عندما تحضر الذاكرة، يكون انشغال بالحاضر والمستقبل، وأنا مثلي مثل أي مواطن سوري، لم يعرف نظاما في سوريا، غير نظام آل الأسد، اصبحت ذاكرتي من هذه الزاوية، ذاكرة أسدية بامتياز، وحضور الذاكرة ليس من باب الراهن كما هو هذا التقريرquot; لن يستغرب أحد فيما لو دخلت سوريا موسوعة quot;غينيسquot; للأرقام القياسية هذا العام بعدد من سقطوا قتلى أو اختفوا من مواطنيها في 135 يوماً، فالمعلومات تؤكد أنهم 2918 مفقوداً منذ بدء الاحتجاجات المناهضة للنظام في 15 مارس/آذار الماضي، أي منذ 3240 ساعة، وخلالها سقط أيضاً 1634 قتيلاً، أي تقريباً واحد كل ساعتين، وهو رقم قياسي لبلد ليس في حالة حرب أهلية ولا عسكرية معلنة مع أحد.هذا الحساب الدموي هو من عمليات ضرب وجمع بسيطة يمكن القيام بها بعد الاطلاع على تقرير بثته اليوم الخميس منظمة العمل السياسي الدولية المعروفة باسم Avaaz اختصاراً، وفيه عدد القتلى والمفقودين في 4 أشهر وأسبوعين، وخلالها أيضاً بلغ عدد المعتقلين 12 ألفاً و617 مطالباً بإسقاط النظام، أي واحد كل ربع ساعة، وهو رقم قياسي آخر يستحق quot;غينيسquot; بامتياز. واعتمدت المنظمة، وهي غير حكومية وستنشر قريباً أسماء وصور جميع القتلى والمفقودين والمعتقلين في موقع quot;أفاز دوت أورغquot; الخاص بها على الانترنتquot; ndash; نقلا عن العربية.نت - هذا تكثيف للحظة الراهنة من منجزات آل الأسد.
الذاكرة تبدأ من خسارة الجولان 1967 مرورا باتفاقيات الفصل 1974 التي أسست لعلاقة إقليمية تقودها حالة اللاحرب واللاسلم مع إسرائيل، ومنذ ذاك التاريخ وإسرائيل تحمي النظام لكي تحمي ما أسسته هذه الاتفاقيات، وفتحت في سورية سجونا لم تفتح مثيلها وعددها في أية دولة بالعالم، وبدأ الشعب السوري ونخبه يدفع ثمن فتح هذا العدد الضخم من السجون، التي بدأت برفاق دربه من قادة حركة 23 شباط، ومنذ ذلك التاريخ 1970 لم تتوقف السجون، ولم تتوقف قوى اللاقانون في إثبات أنها الطرف الوحيد الحر التصرف في سورية، وكل هذا الزخم الاحتفالي الكرنفالي، من تصدر المشهد الأكثر عنفا تجاه الشعب في تاريخ سورية وتاريخ المنطقة، ولحق بالشعب السوري الشعب اللبناني بعد سماح إسرائيل وأمريكا وفرنسا لجيش حافظ الأسد بدخول لبنان، وبدأت طلائع الشعب اللبناني تتدفق أيضا إلى السجون الأسدية، هذا غير القتلى بحجة ضبط الأمن، والمشاركة في التصفيات الجسدية، ترافق ذلك مع إقامة نسق ولائي للنظام منضدد استخباراتيا بطريقة تعتمد ثلاث مسارات متداخلة: الأول طائفي والثاني بعثي واقتصادي، فخلقت عبر عقد من الزمن بلدا غير معرف إلا بصورة الأسد، وهذه الصورة ابحث فيها عن نقطة مضيئة أعطت لسورية كوطن فلم أجد، ليس تجنيا أبدا، لكن أتمنى من أي سوري أن يقول لي عن نقطة واحدة مضيئة في ذاكرته عن هذه الحقبة التي امتدت لأكثر من أربعة عقود ونصف، خرب الساحة الفلسطينية وأدمى الساحة اللبنانية كما السورية، كل هذا ولم نتحدث عن منظومة الفساد التي أنشأها بقرار رئاسي غير مكتوب، الجميع يعرف ذلك، كان له في كل هذا شريكا غير معلن هو غالبية تجار دمشق. واستطاع أن يثقف الجيش العقائديquot; بأن له عدو واحد هو الشعب السوري. وهذا التثقيف وفق المنطق الولائي للنظام،ولهذا في أحداث حماة 1979-1982 كان الأمن والجيش يدخل المدن السورية، كأنه يدخل مدنا معادية، وكانت الحصيلة 15000 ألف مفقود منذ ذاك التاريخ وحتى اللحظة، إضافة إلى عشرات الألوف من المعتقلين، والتنكيل بالمدن وتقطيع أوصالها، وهاهو الخلف الآن يعيد نفس السيناريو، لقد عايشت سجون الأسد ومن يعايش سجون الأسد يعرف هذا النظام على حقيقته أكثر من غيره، فيما لو أراد أن يعرف! والذاكرة لا تريد الحديث في مواضيع جافة وهو حجم الثروة التي سرقها شخوص هذا النظام من أفواه الشعب السوري.
