مهزلة بكل المقاييس تلك التي حدثت مع القمص القبطي بولس عويضة في فندق بالقاهرة. وقائع المقطع التصويري المنتشر بشدة على المواقع الإلكترونية تقول أن أحد رجال أمن الفندق طلبوا تفتيش القمص عويضة لدى دخوله الفندق لحضور حفل إفطار رمضاني، وأن رجل الدين تعاون مع الأمن بأن قام بنزع صليبه وعمامته ومتعلقاته التي كان يحملها في جيوبه قبل أن يمر من جهاز الكشف عن المعادن الموجود بمدخل الفندق. ولم تمر سوى ثوان قليلة على مرور القمص عويضة من البوابة حتى قام الرجل بخلع جلبابه وبقي بملابسه الداخلية مدة تقترب من عشر دقائق. ولأن المقطع يُظهِر صورة من دون صوت، فمن غير المعروف طبيعة الحوار الذي دار بين رجل الدين المسيحي ورجل الأمن.
القمص عويضة من جانبة أدان رجل أمن الفندق لتعامله معه بدون لياقة. وقال أن رجل الأمن قال له أنه يبدو كما لو كان إرهابيا يحمل حزاماً ناسفاً حول وسطه. وأكد القمص عويضة على أنه حاول إقناع رجل الأمن بأنه رجل دين مسالم وأنه أحد quot;أبطالquot; ميدان التحرير وعضو باتحاد شباب الثورة، ولكن رجل الأمن رفض السماح له بالدخول. وعندما لم يجد القمص مفراً من الموقف السيء الذي وجد نفسه به قال لرجل الأمن أنه لم يعد هناك سوى أن يتجرد من جلبابه حتى يتأكد له أن لا يحمل متفجرات، فكان رد رجل الأمن بالإيجاب ومن ثم قام القمص تلقائياً بخلع جلبابه.
لكن إدارة الفندق نفت من جانبها أن يكون رجل الأمن تعامل مع القمص عويضة بدون لياقة أو أن يكون طلب تفتيشه أو أن يقوم بالتجرد من جلبابه. وقالت الإدارة أن القمص فعل ذلك من تلقاء نفسه بعد مروره من جهاز كشف المعادن. ورفضت إدارة الفندق الاعتذار رسمياً عن ما حدث مع القمص عويضة واكتفت في ما يبدو بالأسف الشفهي الذي قدمه رجل الأمن للقمص عويضة بعد انتهاء الموقف. وقد اتهم صادق رضوان منظم حفل الإفطار إدارة الفندق بالتعامل مع الأمر من دون الجدية اللازمة التي يتطلبها الموقف المخجل الذي تعرض له أحد رجال الدين.
لست أريد الأن اتهام إدارة الفندق ورجل الأمن بالتطرف، ولكن ما يثير الاهتمام في المقطع التصويري الذي قدمه الفندق أن رجال الأمن لم يقوموا بتفتيش أحد من العشرات ممن دخلوا الفندق قبل أو بعد دخول القمص بولس عويضة. كان رجل الدين المسيحي هو الشخص الوحيد الذي تم تفتيشه وإلزامه بالتجرد من الصليب ثم العمامة قبل أن يقوم القس مجبراً أو طواعية، ربما بعد ما فاض به الكيل، بنزع جلبابه. وإذا كانت إدارة الفندق تتهم القمص عويضة بالتجرد من ملابسه طواعية، فإنه من المهم هنا الإشارة إلى أن القمص عويضة لم يتجرد من ملابسه من تلقاء نفسه ومن دون استفزاز شديد من قبل رجل الأمن. ومن المهم أيضاً التأكيد على أنه إذا كان القمص عويضة رفض تلبية مطلب رجل الأمن لتم اتهامه بعدم الالتزام بالقواعد العامة وبإخفائه أشياء في ملابسه لم يرد لرجل الأمن أن يراها. وربما كانت الاتهامات الباطلة التي يوجهها الإسلاميون للكنيسة بالتسلح تدور في ذهن القمص لدى تفتيشه ودافعاً قوياً وراء قيامه بالتجرد بسهولة من ملابسه حتى يؤكد أنه لا يوجد ما يخفيه.
