بعد حوالي خمسة أشهرٍ من اشتعال الغضب في الشوارع السورية، أثبت الشعب السوري جدارته في صناعة تاريخه بنفسه، رغم أنف الديكتاتور، وصمت العالم الذي ظلّ يقتله، طيلة جمع الغضب، شارعاً وراء شارع، وحصاراً إثر آخر.

فرغم عمليات القتل والقنص والخطف والإعتقال والتعذيب والتجييش والتشبيح التي مارسها النظام، طيلة شهورٍ دموية مضت، ولا يزال، ضد جموع المتظاهرين السلميين، رغم كلّ ذلك أراد الشعب السوري الحياة والحرية، فاستجاب له القدر؛ قدره الذي لا يزال محفوفاً بالكثير من المخاطر.

بعد التطور اللافت في الموقف الروسي الأخير من الأزمة السورية، وتنبؤ الروس بquot;مصيرٍ حزينٍquot; للأسد، يمكن القول بأنّ مستقبل الأسد السياسي، بات قاب قوسين أو أدنى من السقوط في الماضي. هذا مايبدو في أفق الأزمة السورية، التي دخلت مؤخراً في أكثر من نفقٍ مظلم.

فالبيان الرئاسي لمجلس الأمن الأخير(وما تبعته من مواقف إقليمية ودولية)، الصادر بموافقة كل الأعضاء(خلا لبنان)، والذي quot;أدان السلطات السورية واستخدامها للعنف بحق المدنيين، وعبّر عن قلقه وأسفه الشديدين لوفاة مئاتٍ من الأشخاصquot;، جاء خارج توقعات الكثيرين، داخل النظام السوري وخارجه، الذين ظلّوا يعوّلون كثيراً، على وقوف روسيا والصين، ودول أخرى أقل شأناً، صديقة لسوريا، مع الأسد في معركة نظامه المصيرية ضد الشعب السوري.

لكنّ رياح المصالح الروسية والصينية باتت تجري، على ما يبدو، بما لا تشتهي سفن النظام السوري ورئيسه الأسد. روسيا الصديقة لسوريا، منذ عقودٍ طويلة، لم تكتفِ بالتصويت لصالح quot;البيان الصفعةquot; هذا فحسب، وإنما تنبأت أيضاً قبل أيام، على لسان رئيسها ديمتري ميدفيديف بquot;مصير حزينquot; ينتظر الأسد في حال لم يطبق إصلاحات.

مواقف الروس من قيام الشوراع العربية وثوراتها، من تونس إلى سوريا، كانت على الدوام محسوبة، حذرة، متأنية، وغير متسرّعة، ترفض أيّ تدخل في ما تسمى بالشئون الداخلية لهذه البلاد، ليس لخاطر عيون أنظمة ولا شعوب هذه البلاد بالطبع، وإنما لأن مصالح بلادهم كانت ولا تزال تتطلب تأنياً أو حذراً كهذا، مما جرى ويجري في هذه البلاد، لا سيما وأنّ بعضها، مثل ليبيا وسوريا، تربطها مع روسيا علاقات استراتيجية متينة، لا يمكن التخلي عنها بسهولة.
دخول الروس على الأول من الخط مع العالم، لquot;إدانةquot; السلطات السورية واستخدامها للعنف ضد المدنيين، يعني أول الخروج على العلاقة مع النظام السوري، أو أول الإنكسار في علاقتهما.

عربياً، خروج دول مجلس التعاون الخليجي من صمتها بquot;بيان قلقquot;، عبرت فيه الأمانة العامة للمجلس عن قلقها وارتيابها الشديدين عما يحدث في سوريا من أعمال عنف ضد المتظاهرينquot;، إضافة إلى مواقف السعودية والكويت والبحرين الأخيرة التي قوبلت بترحيب دولي كبير، واستدعائها لسفرائها في دمشق، كلّ ذلك زاد من عزلة النظام السوري، الذي ظلّ طيلة شهورٍ مضت، من قمعه وضربه لشعبه بالدبابات، محصّناًَ عربياً.

النظام يدرك ثقل دول مجلس التعاون الخليجي، لا سيما السعودية، في الجامعة العربية، التي من المحتمل جداً أن تخرج هي الأخرى من صمتها القاتل، ببيانات لاحقة أشد لهجةً وحزماً، بعد مطالبتها على لسان أمينها العام نبيل العربي النظام السوري بquot;وقف أعمال العنف فوراًquot;.

رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، الذي طالما حذّر النظام السوري، من أنّ quot;حماة خطٌ أحمرquot;، وظلّ ساكتاً على انتهاكات النظام المستمرّة منذ أسابيع، على طول وعرض quot;حماة الخط الأحمرquot;، صعّد هو الآخر، لهجته، تجاه النظام السوري، قائلاً أن صبر أنقرة إزاء ما يجري في الداخل السوري، الذي اعتبره quot;داخلاً تركياًquot;، من قمعٍ وقتلٍ للمتظاهرين قد نفذ، مشيراً إلى أنه سيوفد وزير خارجيته دواود أوغلو اليوم الثلاثاء إلى دمشق، لنقل رسالة quot;حازمةquot; إلى سوريا.

النظام السوري، فهم رسالة مجلس الأمن الجديدة، المختومة بختم أصدقائه إلى جانب quot;أعدقائهquot;، وكل الرسائل الأخرى الجديدة التي لحقتها، في كونها ناقوس خطرٍ بات يدق بابه.

