بالرغم من كل مساوىء الحكم الملكي ، فقد كان العراق فى ذلك الوقت سيد المنطقة بفضل السياسة الحكيمة التى كان يتبعها نورى السعيد الذى كان منحازا كليا الى الغرب . رفض الانحياز الى دول المحور (ألمانيا وحلفائها) فى الحرب العالمية الثانية لوثوقه من انتصار الغرب فى تلك الحرب فيكون العراق مع الجانب المنتصر. قرر رئيس الوزراء العراقي رشيد عالى الكيلاني فى عام 1941 الانحياز الى الألمان فكانت ثورة مايس وما تبعها من هروب العائلة المالكة الى خارج العراق ، ثم عودتها مع القوات البريطانية ، وتم اعتقال ضباط الثورة وأعدموا وقتل مئات العراقيين وعمت الفوضى بغداد ، وخرج بعض الناس لسلب متاجر اليهود (عملاء الانكليز) ولكن سرعان ما استولوا على محتويات متاجر المسلمين وغيرهم فى شارع الرشيد بما عرف ب(الفرهود). وزادت نقمة العراقيين على الانكليز والعائلة المالكة ونورى السعيد ، واستمرت كراهية الناس لهم واغتنموا كل فرصة للخروج بمظاهرة ضد الحكومة.

فى سنة 1947 كنت طالبا فى المتوسطة حينما اشتدت المظاهرات بسبب اقتراب اعلان قيام الدولة العبرية، طلب طلاب المدرسة من الادارة السماح لهم بالاشتراك فى تلك المظاهرات، وبعد جدل طويل بين المعلمين والادارة سمحوا لنا بالخروج ، فكانت تلك أول مظاهرة أشارك فيها وأنا فى سن الصبا . وبحكم أعمارنا لم نكن نفقه شيئا فى السياسة حيث كان أكبرنا لا يزيد عمره على 17 سنة . سرنا الى مجلس النواب العراقي ونحن نهتف بشدة وحماس ما لقننا به أحد معلمينا من هتافات مثل: يسقط تشرتشل ، يسقط روزفلت ، يسقط ستالين ، فلسطين عربية فلتسقط الصهيونية، حتى بحت أصواتنا وتعبنا فتسللنا الى بيوتنا.
ثم توالت بعد ذلك المظاهرات فى بغداد وتعددت أسباب قيامها وكثرت ضحاياها. ففى 20 كانون الثاني/يناير 1948 وعلى أثر إعلان نص المعاهدة التي وقعها رئيس الوزراء صالح جبر مع ارنست بيفن وزير الخارجية البريطاني انطلقت مظاهرات قام بها طلاب المدارس والكليات يتقدمهم طلاب كلية الشريعة هاتفين بسقوط حكومة صالح جبر والمعاهدة . تدهور الوضع الأمني في بغداد والمدن الأخرى بسرعة أرعبت الحكومة وشعر الوصي عبد الإله بخطورة الموقف وعدم استطاعة الحكومة مجابهة الشعب. وبعد مداولات طويلة أصدر بياناً إلى الشعب يعلن فيه تراجع الحكومة عن المعاهدة . ومما جاء في بيانه قوله : إذا كان الشعب لا يريد هذه المعاهدة فنحن لا نريدها أيضا !. وهكذا نجحت انتفاضة كانون ، ولكن تأثير البريطانيين على العراق لم يتغير ، فقد عادت الوجوه المألوفة لحكام العراق المخضرمين من أمثال نورى السعيد الى الحكم ، والقواعد البريطانية بقيت فى أماكنها ، واختفى صالح جبر من على المسرح السياسي بعد ان ابتلع الطعم الذى أراده له نورى السعيد وانتهى الدورالمخطط له.

وخلفه (السيد محمد الصدر) والذى أطلق عليه المتظاهرون الذين خرجوا من محلة باب الشيخ يقرعون الطبول (الدمامات) يدعون لإسقاطه لقب (أبو لحية النايلون) وكان دوره أقصر من دور سلفه.

