يصعب القول بأن العالم قد صحا على أزمة الديون الأمريكية فجأة و أنه إكتشفها متآخرا فهذه الأزمة كانت معروفة للقاصي و الداني بكل تفاصيلها و كل الذي إستجد في الأمر هو بلوغ الدين الأمريكي الحد القانوني المسموح به و بروز تكهنات بعجز أمريكا عن سداد ديونها و كذلك التوقعات بخفض تصنيف الديون الأمريكية و هو ما حدث بالفعل من قبل ستاندرد اندبور لاحقا.، أي أن الأزمة دخلت منعطفا خطيرا أعاد تحذير العالم منها.
و بقدر ما تبدو الأزمة خطيرة في اعراضها و نتائجها فأن العلاج كذلك يعد متعذرا ( أو حتى مستحيلا ) في نظر البعض من الماليين في العالم فكل يوم يمر و الدولار فيه هو عملة الأساس يكرسه أكثر فأكثر و يجعل ثمن العلاج أو التغيير باهظا للغاية كما يجعل من اإيجاد لبديل مسألة أكثر صعوبة، فاليوم نجد القليل ممن يدافع عن بقاء الوضع الراهن في النظام النقدي العالمي و لكننا نجد أقل من القليل الذي يعرض افكارا واقعية لنظام جديد أكثر عدلا و كفاءة.
النظام الحالي صورة فاقعة من الظلم و اللاعدالة الذي تستفيد منه الولايات المتحدة و تكرس من خلاله زعامتها السياسية و الاقتصادية في العالم لكن الواقع الذي تكرس و يتكرس منذ عقود بعد الحرب العالمية الثانية سيجعل الجميع يترددون مائة مرة قبل أن يتخذوا قرارا بإرساء نظام جديد رغم أن المسألة لا تبدو مستحيلة تماما إذا تلاقت إرادة المراكز المالية الدولية الأساسية و بدأ العمل بجدية و من (خلال توافق دولي لا يبدو في الحالة الراهنة متيسرا ).
يعرف كل دارس لعلم الاقتصاد أو المالية بأن المسائل المرتبطة بالنظرية النقدية هي في غاية التعقيد و أن إرتباط و التحام النظريتين الاقتصادية و النقدية تجعل من أي قرار في مجال النقد قرارا إقتصاديا بأمتياز و من هنا تاتي صعوبات إرساء النظام النقدي العالمي البديل في الوقت الراهن خصوصا و ان العالم يعيش أزمة أقتصادية طاحنة لم يعرف لحد الآن سبل الخروج منها، و في الواقع لا يمكن أن ننكر حقيقة إن إختلال النظام النقدي ولا عدالته هو أحد أسباب الأزمة الإقتصادية الراهنة كما أن بقاء هذا النظام و نعني به سيادة الدولار سيؤذن بالمزيد من الأزمات لاحقا و لن يشهد العالم إستقرارا إقتصاديا حقيقيا قائما على العدل ( الذي ينال فيه كل مجتهد نصيبه )طالما بقى النظام النقدي الحالي بصورته الراهنة الذي يتيح للولايات المتحدة مزايا و فوائد لا حصر لها على حساب الدول الأخرى المشترية للدولار.
لا يمكن النظر إلى القرار الأمريكي برفع سقف الدين بما يزيد عن تريلوينين إضافيين إلا على أنه تأجيل للأزمة ليس إلا، كما أن وفاء الإدارات الأمريكية القادمة بهذا القرار مشكوك فيه إلى حد كبير و من جهة اخرى فأن الإلتزام الفعلي بما قررته الخطة الجديدة من تخفيض النفقات لابد أن يقود إلى إنكماش عميق داخل الولايات المتحدة
لابد أن تمتد شرارته إلى كل إرجاء العالم و هذا الخفض يناقض جذريا المنهج الاقتصادي الذي اتبعته إدارة أوباما من التوسع في الإنفاق للقضاء على الركود و هو المنهج الذي ظلت واشنطن طيلة الأعوام الثلاثة الماضية تباهي به العالم و تعتبره الدواء الشافي لتجاوز الأزمة.
إذن العلاج لا يقل في مرارته عن الداء ذاته و احتمالات الإنكماش تطل براسها من جديد لتزيد من تجذر الأزمة في عموم العالم و تمنحها بعدا إضافيا في وقت لم تظهر فيه علامات التعافي بشكل واضح لحد الآن.
إن إرساء أي نظام نقدي جديد في الأمد الزمني القريب لابد أن يتسبب بمزيد من الإرتباك لكل الاقتصادات العالمية بلا أستثناء و ربما كان هذا التوقيت هو الأسوأ لفعل ذلك مع هذه العواصف التي تضرب الإقتصاد في العديد من المراكز الاقتصادية الكبرى و بالتأكيد سنجد كل دولة تجري حساباتها الخاصة و تقدر كم ستربح و كم ستخسر في ظل النظام الجديد و لهذا لن يكون الطريق معبدا لذلك إذا ما تضاربت الحسابات و المصالح، البعض يتحدث عن (اليوان) الصيني بأعتبار الصين القوة الصاعدة و ثاني أكبر قوة على مستوى العالم بعد أن ازاحت اليابان عن هذا المركز لكن لا بكين ولا غيرها من عواصم العالم ترغب بذلك فالصين تضع المزيد من القيود على إصدار عملتها مما يجعل من المتعذر جعلها عملة مقاصة دولية و واشنطن لن تكون المعترضة الوحيدة على ذلك بل ستنضم لها أيضا اوروبا و اليابان اللذان لا يريدان أن يشاهدوا الصين و قد حلت في مقعد الزعامة العالمية بديلا عن الولايات المتحدة، العودة إلى قاعدة الذهب كانت على الدوام احدى الحلول المطروحة و الجذابة و هي تبدو أكثر الأفكار وجاهة و منطقية و عدالة و لكن نظرة واحدة إلى حجم الكتلة النقدية في العالم اليوم و ضخامتها يقودنا إلى أن العودة للذهب يعني أن سعره سيقفز إضعاف مضاعفة و لن تفي كميات الذهب المتوفرة لتغطية العملات التي سيتم إصدارها لسد حاجات التداول الأمن خلال تقويم سعر الذهب برقم عال، الولايات المتحدة ستخسر كثيرا إذا ما تم العدول عن الدولار كعملة إستناد و مقاصة دولية و خسائرها ستتجاوز كل الحدود و هو أمر لا تقبل به واشنطن بسهولة و هو سيتعدى حساباتها الإقتصادية إلى حساباتها الإستراتيجية و إلى مكانتها و زعامتها على المسرح الدولي و ربما ساندت أوروبا و اليابان (اللتان طالما اعتبرنا الزعامة الأمريكية ضمانة لهما ) موقف واشنطن بهذا الخصوص.
ما الحل إذن..؟؟، غالب الظن أن معضلة الدولار مرشحة للإستمرار على المدى القريب و ربما المتوسط و هذه الأزمة ستلد أزمات أخرى و ستفرخ العديد من الإختلالات و الهزات في الاقتصاد العالمي أما على المدى البعيد فأعتقد أن عمق المشكلة و تأثيراتها الضارة سترغم قادة الدول على التفكير في البديل و إيجاده رغم ما يكتنف المسألة من صعوبات و تحديات.
علي بابان
وزير التخطيط العراقي السابق
- آخر تحديث :
التعليقات