لا شك في أن ماحدث للقمص بولس عويضة يعد سابقة خطيرة وإهانة كبيرة ليس فقط للرجل ولكن أيضاً للكنيسة القبطية ولجميع رجال الدين المسيحيين. إذا كان من الطبيعي أن يخضع رجال الدين المسيحي للتتفتيش، كغيرهم، فمن غير الطبيعي أن تتم معاملتهم بتعنت وأن تتم إهانتهم على مرأى من العامة وأن يتم نشر مقاطع تصويرية لهم متجردين من ملابسهم. لا ينبغي أبداً الصمت على ما حدث، ويجب على المجلس العسكري أن يقوم بالتحقيق بجدية في الأمر لكيلا يتحول تجريد رجال الدين المسيحي من ملابسهم إلى quot;موضةquot; أو عملية روتينية في المستقبل خاصة إذا جاء الإسلاميون المتطرفون الذين يطالبون بتفتيش الكنائس ورجال الدين المسيحي إلى السلطة في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
وإذا كنا نلوم بشدة إدارة الفندق ورجل الأمن على خطئهم الفادح في المهزلة التي وقعت، فإنه من المهم هنا أن نلوم أيضاً القمص بولس عويضة نفسه على تسرعه بخلع ملابسه في مدخل الفندق على مرأى من العشرات من الرجال والنساء من زوار الفندق. لم يستغرق الحوار بين القمص ورجل الامن سوى ثوان معدوة، وهو ما يبين أن القمص تسرع في رد فعله على استفزاز رجل الأمن. ربما كان من الأفضل للقمص أن يعود من حيث أتى بدلاً من إهانة نفسه والكنيسة التي يمثلها، وربما كان يتوجب عليه استدعاء مدير أمن الفندق أو أحد كبار الموظفين أو منظم حفل الإفطار حتى يتم تسوية الأمر، وربما كان عليه طلب أن يتم التفتيش في دورة مياة أو في غرفة مغلقة بعيداً عن أعين المارة.
تعرض القمص بولس عويضة للإهانة والإذلال رغم كونه أحد الشخصيات البارزة في مرحلة ما بعد ثورة يناير. وقد ظهر الرجل بوضوح في الشهور الأخيرة على المسرح السياسي ولعب دوراً كبيراً كوجه قبطي في تظاهرات ميدان التحرير وفي اجتماعات لجان الثورة واحتفالات الإخوان المسلمين بعودتهم إلرسمية إلى الساحة. غير أن كل هذا لم يشفع للرجل لدى رجل أمن الفندق. لم يكن موقف الفندق هو الموقف السيء الأول الذي يتعرض له القمص بولس عويضة في الأونة الأخيرة، لكن الرجل تعرض لموقف أخر في جمعة المليونية الإسلامية قبل أسبابيع قليلة حين رفض الإسلاميون صعوده إلى المنصة لإلقاء كلمة. ولعل ما تعرض له القمص عويضة من إهانة في ميدان التحرير وفي الفندق يطرح من جديد قضية اشتغال رجال الدين المسيحي بالسياسة.
يهلل الكثيرون من المسلمين لرؤية قس مسيحي يضع يده في يد شيخ مسلم خلال تظاهرة بميدان التحرير. ولكن وجود رجل الدين المسيحي في تظاهرة سياسية يعد أمراً مخالفاً لكل المباديء التي تسير عليها الكنيسة القبطية والتي تفصل بين ممارسة العمل الديني وممارسة العمل السياسي. فضلاً عن هذا فممارسة رجال الدين المسيحي للسياسة تتعارض تماماً مع مبدأ فصل الدين عن الدولة الذي تطالب به الكنيسة ويطالب به المسيحيون. وإذا أراد المسيحيون حقاً أن يحققوا معادلة الفصل بين الدين والدولة في مصر الجديدة فعليهم الالتزام بأسس هذه المعادلة التي تضع رجال الدين في دور عبادتهم وتترك السياسة للمدنيين. ولعل البابا شنوده يتدخل اليوم بحسم في قضية انضمام بعض القساوسة للتحالفات والأحزاب التي ظهرت بعد ثورة يناير.
التعليقات