كان عاما 1947 و 1948 من أسوأ ما مر بالعراق من كساد واضطرابات وفوضى، ثم جاء الاعلان عن قيام دولة اسرائيل ، ودخول جيوش ست دول عربية لتحل محل بريطانيا وتؤسس دولة فلسطين (كما كانوا يحلمون)، بينما كان الجميع فى الحقيقة ينفذون مخططا صهيونيا أمريكيا بريطانيا اشترك فيه معظم ملوك وقادة العرب آنذاك سواء المخيرون منهم أو المسيرون . وانسحبت الجيوش العربية تجر أذيال الخيبة لأسباب عديدة منها الأسلحة الفاسدة التى قاتل بها الجيش المصري ، ووضع الجيش الأردني بقيادة الجنرال كلوب باشا البريطاني . وخلال تلك الفترة العصيبة كانت المظاهرات تترى وتزداد نقمة العراقيين على الغرب وخاصة بريطانيا فقد ألقوا اللوم عليها واعتبروها مسئولة عن كل المساوىء والمآسي التى أصابت العراقيين منذ دخول الجيش البريطاني الى العراق فى عام 1917 وطرد العثمانيين منه ، ونسوا الحالة المزرية التى كان عليها العراق طيلة تسلط العثمانيين عليه لأكثر من أربعة قرون من جهل وأمراض فتاكة وتخلف فى كل مناحى الحياة.

وفى سنة 1952 حصل الانقلاب العسكري المصري وطرد فاروق ملك مصر مع عائلته الى خارج البلد، واستولى العسكر على جميع السلطات . وبعدها تمكن البكباشي جمال عبد الناصر من حصر الحكم لشخصه فقط يعاونه بعض الضباط من المقربين اليه. ولحاجة ناصر الى المال وعدم وجود موارد مالية طبيعية ضخمة فى مصر قرر أن يضم اليه ما يمكن من البلدان العربية . فحاول مع ليبيا وفشل ، ثم حاول مع السودان وفشل وجرب مع اليمن وفشل أيضا ، وكلفت تلك المحاولات الشعب المصري مبالغ باهضة خاصة فى حرب اليمن وزادته شقاء على شقاء. كان ناصر يجيد إلقاء الخطب النارية ولديه كتاب فحول مثل حسنين هيكل يزودونه بالخطب الحماسية التى تدعو إلى إقامة وحدة عربية (من الخليج الثائر الى المحيط الهادر!) ، وصدقه الكثيرون من العرب . فالمناداة بالوحدة بدأت فى السنين الاولى من القرن الماضي على عهد السلطان العثماني عبد الحميد ، وكانت الغاية منها التخلص من الحكم العثماني.

فى نهاية الأربعينات وعندما كنا أطفالا فى الابتدائية كنا نهتف لملكنا فيصل الثاني على أنه ملك العرب وكنا نقرأ نشيدا يقول: (واهتفوا فى الكون يحيا فيصل** عاهل العرب وعنوان الأمل)، كما كان المصريون يهتفون لملككهم فاروق على أنه ملك العرب ، وكذلك فى السعودية كان يهتفون لملكهم عبد العزيز آل سعود على أنه ملك العرب . ولا ريب أنه كان هناك عدد غيرهم من الملوك يحملون نفس اللقب أيضا. والملك فاروق لم يكتفى بهذا اللقب فأطلق لحيته وطلب مبايعته خليفة للمسلمين ، ولكن افتضح أمره عندما كان يصلى صلاة العيد فى أحد الجوامع وهو تحت تأثير الخمرة التى تناولها فى الليلة السابقة ، فحلق لحيته وتراجع عن طلب الخلافة . ومن هذا يتبين أن قادة العرب جميعا كل واحد منهم كان وما زال يطلب الزعامة لنفسه . وهذا ما فعله ناصر ، فقام وبتشجيع من (القوميين) فى العراق بالتهجم على حكام العراق وخاصة نورى السعيد الذى وقف كالطود الشامخ أمامه وأمام شاه ايران وحكام تركيا وغيرهم ممن كانت لهم مطامع فى العراق وذلك بالتقرب الى الغرب وخاصة بريطانيا .
فى سنة 1955 وقع العراق معاهدة صداقة وتعاون مع تركيا وانضمت اليها بعد فترة وجيزة بريطانيا وايران وباكستان ، وغير اسم المعاهدة العراقية التركية الى : ميثاق بغداد أو حلف بغداد كما سماه ناصر الذى جن جنونه فقام هو ومذيعه أحمد سعيد بالتهجم الشنيع على حكام العراق وتحريض العراقيين على حكامهم . و فى عام 1956 وبعد تأميم قناة السويس حصل ما سمي بالاعتداء الثلاثي على مصر من قبل اسرائيل وبريطانيا وفرنسا وخسرت مصر تلك الحرب الغير متكافئة ، وأوقف القتال بعد ضغط أمريكا على بريطانيا وفرنسا بسبب التهديد السوفييتى باستعمال الأسلحة النووية ضد الغرب . وزادت تلك الحرب من حماس العرب ففى 22 شباط/فبراير 1958 طالب الشعب السوري الانضمام الى مصر، وهو ما كان يحلم به ناصر الذى سرعان ما أرسل نائبه عبد الحكيم عامر الذى أصبح حاكما لسوريا . وبدأ السوريون يشعرون بأن سوريا أصبحت مستعمرة مصرية وشعبها هبط الى الدرجة الثانية ، فثاروا وأنهوا تلك الوحدة التى كان يطلق عليها: وحدة ما يغلبها غلاب.