الأرجح هو أنّ النظام السوريّ، فهم كلّ هذه الرسائل، في كونها quot;تحذيراً أخيراًquot; له، للكفّ عن قمع الشعب واستخدام العنف ضده، والبدء بquot;إصلاحات جديّةquot; في البلاد.

ربما انطلاقاً من فهم النظام للموقف الروسي الجديد، ودول أخرى في مجلس الأمن مثل الصين، إضافة إلى مواقف دولية وإقليمية لاحقة، جاء إعلان وزير الخارجية السوري وليد المعلم، عن تعهد النظام في اجتماعٍ ضمّ عدداً من سفراء الدول الأجنبية المعتمدين في دمشق، بإجراء quot;انتخابات حرّة نزيهة قبل نهاية العام 2011quot; على حدّ قوله.

لكن السؤال الذي كان ولا يزال يطرح نفسه، على الدوام، منذ بدء الأزمة السورية،هو:
هل يستطيع النظام السوري القيام فعلاً بإصلاحات جديّة ترضي الشعب السوري والعالم من حوله؟

كلّ المؤشرات تقول أنّ النظام السوري، هو نظامٌ عاجز، عن القيام بأية إصلاحات جذرية، لأنه نظامٌ قائم في أساسه على التعطيل لا على التفعيل، وعلى التخريب لا على البناء.
أربعون عاماً من تعطيل سوريا؛ تعطيل المجتمع والسياسة والإقتصاد، في ظل هذا النظام الذي يتخذ من حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، تكفي لإثبات عجزه، ولا جديّته في الإصلاح والتغيير المطلوبَين.

من السهل جداً أن يطلق النظام، كما عوّدنا دائماً، المبادرات تلو المبادرات، والتعهدات تلو التعهدات، ولكن من الصعب جداً أيضاً تصديقه وأخذ كلامه الكثير، الفارغ من أي فعلٍ، على محمل الجد. لأنّ النظام ورجالاته وعلى رأسهم الرئيس بشار الأسد، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون.

مرور حوالي خمسة أشهر على الأزمة السورية، من دون إجراء أية إصلاحات، أو ظهور أي بصيص أمل في نفق الأزمة السورية، التي تتدحرج من سيء إلى أسوأ، ومن قتلٍ للبلاد والعباد إلى آخر، تكفي لإثبات كذب هذا النظام على نفسه، وعلى الشعب السوري، والعالم المتفرج من حوله.

فالنظام تعهّد بالإصلاح ولواحقه، منذ بداية الأزمة، ولم يرَ الشعب السوري حتى الآن إلا عكوسه، من التخريب والتدمير والقصف والقتل بالجملة والتشريد والإعتقال والتعذيب.

مقابل هذا الإصرار على اللاحل في الأزمة السورية من جهة النظام، يصرّ الشعب السوري، هو الآخر، بكلّ مكوناته، على المضي قدماً، في ثورته، حتى النصر ونيل الحرية. فهو، بعد سقوط أكثر من 2300 شهيد وجرح واعتقال واختفاء وتشريد آلاف آخرين، يعلم أنه وصل نقطة اللاعودة. فلا الشعب يرضى على نفسه، بعد كلّ هذا quot;الدم الكبيرquot;، بquot;نصف ثورةquot;، ولا النظام يقبل على نفسه بأن يحكم quot;نصف دولةquot;، بquot;نصف ديكتاتورquot;.

النظام، رسالته واضحة، كوضوح الشعب في رسالته.
إما الكلّ أو لا شيء: كلّ سوريا لكلّ الديكتاتور، أو لا شيء لأحد. تلك هي رسالة النظام، التي لا يتنازل عنها، أو الأصح لا يستطيع أن يتنازل عنها. لأن أيّ تنازل عن quot;بعض سورياquot;، سيعني سقوطه في سوريا كلّها.

رأس النظام السوري ورئيسه بشار الأسد، لن يقوم بإصلاحات جديّة، كما يريدها السوريون، من شأنها أن تدفع بسوريا إلى الحرية والديمقراطية والدولة المدنية.
هو، لن يستقيل، ولن يترك الملك كما طالبه البعض، لأن ترك الحكم سيكلفه المحاكمة، ولن يجلس مع العقلاء لحفظ سوريا وشعبها من السقوط في الهاوية، ولن يسمع العالم ورجالاته، ولن يستجيب لنداءات مؤسساته ومنظماته الأممية، ولن يقبل quot;الرسائل الحازمةquot;، لأن لديه رسائل جاهزة أكثر حزماً يسمعها لquot;أهل الحزمquot;، كما نسمع يومياً من جوقة المستشارين والصقور المحيطين به.

الأسد، مصرٌّ على ما يبدو، على الدخول في التاريخ على طريقة نظامه الخاصة، بدلاً من الخروج منه.
هو، ماضٍ في دخوله إلى الماضي، ليصبح خلفاً، ربما لأن لا أمام أمامه.
هو ماضٍ في سقوطه الدراماتيكي في الماضي، لأنه أدرى بأنّ صعوده المستقبل بات أقرب إلى المستحيل.
فهل يهرب الأسد إلى الماضي، لأنه الأعلم بأنّ مستقبله، صار أكثر من أيّ وقتٍ مضى، خلفه، على حدّ قول وزير خارجية ألمانيا غيدو فيسترفيلله؟


[email protected]