صار لزاماً على السوريين أن يسيروا في كل مظاهرة حكومية تحت علم جديد، وفي كل مرة يصير العلم أطول، آخر علم ساروا تحته، كان طوله ستة عشر كيلو متراً،قالوا إنه أطول علم في العالم، دخلوا فيه كتاب القياسات الدولية، وحصلوا على براءة ريادة!

هنيئاً للنساجين والخياطين في سوريا فقد ازدهرت أعمالهم هذه الأيام( هذا إذا لم تكن من أعمال السخرة، والضريبة البعثية الإجبارية)!

وأخيراً أقر البعثيون في سوريا أن الحل لدى الخياطين والنساجين، أي عند غيرهم، وليس في كتبهم وأيدلوجيتهم التي قالوا إنها خلاصة الفكر العربي والإنساني، وفيها كل الحلول المصيرية لأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة!

إذا كانت القضايا الكبرى والمشكلات العويصة، يمكن لفلفتها بعلم طويل،وتحويله إلى كفن ملون لها، ترى لماذا أتعب زكي الأرسوزي، وميشيل عفلق وصلاح البيطار،وغيرهم من المفكرين والشعراء البعثيين أنفسهم، وأتخموا عقول اتباعهم بترسانة النظريات والأقوال والشعارات الطنانة الرنانة؟

علم طويل، أطول من أية حكاية مملة في الدنيا، وغير بعيد عنه وفي ظلاله: أطفال وصبيان يعذبون ويقتلون ويمثل بجثثهم، ومغن تقتلع حنجرته، والضحايا تجاوزوا الآلاف، أهذه دعاية مغرضة؟ ( ولا يوجد مصدر محايد لإثباتها) والمتظاهرون البعثيون يهتفون: عش هكذا في علو أيها العلم! فإننا بك بعد الله نعتصم، نحتكم، نختصم،لا فرق!

رجل هو نائب في مجلس الشعب صحا ضميره مؤخراً واعترف، في اللقاء التشاوري من أجل الحوار الوطني: ( إن الإنسان في سوريا اليوم صار ينتزع من بيته وعائلته ليسحب إلى الأقبية المجهولة مثل كيس البطاطاً!) أليست هذه قوة صانعي المعجزات؟ ماذا يعني علم بشار الأسد هذا أمام كيس البطاطا؟

وليد المعلم الذي هو نفسه بحاجة إلى معلم، قال إننا سنتصرف كأن أوربا ليست على الخريطة، بلثغة لسان غليظ، استطاع هذا الوزير أن يحذف أوربا كلها من العالم، أية قوة إعجازية هذه؟

قيادة سوريا الحالية لجأت إلى الأوهام للخروج من مأزق تاريخي لا مهرب منه! لقد حكمت بلداً جميلاً،وشعباً خلاقا، بالحديد والنار قرابة نصف قرن، صنعت نظاما متحجراً متفسخا، واليوم جاءت ساعة الحساب، فكيف ستتصرف معها؟ بالأعلام الطويلة والقتل؟ أم بإقرار الحقوق المشروعة للناس، والحوار الجدي والصادق للوصل إليها بأقل قدر من الخسائر؟؟ اللجوء إلى طريقة السحرة في صنع الذهب من صفار البيض الفاسد،أمر لا يجدي في منعطفات التاريخ الحادة!

بشار الأسد وجماعته أضحوا اليوم نموذجاً صارخا لطريقة العقل العربي المسلم التقليدية المتوارثة في مواجهة المشاكل والمهمات التي يحين أوان دفع أثمانها، وتصير استحقاقاً لا مفر منه!
هم يتحدثون عن الحوار بينما دباباتهم ومصفحاتهم تجتاح المدن،ووسائط إعلامهم ودعايتهم تتحصن بالأوهام والأكاذيب والرموز والأحجية السحرية!

لقد دفع الناس في العراق،وفي كل المنطقة التكاليف الباهظة لهذه العقلية العقيمة، وسيدفعون أكثر!

صدام بعد أن أذل شعبه وانتهك كل القيم الإنسانية،وأراد العالم محاسبته، واجهه بهذه العقلية،شرع ببناء أكبر مسجد في العالم، قاعدته ساحة نزول الطائرات في مطار المثنى كلها! أنفق عليه الكثير من أموال العراقيين أيام الحصار، العراقيون يتضورون جوعاً، وهو يستورد المرمر الإيطالي لهذا الجامع، وما يزال حتى اليوم لم يكتمل!

صدام حمل أكبر سيف في العالم، استله من غمده أمام ما سمي مؤتمر الشعب العربي، ولوح به،لكن من المؤسف إنه أعاده إلى غمده، لو كان قد أبقاه مسلولاً لأخاف الأساطيل الأمريكية،ولم تتحرك لإسقاطه!

بذهنيته هذه،هيأ العراق للهزيمة، جره من عنقه إلى الاحتلال، كان المفتشون يحتلون حجرة نومه، وهو يتحدث عن المسجد والسيف وحلقات الدراويش ويستجلب المنجمين وقراء الكف والطالع من الهند وباكستان! صدام ومن سار معه وفق ذهنيته ومزاجه، قدموا للمحتلين تسهيلات هائلة،وسلموه لهم يداً بيد!


