أثار البرنامج النووي الايراني لغطا و جدلا واسعا في کل أرجاء العالم بصورة عامة و في دول المنطقة بصورة خاصة، ولم يکن بإمکان کل التطمينات و التأکيدات التي أطلقها المسؤولون الايرانيون بصدد المقاصدquot;السلميةquot; لبرنامجهم و عدم إستهدافها للدول العربية و الاسلامية، أن تهدأ من روع تلك الدول وانما ظل هاجس الخوف و التوجس ريبة من مساعي طهرانquot;الاستثنائيةquot;بخصوص عمليات تخصيب اليورانيومquot;خلسة و سراquot;بعيدا عن أنظار العالم، يمنح يقينا لهذه الدول منquot;عدوانيةquot;هذا البرنامج و الاهداف quot;الشريرةquot;المتعددة الجوانب التي تخفيها بين ثناياها، ولئن سعى النظام الايراني للتأکيد دوما على رفضهquot;المطلقquot;لإسرائيل و سعيه الدائبquot;لإزالتها من الوجودquot;، وکذلك معاداته quot;الجديةquot; للشيطان الاکبر(الولايات المتحدة الامريکية)، فإن کل ذلك لم يکن أيضا بمقدوره زرع شئ من الثقة في تلك الدول و دفعها لتصديق الادعائات و المزاعمquot;الثوريةquot;البراقة التي أطلقها و يطلقها ضد واشنطن و تل أبيب، خصوصا وان دول المنطقة بدأت تنتبه شيئا فشيئا الى إعادةquot;ترتيبquot;الاوضاع في المنطقة في ظل إختلاف المعادلات السياسية الدولية و تضاربها و مانجم و ينجم عنها من مستجدات و تداعيات عديدة، وتأکدت من أنquot;الشعاراتquot;وquot;السياساتquot;العقائدية البراقة أخفت و تخفي خلفquot;معاطفهاquot;الداکنة الکثير و الکثير من الاسرار و الطلاسم، ويقينا ان ماأشيع و يشاع عن العلاقات السرية بين النظام الديني المتطرف في إيران و بين الولايات المتحدة الامريکية و اسرائيل، بات بمثابةquot;حقيقةquot;وquot;أمرا واقعاquot;، مع البدء بتسريب الکثير من المعلومات و التقارير السرية بخصوص ذلك وهو موضوع نرى من المفيد الاستطراد فيه بصورة وافية کي نتمکن بعد ذلك من فهم الخط العام للسياق الذي يسير عليه البرنامج النووي الايراني، وبخصوص هذا الموضوع، وقد رأى العديد من المراقبون السياسيون و کذلك بعض من الاوساط السياسية المطلعة، من أن المصالح المشترکة العليا لکل من إيران في ظل نظامها الحالي و الولايات المتحدة الامريکية و اسرائيل، لايمکن أن تجسدها الشعارات و الخطابات و السجالات الاعلامية الشعبوية الموجهة، وانما ترسمها و تحدد ملاحمها النهائية عبر آليات و أساليب و طرق الاتصال فيما بينهم. والذي يجب ملاحظته و التدقيق فيه ملية، هو أن النظام الايراني و على الرغم من تطرفه و شعاراته التعبوية، فإنه يتعامل باسلوب عقلاني کامل الاتزان مع الولايات المتحدة و اسرائيل، على العکس تماما من خصومه التقليديين في المنطقة، فهو قد کان لاعقلانيا او لنقل متطرفا و منفعلا في تعامله و تصدين ضد کل من نظامي صدام حسين في العراق و طالبان في أفغانستان، ولعلنا لو نظرنا الى الخط العام السائد في العلاقات بين نظام الولي الفقيه في إيران من جانب، و الولايات المتحدة الامريکية و اسرائيل من جانب آخر، لوجدنا أنها تسلك دوما سبيلا خاصا يتسم و يتميز بالحيطة و الحذر وانها تسير بهدوء و تؤدة بالغين وأن هکذا أمر، يمنح الثقة القوية في أن الدول الثلاثة تدركquot;بعمقquot;، أهمية عدم إجتياز الخطوطquot;الحمراءquot;لبعضها و هنا، وحتى لو أخذنا التصريحات النارية و الحماسية و المتطرفة المطلقة من جانب أقطاب النظام الايراني و کذلك تلك التصريحات العنيفة و المتسمة بروح الغطرسة و التطرف من جانب ساسة اسرائيليين، و ساسة و مشرعين أمريکان، فإن الدول الثلاثة لم تتصرف في نهاية باسلوب متهور و أرعن تدفع الامور نحو نقطة اللاعودة، بل وعلى العکس تماما، التصريحات دوما کانت في واد و الاتصالات السرية(التي هي أساس و جوهر العلاقات بينهم)، في واد آخر، وبحسب هذا السياق، فإن النظام الديني الايراني لايشکل ذلك الخطر الکبير الذي لايمکن احتوائه ضد واشنطن و تل أبيب بالاساليب الدبلوماسية، وهنا نستحضر مرة أخرى ماقاله الخامنئي في عام 2006، عقب ترؤسه لسلسلة من الاجتماعات المکثفة على أعلى المستويات بشأن الملف النووي الايراني و التداعيات الدولية: ( ان اوربا تفتقر الى الارادة الکفيلة بدخول مجال التحديات معنا حول موضوع الملف النووي في الوقت الذي باتت فيه الولايات المتحدة متورطة في اوحال العراق و لاتستطيع أن ترکز ضغوطها على إيران. علينا الاسراع بمواصلة برنامجنا