أصبح العراقيون مهيئون للثورة التى اندلعت صبيحة 14 تموز/يوليو 1958 ، وكان ناصر فى زيارة لموسكو فقطع زيارته وعاد الى القاهرة وظن أن العراق أصبح جاهزا للابتلاع ، ولكنه فوجىء بأن قائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم وضباطه لم يكونوا مستعدين لتسليم البلد لناصر قبل أن تقوم انتخابات جديدة ويقرر الشعب العراقي آنذاك الوحدة مع مصر أو عدمها . والمؤسف أن الكثيرين من العراقيين وقفوا الى جانب ناصر ضد حكومتهم ، وما زال بعضهم حتى اليوم يمجدونه ولم يدركوا بعد بأنه كان العامل الأكبر والمسئول الأول فى مصائب العراق والتى لا زلنا نعانى منها حتى اليوم . وحولت جوقة ناصر شتائمها من نورى السعيد الى الزعيم ، وما زلت أتذكر سباب ناصر للزعيم فى إحدى خطبه الهيستيرية حين قال: آسم الآسم أي: قاسم الآثم ، ونصب مرسلات إذاعية فى مدينة حلب السورية لبث الشتائم وتحريض العراقيين للنهوض ضد الزعيم . ولكنه لم يستطع كسب الغالبية العظمى من الشعب العراقي الذى كان يحبه وخاصة العمال والفقراء منهم الذين بنى لهم البيوت وهيأ لهم الأعمال ، وعامل جميع العراقيين بالتساوى ولم يفرق بين قومية وأخرى ولا بين دين وآخر ولا طائفة وأخرى . وككل قائد مثله فقد كان له أعداء فى الداخل من الضباط الحاسدين من أمثال العقيد الشواف الذى أعلن العصيان فى الموصل بعد أن مده ناصر بالسلاح ،وفشلت تلك الحركة التى سقط ضحيتها المئات من العراقيين وقتل الشواف عند هروبه الى حلب . واستمرت محاولات ناصر بدون انقطاع ، فكانت محاولة اغتيال الزعيم الفاشلة فى شارع الرشيد من قبل البعثيين ومن بينهم المجرم المقبور صدام الذى هرب الى مصر ، واحتضنه ناصر وهيأه للعودة الى العراق حيث شارك فى انقلاب شباط الأسود عام 1963 البعثي . وقتل الزعيم بعد محاكمة صورية استغرقت أقل من ساعة بحضور عبد السلام عارف الذى كان يستجوبه بنفسه ورفض تقديمه لمحكمة أصولية ورفض حتى نفيه الى خارج العراق ، وهو الذى كان الزعيم قد عفى عنه سابقا. وكانت الكلمات الاخيرة التي اطلقها قبل اعدامه: انكم تستطيعون قتلي، غير ان اسمي سيظل خالداً في تاريخ الشعب العراقي.