كان صدام قد أعد أكبر قرآن في العالم، كتب بدمه، وطعم بالذهب والجواهر، وحين اقتيد إلى المشنقة لم يكن هذا القرآن في متناوله، حمل نسخة صغيرة منه، لم يشفع له ولم ينقذه من حبل المشنقة! ترى لماذا أجهد نفسه وحزبه في بناء أيدلوجية بعثية علمانية؟

قادة الأحزاب الشيعية،صاحبة الكلمة العليا في حكم العراق،متحالفة مع الأحزاب الكردية ( التقدمية) تسير اليوم على هذا المنوال، لا يتحدثون عن حوار جدي صادق نزيه،لفصل الدين عن الدولة، ويحلوا قبضتهم عن عنقها، لإخراج البلاد من أزماتها العضالية، أو المستفحلة، ولا يتحدثون عن مصالحة، أو وحدة وطنية!

همهم الأكبر توكيد ذواتهم السياسية والطائفية بالحديث عن أكبر المظاهرات الدينية، وأطول المسيرات الحزينة إلى النجف وكربلاء، يدفع تكاليفها الشعب المسكين الذي ما يزال يتضور جوعاً!

قبل أيام تفاخروا: إن عدد زوار موسى الكاظم بلغ ستة ملايين، وغير بعيد عنه معمل الحليب ومنتجات الألبان في أبي غريب الذي كان مفخرة العراق الصناعية، هو الآن خرابة مهجورة، ويمكن بقليل من المال الذي ينفق على هذه الزيارات،وبمجموعة من هؤلاء الشبان الزوار، إعادته إلى العمل والإنتاج الوفير، لكن قادتهم السياسيين فضلوا لهم أن يبكوا ويلطموا! لا أن يعملوا ويفكروا ويتحاورا بهدوء وعلم ودراية!

أنها عقلية الرموز والشعارات،الخيالية الوهمية، هنا يتحدثون عن أكبر رمز خرافي، وهناك في العالم المتحضر يتحدثون عن أكبر مصنع للسيارات والطائرات، وأكبر جامعة، وأكبر مستشفى، وأكبر مزرعة، وأكبر فندق،وأعلى ناطحة سحاب، وأكبر تلسكوب محمول إلى الفضاء الخارجي! وعن أكبر البرلمانات للحوار والجدل الفكري العميق عبر القارات حيث يمكن مناقشة كل شيء: الصراعات السياسية، قضية الدين والجنس وكل نزعات الحياة الطبيعية، بكل حرية وهدوء واستعداد لتقبل الرأي مهما كان مخالفاً وقاسياً!

على نظام البعث في سوريا أن يغادر ذهنية أكبر علم في العالم ويهيئ كل الأسس والضمانات لحوار حقيقي جدي صادق، ولا بأس من الاستعانة بضمانات قانونية ودولية سليمة لا تخل بسيادة سوريا، ليجري هذا الحوار بمساعدتها وبضمانات مطمئنة من قبلها للخروج من هذا المأزق التاريخي الخطير بأقل الخسائر،وبنظام أفضل حقا، وبأعظم الآفاق لمستقبل جديد!

وأكثر ما يقلق أن تحكم قادة هذه الانتفاضات والثورات العربية نفس عقلية الحكام الذين يثورون عليهم، فتتحكم بمواقفهم وسياستهم ذات العقلية التقليدية المتحجرة، فقط ان يختفي أصحاب البذلات وربطات العنق الحريرية، ليطل أصحاب اللحى متلفعين بثياب النسك والطهارة ليمضوا في طريق المجابهات الدموية بعيداً عن العقل الموضوعي، واتباع قاعدة أن السياسة هي فن الممكنات لا فن المستحيلات، فيكون هدفهم لا مصلحة الوطن، بل مصالحهم الخاصة! وهذه مخاوف مشروعة ينبغي أن يأخذها الناس بالحسبان منذ الآن، وإذا أردت حصاداً وفيراً راقب البذار والحرث والماء والشمس أولاً!

على القيادة البعثية أن تكف عن سياسات الأعلام الطويلة، والألسن الطويلة والحراب الطويلة، فهذه ستزيد من مأزقها هي قبل غيرها، فمن حق الناس أن يقولوا: من لم يغرز علماً صغيرا بأرض الجولان، لا يستطيع ان يقنعنا بأطول علم في العالم في شوارع دمشق المسورة بالدبابات! ومن كذب علينا لخمسين عاماً، لا يصعب عليه أن يكذب علينا لخمسة أشهر أخرى، نعم لكي لا يكون البديل في سوريا جحيماً آخر، على البعثيين أن يدخلوا الحوار مع قوى الشعب الجديدة بنية عميقة صادقة نبيلة في القاعات والساحات والهواء الطلق!

وعلى القوى الخيرة صاحبة المشروع العلماني التقدمي الواضح والنزيه أن لا ترفض الحوار حتى تستنفذه لآخر شوط مثمر، وتخوضه بمبدأية عالية وتوازن في طرائق عملها بين الصلابة والمرونة،ويكون هدفها بناء سوريا دون المرور بهدمها أولاً، كما حصل في العراق، وتأخذ في حسبانها أن سورية للجميع،من مختلف الأديان والطوائف والقوميات والشرائح الاجتماعية، وأن تحذر أشد الحذر من الانزلاق إلى الفخ الطائفي الرهيب!

وسيكون أجمل لو أن البعثيين حملوا للناس باقات الورد، ودموع الاعتذار! فهل يستطيع البعثيون اجتراح هذه المعجزة ؟ إنهم لم يفعلوها في العراق، فسلموه للاحتلال، ولحكم الطائفيين من الشيعة والسنة، والعنصريين الكرد،والنفوذ الإيراني، فهل يستطيعون فعل ذلك في سوريا، لتنجوا مما لا يحصى من الاحتمالات المدمرة!