الأحزاب الدينية تحكم بنظام علماني ديمقراطي غير متصالح فكريا ً مع المفهوم الديني للدولة. فإلى الآن لاتعرف أيدلوجية النظام السياسي في العراق، هل هي ليبرالية أم اشتراكية، وأي نوع من الديمقراطية يتبنى ذلك النظام، وماهو شكل العلاقات بين مختلف مؤسسات الدولة الحكومية منها والمستقلة. فإن دل هذا على شيء فإنه يدل على غياب التصور الكامل لدى أهم السياسيين العراقيين عن النمط الفكري والأيدلوجي الذي يجب أن يسود ويشترك الجميع بصياغته وقبوله والذي يشمل الحد الإدنى من التوافق الفكري بين الفراقاء السياسيين على حد قول جون رولز وجارلز تايلر. بل حتى امكانية تطبيق هذا النمط الفكري وملائمته في الواقع العراقي. فالسياسيون لديهم صورة مشوشة حول مايجب أن يكون عليه العراق، ويكفي مثلا ً على ذلك تصريح رئيس الوزراء بأن السياسيين العراقيين كانوا يعتقدون بأن العراق سيصبح بلداً ديمقراطيا ً بمجرد إجراء الإنتخابات، وذلك أثناء كتابة الدستور العراقي.

هناك مشكلتان رئيسيتان تعيقان العملية السياسية برمتها. المشكلة الأولى هي مشكلة موضوعية، وذلك حينما تحول العراق بشكل مفاجئ نحو الديمقراطية الليبرالية الأكثر إنفتاحا ً والمرتبطة بشكل مباشر مع نظام السوق الحرة والاقتصاد الغير منظم والنظام اللامركزي في إدارة الدولة. إذ لم يكن هناك من السياسيين العراقيين من يملك مشروعا ً ليبراليا ً يدعو إلى هذا النمط من الديمقراطية وله جماهيره وقاعدته الشعبية. فلم يصاحب ذلك التحول الديمقراطي أي عملية إصلاح في النظام الإداري والمصرفي والقانوني فضلا ً عن دعم التحولات الاجتماعية نحو الثقافة الديمقراطية. فالذي حدث هو تحول سياسي فقط نحو الديمقراطية لسياسيين غير ناضجين فكريا ً وتنقصهم الخبرة والكفاءة الكافيتين لإدارة تحول كبير كالذي حدث في العراق، إذ مايزال أكثرهم يحكم أدائه السياسي عقلية المعارضة للسلطة، ومنهم من تحركه فتوى دينية أو عصبية قبلية و طائفية. كل ذلك لاينسجم مع مبدأ الديمقراطية التي يحكمون بها، فهم علمانيون مع وقف التنفيذ. إذن، هناك فقط تحول سياسي نحو الديمقراطية، والذي لم يصاحبه أي تحول في بنية الدولة بجميع مرافقها ولاحتى بنية الثقافة السياسية التي تحكم عقول السياسيين، فصارت الدولة أشبه برجل كبير السن متهالك يعاني أكثر من مرض مزمن لكنه وفي نفس الوقت له وجه جميل وشعر أسود براق.