الذاكرة تقول أن الشعب السوري تعرض عبر هذا النظام لانتهاك لم يعهده شعب من قبل، وخاصة في هذا العصر. فأية ذاكرة سورية هذه؟
لا أريد الاستمرار في السرد بعد أن وصلنا إلى راهن وضحه التقرير أعلاه، فأي مستقبل يمكن الحديث فيه بعد ثورة شبابنا، ويشارك فيه هذا الفاعل التاريخي في هذه الذاكرة؟
مستقبل سورية كدولة حضارية ديمقراطية تستند إلى الشرائع العالمية لحقوق الإنسان، ودولة قانون تحمي جميع أبناءها على قدم المساواة، قادرة الثورة على انجازها، رغم كل هذا الدم، رغم كل ما حدث ليس بين مكونات الشعب السوري مشكلة لا تحل مهما كانت ومن أي نوع كان، ولكن ليس وفق أية أبجدية يقدمها هؤلاء القتلة ومن أي نوع كان. وليعذرنا المناضل نيلسون مانديلا!! فنحن نفصل بين مجموعة شكلت نظاما وبين الطائفة العلوية، فلا مشكلة بين مكونات الشعب السوري في حال رحيل هذه المجموعة، ونسي السيد ما نديلا في رسالته للثورات العربية، أن نظام الابارتيد الذي تصالح معه، ساهم نفسه في احويل جنوب أفريقيا، لكي تكون المصالحة حقيقية، أما هذا النظام فماذا ترك من أجل أن يتصالح الشعب السوري معه؟
إننا أمام حالة غريبة أيضا، مشهد ليعذرني بعض أصدقائي ورفاقي في المعارضة، كيف يمكن لنا أن نتحدث عن نظام لا طائفي، وبنفس الوقت نخاف من حرب أهلية؟ لهذا كل من يواجه هذه الثورة بسؤال البديل، أو الحديث عن مستقبل سورية، يريد غالبيتهم من كل هذا هو استمرار حكم آل الأسد.
وكان الشعب السوري غير شعوب العالم، يحتاج لرعاية دائمة من آل الأسد، أو يحتاج لأن يكون آل الأسد عنصرا دائم في تاريخه، فإذا كانت الذاكرة الأسدية على هذه الشاكلة، فكيف سيكون مستقبل سورية الأسدية؟
الشعب الذي خرج إلى الشارع شعب يعرف كيف ينتج دولته الديمقراطية، وشعب ليس فيه من يريد حربا أهلية...فلاخوف على مستقبل سورية، الخوف أن يشارك في صياغة هذا المستقبل، من ساهم فعليا وثقافة وقولا في جعل سورية أكثر دول المنطقة فقرا ونهبا وتراجعا على كافة المستويات.
الشعب السوري قادر مستقبله بدون آل الأسد، وقادر على تحويل تلك الذاكرة السوداوية إلى مستقبل أكثر تفاؤلا، وإلى إعادة الروح الإنسانية للذاكرة السورية.
فلنكف عن الحديث عن مستقبل سورية مع آل الأسد، وأقصى ما يمكن فعله في هذا الاتجاه هو أن يتحولوا إلى مواطنين عاديين...هل هذا الطلب كثير؟!
غسان المفلح
- آخر تحديث :
التعليقات