منذ أن بدأ الربيع العربي بثورة تونس، ثم لحقت بعض شعوب المنطقة، فكانت مصر واليمن والبحرين وليبيا وكانت سورية، الثورة السورية لها خصوصيتها كما هي الحال في ليبيا، وبالطبع لكل ثورة خصوصيتها، لكن التشابهات بينها، تضمحل أحيانا، فيمكننا تضنيف الثورات العربية ضمن صنفين رئيسيين: الأول- الثورات التي حدثت في دول شمت رائحة الديمقراطية والحرية، وكنت أسميها سابقا فيما كتبت عن هذه الدول أنها دول باتت ضمن العتبة الديمقرطية، وهي حال مصر وتونس واليمن والبحرين. هذا الصنف من الدول الحرية التي كانت سائدة نسبيا، كان لها مفعول السحر في إنتاج جيل جديد من الشباب المهتم بالشان العام، وهذا فرض أجندته الخاصة على كل التشكيل المجتمعي السياسي منه والمدني. وكانت له رؤيته الخاصة جدا والتي يتجاوزها كثر لا بل غالبية الطيف الثقافي العربي، وهذه الرؤية تتمحور حول سؤال بسيط، وهو ما علمته إياه ثقافة النت والتواصل مع المنجزات الحضارية العلمية وغيرها تواصل ليس عميقا لكنه قوي وجدي، والسؤال: هو لماذا لا يتمتع هذا الشاب بما يتمتع غيره في بقية دول العالم، أزاح عن كاهله كل الشعارات التي أغرقت المنطقة منذ إسرائيل وحتى الآن، باستبداد لم تشهد المنطقة في تاريخها مثيلا له، وهو استبداد وليد لحظات اساس وهي لحظة الاستعمار التقليدي مترافقة مع النفط، ولحظة إسرائيل مترافقة، بكونها مشروع غربي لا يرحم في أبجدياته الأساسية، وإسرائيل تشكل مع النفط حرب الألف في هذه الأبجدية حتى نستطيع صياغة كلماتها من حروفها التي أغرقت المنطقة بكل هذا الدم وبكل هذا الفساد النخبوي وسرقة الثروات كلها، يذكر عن مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزي سابق، أنه في خمسينيات القرن العشرين قال سأجعل ماليزيا مثل الشام أي سورية، واصبحت ماليزيا تشبه بلدا آخر، وسورية لا تشبه ماليزيا في الخمسينيات. كل هذه الشعارات التي أنتجتها المرحلة هذه رماها الشباب العربي وراء ظهره، لأنه مانفع الشعارات هذه إذا كان هو لايشعر بكينونته؟ وبدأ عصر جديد الشباب الجديد يقوده، وهذا ما ترك أثره على كل دول المنطقة تقريبا، فشعارات الأجداد لا تعني الاحفاد كثيرا...في هذا الصنف من الدول كان هنالك أنظمة مختلفة، أنظمة تريد ابتلاع عتبة الديمقراطية بشكل شخصاني فاسد من خلال عملية التوريث.
الصنف الثاني- هو الدول التي لم تعرف ولا مساحة حرية بسيطة ولم يعشها هذا الجيل من الشباب، كحال سورية وليبيا حيث لم تدخل هذه الدول عتبة الديمقراطية ولم تطرق بابها أصلا، فكان الشباب الليبي والسوري عندما خرج إلى الشارع ليعبر عن ذاته تيمنا بأشقاءه في مصر وتونس، كان يعرف أن الموت ينتظره، وهذا الاحساس لم يكن عند الشباب المصري أو التونسي أو حتى اليمني أو البحريني.
ليكتشف هؤلاء الشباب بتجربتهم المباشرة أي نظم كانت تحكمهم، إنها عصابات وليست نظم، إنها تشتري كل هذا السلاح وتخزنه لكي تقتل شباب وطنها في حال أرادوا الخروج نحو حريتهم..في كل الدول من الصنفين انشق الجيش أو أنه رفض أوامر السلطة بإطلاق النار على المتظاهرين، أما في سورية، فالجيش تم إعادة بناءه بطريقة ولائية عصبوية طائفية، مما جعل الشباب السوري يضع الرهان على هذا الجيش جانبا، ولا يفكر به أصلا، وهذا لم يكتشفه بمثاقفات، ولا تحليلات تملأ الجرائد بل اكتشفه الشباب السوري بتجربته العملية، وأطلق عليهquot; أنه جيش بشار الأسدquot; حتى معظم الانشقاقات التي حدثت هي انشقاقات فردية ذات منبت عاطفي وطني لا أكثر ولا أقل..
