هناك سؤال ملح كان يطرح في الأوساط الثقافية والشعبية في العالم العربي وهو، إلى متى ستبقى هذه الإنظمة جاثمة على صدور شعوبها، ومتى سيتغير الحال ويتخلى رؤساء الدول عن كراسيهم ومتى ينتهي عصر الدكتاتوريات في عالمنا العربي. لكن أحد لم يسأل، ماذا بعد سقوط الدكتاتوريات وماهو شكل الأنظمة السياسية التي ستأخذ بزمام الأمور من بعد التغيير. أن الذي يبدو أن التحولات التي حدثت والتي ستحدث في العالم العربي لاتمت بأي صلة لأي مشروع للتغير واضح المعالم في أهدافه وأدواته، بل أن الذي حدث هو عبارة عن تحرك جماهيري عفوي له أسبابه الموضوعية من تغيرات إجتماعية أدت بالضرورة لتغييرات سياسية أطاحت بأنظمة عتيدة في رسوخها، حتى إن ذلك التغيير فاجأ الكثيرين ومنهم النخبة من المفكرين والمثقفين. فلايوجد هناك مشروع لديمقراطية، كطريقة للحكم، ولا مشروع لدولة مدنية. وأقصد بالمشروع هو الخطاب الذي يدعوا إلى الدولة المدنية والديمقراطية من قبل مفكرين ونخبة من المثقفين حيث تتخذ خطوات واضحة من أجل تحقيق هذا المشروع من خلال التواصل الجماهيري في حركة إجتماعية لها قادتها وإعلامها ومراكزها. إن المشروع ليس عبارة عن شعارات يطرحها شباب ينادون بالحرية والديمقراطية والدولة المدنية ويهتفون بها في ميادين التغيير. إن الذي كان واضحا ً هو أن لاوجود هناك لتنظيم مسبق حتى بين القوى التي غيرت في بعض البلدان العربية بل جاء التنظيم أثناء التغيير أو بعده في تكتلات سياسية، والأكثر من ذلك أن الذي يبدوا أن التيارات الدينية كالأخوان المسلمين والجماعات السلفية كانت أكثر تنظيما ً ووضوحا ً في أهدافها وفيما تريد وترغب.

أن التحولات في أي مجتمع ما تحدث بطريقتين. الطريقة الأولى هو توفر الأسباب الموضوعية للتغير كالتي تحدث في العالم العربي، وهي متعددة ومتنوعة. ففي عالمنا العربي هناك تحولات كبيرة حدثت، كنمو الطبقى الوسطى بالخصوص من المتعلمين، إنتقال سكان الريف إلى المدينة بشكل كبير، الزيادة في إستخدام شبكات التواصل الإجتماعي بين أفراد الشباب الذي خلق فرصة لهم بتبادل الأفكار والآراء والتجارب، الإحباط الذي أصاب فئة الشباب، وهم النسبة الأكبر، من البطالة والأوضاع الاقتصادية السيئة بعد الإرتفاع الكبير بأسعار المواد الغذائية في كل دول العالم، غياب الحريات الفردية وسوء تعامل الحكومات والانظمة مع شعوبها، أزدياد نسبة الفقراء بعد إتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء نتيجة للتحولات الإقتصادية نحو إقتصاد السوق. الأكثر من ذلك هو فشل مشروع الدولة الإسلامية الذي رفعت شعار، الإسلام هو الحل، وفشل مشروع النهضة العربية وإتجاه الدول العربية نحو الداخل القطري أو الاقليمي كمجلس التعاون الخليجي كبديل للجامعة العربية، وأكبر دليل على ذلك هو فشل تلك الدول بتبني القضية الفلسطينية وإيجاد الحلول المناسبة لها. بالـتأكيد لايمكن إغفال العامل الدولي في عملية التغيير والذي قد يسمح أو لايسمح بعملية التحول حسب مصالحه.

أما الطريقة الثانية وهي التحول من خلال مشروع واضح المعالم له أهدافه وأدواته وله قاعدة جاهيرية تتبنى مشروع التغيير. إن مشروع التغيير هذا يمكن أن ينقل الدولة والمجتمعات من العصر التقليدي إلى عصر الحداثة من خلال الدعوة للتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أن التغييرات السياسية تتم من خلال تبني الديمقراطية والتحول نحو الدولة المدنية. أما الإقتصادية فهي التحول نحو الإقتصاد الحر مع قليل من التخطيط الذي يمكن أن يدعم الطبقات المسحوقة والضعيفة في المجتمع. أما الاجتماعية فهي دعم الهوية الفردية والهويات المستضعفة بالمجتمع كالنساء والشباب والاقليات الاثتية والدينية والثقافية وإشاعة مبدأ المساواة بين أفراد المجتمع مع التمييز الإيجابي لتلك الأقليات، وعدم تقييد الحريات الفردية، وإطلاق قوانين تؤسس لمنظمات المجتمع المدني وإعلام حر من خلال دعم حرية التعبير. أن الطريقة الثانية يمكن أن تتمم أو تستثمر الطريقة الأولى أو تكون بداية لها.

إذن، هذا ماهو مطلوب للإنتقال إلى عصر الحداثة، لكن الذي يبدو هو أن لامشروع متكامل يلوح بالإفق، في كل الدول العربية، فكل المطالب والشعارات عفوية وارتجالية. أن صياغة أي مشروع من هذا القبيل لابد أن يأخذ بنظر الإعتبار كيفية التغيير في البنى الإجتماعية والإقتصادية والإدارية والسياسية من أجل الدخول لعصر الحداثة. أن الذي يعيق نشوء ديمقراطية حقيقية هي عوامل متعددة يجب معالجتها وهي: النظام الإجتماعي التقليدي المتمثل بالبنية الأبوية الذكورية للمجتمع العربي والتي تتمايز من دولة لأخرى ومن مجتمع لآخر، فهي عائق أمام مبدأ الحرية الفردية والمساواة بعيدا ً عن السلم التراتيبي المجتمعي، وبالخصوص موقف المجتمع تجاه المرأة التي أثبتت جدارتها في ميادين التغيير. النظام الإقتصادي الريعي الذي يعتمد على واردات الثروات الطبيعية، أو المعتمد على المعونات الخارجية. النظام الاداري الذي ينخر فيه الفساد وتكبله البيروقراطية. النظام السياسي الذي يعتمد على القوى المتنفذه المرتبطة بمصالح اقتصادية أو علاقات قبلية أو انتماءات طائفية.
أن غياب مشروع الدولة المدنية في الاطار الديمقراطي سيفسح المجال للقوى الراديكالية الأكثر تنظيما ً من أخذ زمام المبادرة مما يؤدي إلى عودة الدكتاتورية والتسلط بشكل آخر. أن أكثر القوى تنظيما ً هم السلفيون الذين لايؤمنون بالديمقراطية ويستخدمونها فقط كأداة للوصول للسلطة، بالإضافة إلى قوى الإسلام المعتدل الذي لم تتصالح أفكاره مع جوهر الديمقراطية الحقيقي والذي يجعل ممارستها بالشكل فقط بعيدا ً عن باقي عناصرها المهمة للفرد والمجتمع. إن الذي حدث من ثورات وإنتفاضات هو ثورة لإستعاد الكرامة التي إنتهكتها الدكتاتوريات المتسلطة، لكن المطلوب هو أكثر من ذلك، وهو مشروع ينهض بالواقع المأساوي الذي تعيشه الشعوب ليدخلها في عصر الحداثة من أوسع أبوابه.

[email protected]