أما المشكلة الثانية فهي سياسية تحكمها أطراف داخلية وخارجية مختلفة. أما الداخلية فهو الإستقطاب الطائفي والقبلي والمناطقي الذي تعود جذوره لسنوات عديدية مضت، وانعكس ذلك بشكل جلي في بناء جميع مرافق الدولة الحالية بعد الإحتلال حيث إستفاد السياسيون العراقيون من هذا التشظي المجتمعي لترسيخ نفوذهم وضمان بقائهم في السلطة. أما الخارجية فعلينا أن لاننسى بأن العراق تحكومة معادلة دولية أطرافها دول الجوار إضافة للولايات المتحدة، حيث أصبح العراق ساحة لتصفية الحسابات بين الفرقاء وهذا طبيعي جدا ً في بلد ضعيف خارج للتو من سلسلة من الحروب والأزمات. إذن، بهذه المشكلتين الأساسيتين تعقدت العملية السياسية في العراق، إذ من الضروري إعادة النظر بكل تلك المتغيرات ليمكن حينها الحديث عن إصلاح سياسي. لايختلف أحد على أن العملية السياسية في العراق بحاجة لإصلاح وتطوير، ولكن من أين يمكن أن تبدأ عملية الإصلاح؟
يوجد في العراق شعب وحكومة وبرلمان ودستور وكل شيء، ولكن الذي يتوسط كل ذلك هو البرلمان العراقي. فالبرلمان هو الواسطة بين الحكومة والشعب، وهو الذي يطبق الدستور ويمكن أن يعدله، فإذا كان هناك شيء من الاصلاح فلابد أن يبدأ من البرلمان لأنه يرتبط إرتباطا ً مباشرا ً بحل المشكلتين المذكورتين آنفا ً. فمن خلال البرلمان الذي يجب أن يكون قويا ً تجد هناك حكومة قوية تضع حدا ً للتدخلات الخارجية، وتحت قبة البرلمان يمكن للأطراف الداخلية ذات الأصول المختلفة أن تتفاهم فيما بينها. ومن خلال البرلمان يمكن سن القوانين التي تؤدي إلى التحول الديمقراطي. فتفعليل عمل البرلمان سوف يقضي على الفساد ويجعل الحكومة أكثر فعالية في أدائها السياسي. أن واجبات البرلمان واضحة ومحددة وأن قامت بأدائها على أكمل وجه فسيستقيم حينها كل شيء. أن واجب البرلمان هو مراقبة الحكومة وجميع دوائرها من خلال التدقيق بجميع حساباتها أو إستجواب مسؤوليها، وإقرار الميزانية السنوية وتشريع القوانين المهمة.

أن المشكلة الحقيقية في العراق الآن هي في برلمانه الذي أسميه برلمان ناقص مئة، وذلك لأنه نادرا ً ما تقل غياباته عن مئة عضو في كل جلسة ومنهم رؤساء الكتل! أو برلمان ذو وجهين، إذا ما فهمنا بأن البرلمانيين لهم آراء في الإعلام ونتفاجئ بآراء مختلفة ومتناقضة عند التصويت. وإذا تحدثنا عن الفساد فإنه ينخر بجسد البرلمان من خلال الصفقات المشبوهة والوساطات التجارية التي يجريها بعض أعضائه بإعترف نواب في البرلمان إضافة إلى حسم نصف رواتب حماياتهم من المسجلين والغير مسجلين الذين لاوجود لهم في الواقع. بل أصبح البرلمان العراقي عبئا ً على ميزانية الدولة إذا ماحسبنا الرواتب الضخمة مع المخصصات التي رفض تخفيضها مؤخرا ً مع التقاعد الذي يتقاضاه برلمانيون سابقون لم يخدموا إلا أشهر قليلة. السؤال المهم هو: كم من الأمول ستصرف للبرلمانين بعد عشر أو عشرين سنة مع الكم الهائل من المتقاعدين، بالتأكيد ستكون الدولة مدينة للبرلمانيين بعد أن تعلن إفلاسها!

أقترح أن تكون هناك مؤسسة مستقلة تراقب البرلمان وأعضائه وترصد غياباتهم وتقيم أدائهم وتنشرها في وسائل الإعلام وذلك ليتسنى لناخبيهم معرفة أداء ممثليهم. وأقترح أن يكون عمل البرلماني بالعقد ولمدة أربع سنوات مع مكافئة ليعود بعدها لعمله كأستاذ أو موظف في دائرته أفضل من أن يكون متقاعدا ً بعمر الخامسة والأربعين مع تقاعد يعادل راتب عشرين موظفا ً. فلا إصلاح سياسي بدون إصلاح للبرلمان والذي يبدو أنه هو بحاجة للرقابة أيضاً.

عماد رسن
[email protected]