كانت فرحة ناصر لا توصف وسهرعدة ليال بانتظار بيان من البعثيين بتسليم العراق اليه ، ولم يذاع ذلك البيان ، فعرف أنهم خدعوه . وبعد بضعة أشهر من حكم البعثيين الغدارين الذين اولغوا بدماء العراقيين وأذلوهم وأنزلوا فى قلوبهم الرعب ، انقلب عليهم غدار مثلهم وهو عبد السلام عارف حيث باغتهم وهم فى نشوة النصر، وكان أول ما فعله هو اتصاله تلفونيا بعبد الناصر ليزف اليه الاخبار السارة . وكان عارف يدعوه (أبو خالد) والبكباشي يدعو عارف (أبو أحمد) . وعادت آمال ناصر بضم العراق وعارف يستمهله فقد كان مشغولا بأمرين هما تثبيت مركزه وإثارة النعرات الدينية والطائفية ، حتى (دبر) له البعثيون (حادث) الطائرة العمودية فمات (الحجي)غير مأسوف عليه . وحسب تخطيط البعثيين فقد خلفه أخوه عبد الرحمن المسالم والضعيف الشخصية فسهل على البعثيين إزاحته فى انقلابهم الثاني فى 17 تموز/يوليو 1968 . وفتح صدام وحزبه صفحة جديدة فى تأريخ العراق أشد دموية من كل ما حصل له على امتداد تأريخه . ولا مجال هنا للاسهاب بوصف الجرائم التى ارتكبوها والحروب الجنونية التى شنوها على الجيران والتى راح ضحيتها أكثر من مليون عراقي بين قتيل وجريح ومعوق ، إضافة الى التدمير المرعب الذى أنزله القصف الأمريكي بالعراق . وبعد أن وقع مندوبه سلطان هاشم على وثيقة إيقاف القتال المهينة ، ومع انه كان مشغولا ببناء القصور فى الوقت الذى كان فيه العراقيون يموتون جوعا بسبب الحصار الاقتصادي ، فانه عاد الى التهديد والمراوغة ، فلم يجد الأمريكان الحريصون على سلامة آبار النفط فى البلدان العربية بدا من تحشيد القوات ضده ودخلوا بغداد فى نيسان/أبريل 2003 والعراقيون فرحون من التخلص من الحكم الدكتاتوري الشرس من ناحية ولكنهم حزينون لدخول قوات أجنبية للبلاد.

حصل ما حصل من تمزق العراقيين بسبب تكالب من بيدهم الأمر على السلطة دون أن يبالوا بشعبهم المسكين ، ووصل الأمر بالبعض منهم أن مدوا اياديهم الى المال العام ، فهربوا الملايين من الدولارات من أموال الشعب البائس دونما وازع من ضمير أو أخلاق أو دين ، وأصبح العراق اليوم دويلة ممزقة بين السنة والشيعة والعرب والأكراد والمسلمين والمسيحيين يكره بعضهم بعضا ، وبعض قادته يطالب بتقسيمه الى ثلاث دويلات متناحرة تسيل فيها الدماء مدرارا ، ويسهل على دول الجوار المتربصة ابتلاعه .
كل العقلاء يدركون أن بقاء القوات الأمريكية فى الوقت الحاضر فى العراق هو فى مصلحة العراق بالدرجة الأولى ، إلا الذين فى قلوبهم مرض و فى عقولهم مس ، وإذا ما تحققت أمنية هؤلاء فلنقرأ السلام على العراق . على العراقيين أن يدركوا جيدا أنهم محاطون بالأعداء والطامعين من جهاته الأربعة ، ثلاث دول تسيطر على منابع أنهارنا ويستطيعون أن يقضوا علينا عطشا . لم يوقفهم عند حدهم فى الماضي غير البريطانيين و ميثاق بغداد ، وفى الوقت الحاضر نحتاج الى امريكا لحمايتنا بدلا من ميثاق بغداد الذى كان يحمينا ، فلا تكابروا ولا تستمعوا الى زعمائكم الذين يتصارعون بجنون على السلطة حتى إذا حلت الكارثة سيكونون جاهزين لها بجنسياتهم الأجنبية التى يحملونها وعوائلهم المنتشرين فى كل أنحاء المعمورة بانتظارهم مع الأموال التى هربوها فيعيشون فى نعيم ويتركوننا نتلظى وأطفالنا وأحفادنا بنيران العوز والفاقة والجوع والمرض ، ولن ينفعنا دعاء رجال الدين المنافقين ، ولن تنفعنا مواعيد السياسيين الكذابين.

يمكن للقارىء الكريم الاستماع الى آخر خطاب لنورى السعيد بالذهاب الى يوتيوب الذى وضح فيه الكثير من الأمور التى كانت تدور فى العراق بصورة خاصة والشرق الأوسط عامة .
http://www.youtube.com/watch?v=AETqC1ZtJBIالرابط :
عاطف العزي