ثمة أمر آخر، أن التجربة المصرية في السلام مع إسرائيل وتحول مصر من المعسكر الشرقي إلى المعسكر الغربي كانت تقتضي الانفتاح على ليبرالية اقتصادية غير مقيدة، وعلى ليبرالية سياسية مقيدة، بالمحصلة لم تستطع إسرائيل التهرب آنذاك من استحقاق السلام مع مصر، لاعتبارات تتعلق بتلك الفترة دوليا وإقليميا، لسنا بصددها هنا، أما بالنسبة لسورية فإسرائيل ساهمت بإنتاج هذا الشكل من النظام، ومساهمتها كانت أنها عززت أولوية هذا النظام، وهي استمراره في السلطة على هذه الشاكلة، لهذا كلنا يعرف مثلا أن إسرائيل كانت موافقة على دخول الجيش السوري إلى لبنان 1975...وإسرائيل لكونها لا تريد السلام هنا بالذات، فإنها لعبت بهذه الأولوية بالنسبة للنظام كما تشاء...ولهذا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تقول أن هنالك جماعات مسلحة في سورية ضد النظام..! إسرائيل كلها تقريبا تقف مع النظام، في هذه الوضعية، وهنا كرد على صديق يساري إسرائيلي هذا ليس منطق نظرية المؤامرة، النخب الإسرائيلية لا تخفي تمسكها باستمرار آل الأسد في الحكم حتى لو تم إبادة نصف الشعب السوري. هذا أيضا عامل عقد وأعطى للثورة السورية خصوصية أخرى، أنها تواجه إسرائيل على المستوى الدولي، وهذه ميزات لم تكن موجودة في مصر أو في تونس وليست موجودة في اليمن أو في ليبيا، ولا في البحرين التي فيها أيضا للوضع الإيراني حكاية أخرى..
الآن مثقفي الممانعة يخرجون علينا ليل نهار، أن الثورات العربية، لم تعطي شيئا، والوضع الآن أسوأ، هذا كلام منافق وغير صحيح، والدليل تظاهرات جمعة الاصرار07.07.2011 في مصر لايوجد مجتمع تحدث فيه ثورة تستقر أوضاعه بعدها بعام واحد، خاصة إذا تم الانتقال فيها سلميا، وبمشاركة من قوى النظام البائد، ولهذا فليرفع هؤلاء المثقفون تحليلاتهم عن كاهل الشباب العربي..الشباب المصري الآن، لم يعد بوارد أن يعيش أو أن يقبل العيش في تحت الخوف من البوليس السياسي. وهذا بحد ذاته انجاز كبير. تونس ومصر وماتشهده الآن من تعثرات هي مفهومة ومفسرة وانتقالية، لأن الشباب المصري والتونسي لن يفرط بثورته.
نعود الآن إلى سورية، في سورية سوقت بعض القوى أن لا تاريخ لسورية قبل آل الأسد، كيف هذا بقلة ضمير، وحقد على الشباب السوري الذي يدفع من دمه لكي ينال حريته، لا تاريخ لسورية بالتعايش بين الأكثرية والأقليات الموجودة، ولا تاريخ لسورية، أنها لم تشهد عبرتاريخها ظاهرة الاعتقال حتى الموت إلا في زمن الأسد...ساتركك تتحلل وتفطس داخل السجن هذه عبارة ترد على لسان أكثرية ضباط الاستخبارات السورية، ولم ترد إلا لأنها نفذت وتنفذ..لم تشهد انقلابات سورية قبل مجيء عسكر البعث إلى السلطة أي اجتياح للمدن، وقتل لسكانها واستباحة لأعراضها وأرزاقها إلا في ظل هذا النظام.
الشباب السوري أنتج نموذجه في الثورة السلمية التحررية، وسيساهم في إنتاج مستقبل سورية على هذا الشاكلة من الحرية. الانتفاضة السورية لم تتجاوز النظام فقط بل تجاوزتنا كمعارضة تقليدية وأنتجت معارضتها، والمتواجد من شيوخ المعارضة مع الثورة، إنما يعمل بمحدداتها، وليس وفق رؤية حزبه أو تحالفاته داخل هذه المعارضة، كما أن الشباب السوري قضى على معادلة داخل خارج، سواء داخل المعارضة او غير ذلك، فتواصل الشباب المنتفض هو مع معارضة يراها هو سواء كانت في الداخل أم في الخارج هذه قضية لا تعنيه أبدا...ولهذا الحديث عن داخل خارج لا تراه إلا على ألسنة معارضة مفلسة. إن ذهاب السفيران الأمريكي والفرنسي إلى حماة يعطي مؤشرا على أن شباب سوري خلق دينامياته السياسية في التعاطي مع كل مستجد، وهذا بالحس العملي المتكون من خلال وجوده في الشارع رافعا علم الحرية لكل سورية ولكل أبناءها من عرب وكرد ومن كل الأديان والطوائف...
لهذا أريحوا الشباب السوري من تحليلاتكم، فهو عارف طريقه حتى لو تآمر عليه العالم كله، وخسر معركته، لكنه أبدا ليس لأنه لا يعرف طريقه بل هذه قضية تخضع لميزان قوى وتواطؤ دولي على قتل حلم هذا الشباب السوري. لكنه مهما حدث فهو لن يقبل بالعودة للوراء..
غسان المفلح
- آخر تحديث :
التعليقات