النووي حتى نعتلي الى موقع أعلى خلال المفاوضات معهم و سوف نجبرهم على القبول بالواقع الايراني النووي. وعلينا أن نبذل الجهود من أجل إرجاء فرض العقوبات الدولية من خلال استخدام لغة التهديد و التحدي قدر المستطاع)، هذا الخطاب کما هو واضح من نبرته و سياق توجيهه، يعتمد على بعد عقلاني يکاد أن يطغي الابعاد الاخرى تماما، ويقينا، أن إيران رجال الدين و سلطة ولاية الفقيه، لاتحبذ مطلقا أي تصادم مباشر مع الغرب او اسرائيل(کما کان الحال مع نظامي طالبان و صدام حسين)، بل وانها تحبذ دوما أن تلجأ الى کل الخيارات المتاحة الاخرى، بما فيها خيار الاتصالات و التعاملات السرية ولاسيما مع اسرائيل، ولعل السبب الاهم لعدم جنوح نظام الولي الفقيه للتصادم المباشر مع الغرب و اسرائيل، يعود اساسا الى أن هذا النظام متيقن و مطمئن تماما من أن إمتلاکه لتکنلوجيا نووية متطورة أمر مستحيل من دون تأمين جانبهم بأي اسلوب او طريقة کانت، ولئن کان هنالك الکثير من الاجتماعات السرية مع الدولة العبرية والتي عقدت في عواصم اوربية اقترح فيها الايرانيون تحقيق المصالح المشترکة للبلدين من خلال سلة متکاملة تشکل صفقة کبيرة، وقد تابع الطرفان(إيران و اسرائيل)، الاجتماعات فيما بعد وکان منها إجتماعquot;مؤتمر أثيناquot; في العام 2003، والذي بدأ أکاديميا و تحول فيما بعد الى منبر للتفاوض بين الطرفين تحت غطاء کونه مؤتمرا أکاديميا، بل وان لجوء النظام الديني اساسا الى هکذا صيغة إتصال و تواصل مع اسرائيل ينم عن ترجيح العقلانية الکاملة في التعامل مع تل أبيب، وهو کما نرى يجسد الجانب النقيض للسياسة الايرانية الرسمية المرعية حيال اسرائيل.
عام 2003، وبينما کان الامريکيون يغزون العراق،(وهو کما نرى نفس العام الذي عقد فيه مؤتمر أثينا بين طهران و تل أبيب، وقطعا ليست مجرد صدفة محضة)، کانت إيران تعمل على إعداد إقتراح جرئ و متکامل يتضمن جميع المواضيع المهمة ليکون اساسا لعقد صفقة کبيرة مع الامريکيين عند التفاوض عليه لحل النزاع الامريکي ـ الايراني. وقد تم إرسال العرض الايراني او الوثيقة السرية الى واشنطن، وقد عرض الاقتراح الايراني السري مجموعة مثيرة من التنازلات السياسية التي ستقوم بها إيران في حال تمت الموافقة على الصفقة الکبرى، وهو يتناول عددا من المواضيع أهمها: برنامجها النووي، سياستها تجاه إسرائيل، ومحاربة القاعدة، کما عرضت الوثيقة إنشاء ثلاث مجموعات عمل مشترکة أمريکية ـ إيرانية بالتوازي للتفاوض علquot;خارطة طريقquot; بخصوص ثلاثة مواضيع هي: اسلحة الدمار الشامل، الارهاب و الامن الاقليمي، التعاون الاقتصادي. ان التمعن في هذه الامور، تدفع المراقب و المتابع للخطوط العامة للسياسة الايرانية حيال واشنطن و تل أبيب من جهة و، الخط السياسي الخاص الذي إتبعته و تتبعه بصدد ملفها النووي من جهة أخرى، ليذهب بتصوراته أبعد بکثير من تلك التوجسات و التوقعات المحدودة و المعتدلة نسبيا و التي تطرحها دوائر و اوساط سياسية بخصوص الملف النووي الايراني إذ ان التباطأ الامريکي الملفت للنظر من المساعي المشبوهة للنظام الايراني بإتجاه إمتلاك اسلحة نووية، يمکن أخذه على أکثر من محمل وليس بالضرورة فقط الايمان بالوجه الظاهري للسياسة الامريکية والتي قد يکون باطنها أمرا مختلفا بالمرة وانه ليس من المستعبد أبدا أن يقدم رجال الدين من خلال(تقيتهم)و الالتجاء الى مبدأ(التزاحم الفقهي)، من تقديم أي تنازل(جوهري حاسم)للأمريکان مقابل بقائهم في دفة الحکم، حيث أن النظام الايراني مثلما ربط وجوده بالاطار العقائدي المتزمت و المتطرف الذي إبتدعه(نظام ولاية الفقيه)، فإنه قد وجد أن ضمان وجوده و إستمرار بقائه يرتکز على دعامتين هما:
1ـ مبدأ تصدير الثورة و الذي هو اساسا تصدير القلاقل و الفتن و الارهاب للدول العربية و الاسلامية لکي يکون له نفوذ في تلك الدول.
2ـ دعم ذلك النفوذ باسلحة دمار شامل تدفع دول المنطقة و الغرب بشکل خاص، لکي يجلس على طاولة المفاوضات و يبدأ بالمساومة و تقبل شروط و إملائات النظام بخصوص المنطقة(حاضرا و مستقبلا).
لکن السؤال الاهم المطروح هو: هل حقا أنه يمکن تأهيل النظام الايراني و تدجينه، وهل حقا أن إمتلاکه لأسلحة الدمار الشامل سيجعله مأمون الجانب و يسلك اسلوبا عقلانيا و منطقيا في تعامله مع العالم بشکل عام و دول المنطقة بشکل خاص؟