خلق انهيار النظام السوفيتي من الداخل مناخا جديدا في شرق أوروبا لا مكان فيه للانظمة الاستبدادية (مثلما هو الحال الذي يعيشه العالم العربي اليوم)، لذلك جاء تشكل ما عرف آنذاك باسم quot;المنتدى المدنيquot; في تشيكوسلوفاكيا متساوقا مع مسار الأحداث وجمع هذا الكيان وجوها بارزة ومنظمات شعبية كثيرة حول هدف واحد: تحقيق الديمقراطية بوسائل سلمية ومعارضة للعنف. ولعب رئيس هذا التجمع الكاتب المسرحي المنشق فاكلاف هافل دورا مساعدا في إيجاد الحل الوسط وتحقيق المصالحة بين الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي الحاكم والفئات الشعبية المعارضة. ففي الحكومة الائتلافية الأولى شارك الشيوعيون فيها بل وتزعموها. وساعد انتخاب شخصية ليبرالية وانسانية مثل هافل لمنصب رئيس الجمهورية عام 1989، على قطع الطريق أمام الانجراف في طريق الانتقام، فقد أكد في العديد من خطبه أن الجميع يتحملون مسؤولية ما وقع من تجاوزات لحقوق الانسان خلال فترة الحكم الشيوعي الذي امتد لأكثر من أربعين سنة.

كان من الممكن أن يسير العراق في تغيير الإصلاح لو أن صدام حسين سار على ما ابتدأه بعد حرب الخليج الثانية عام 1991حين عين شخصية مدنية بعثية هو الدكتور سعدون حمادي رئيسا للوزراء. لكن توسيع المسؤولية الضئيل الذي فتحه الرئيس العراقي ما أوشك أن أغلق وعاد الحكم الاستبدادي المنفرد غير آبه بأي إشراك للأطراف السياسية الأخرى. فحتى أولئك المعارضين الذين عادوا إلى العراق لدعم النظام بعد الحرب تعرضوا للقتل والتشريد لاحقا.

لذلك حين بدأت إدارة بوش بالتحضير لغزو العراق بعد هجمات 11 سبتمبر، كانت بحاجة إلى توفير الأرضية لهذا القرار الخطير يتمثل بإقناع الرأي العام الأمريكي والعالمي بوجود أسلحة الدمار الشامل في العراق، جنبا إلى جنب مع المعارضين العراقيين ومساعدتهم على تنظيم أنفسهم وعقد المؤتمرات لهم سعيا لإقناع المعارضين للغزو بأن ما تسعى إليه الولايات المتحدة قد كسب ممثلي الشعب العراقي. إنه بشكل أو بآخر تحرير وليس غزوا.

وبالفعل، نجحت وزارة الخارجية الأميركية باستقطاب عدد من المثقفيين العراقين المقيمين في المنفى لتستفيد منهم ضمن مشروعها اللاحق: غزو العراق وتدمير الدولة العراقية تحت تسمية quot;إسقاط النظامquot;. من جانب آخر، تبنت مؤسسات أميركية وبريطانية كل الجهود الهادفة إلى تجميع العديد من القوى العراقية الموجودة في الخارج في أطر شبه تنظيمية غلب عليها الطابع الطائفي- الاثني.

لقد ظن الكثير من المثقفين العراقيين الذين شاركوا في quot;المغامرة الأميركيةquot; أنهم سيسهمون في بناء دولة علمانية ديمقراطية يحكمها دستور عصري ويتم تداول السلطة فيه. كل ذلك من دون الانطلاق مما هو قائم على الأرض: أي مؤسسات الدولة العراقية بأجهزتها العسكرية والأمنية والمدنية، ولذلك لم يجدوا أي ضير حين أصدر الحاكم المدني الاميركي بريمر أول قرار له لدى وصوله إلى بغداد بحل الجيش العراقي.

لكن ذلك دفع بالعراق إلى هوة الجحيم الخالص. فمن جانب دفع هذا الإقصاء بجزء كبير من ضباط وجنود الجيش إلى صفوف المقاتلين ضد الاحتلال الأمريكي، في حين راح رجال الأمن والمخابرات السابقون يعملون سرا لتقويض أي إعادة تشكيل لمؤسسات الدولة وتشغيلها. من جانب آخر، أدى غياب أجهزة الاستخبارات والأمن إلى إفراغ الجسم البشري من أي مناعة مما فتح الباب واسعا لتصفيات غامضة راحت تصيب أفضل العقول العراقية من علماء وأطباء واكاديميين. في الوقت نفسه، انغمرت الأحزاب التي تشكلت على عجل والتي أخذت طابعا طائفيا بتكوين ميليشياتها. ولن يمضي وقت طويل قبل ظهور تنظيمات مثل quot;جيش المهديquot; وقاعدة أرض الرافدين لتهيئ الأرضية المناسبة لفتنة طائفية لم يشهدها العراق منذ مئات السنوات. لأول مرة تصبح المساجد التي هي أكثر الأماكن امنا موضع تفجيرات ولا يبقى هناك أي مكان يعصم مئات الالوف من المواطنين من القتل والإذلال.

بالمقابل، وجد الكثير من هؤلاء المثقفين العراقيين أن أحلامهم وطموحاتهم الشخصية قد ذهبت أدراج الرياح، وما برز مع تحقق الفراغ الأمني وغياب القانون والنظام دخول الأعداد الكبيرة من الناس تحت حماية المجاميع المتطرفة الصغيرة ذات الطابع الطائفي وهذه بدورها نجحت في تصعيد المواجهات الطائفية من خلال مهاجمة الأماكن المقدسة للطرف الآخر.

لقد انتهى الأمر بالعراقيين إلى أنهم بدلا من أن يتعاملوا مع طاغية واحد أصبح عليهم أن يتعاملوا مع طغاة صغار كثيرين. وبدلا من أن يكون القمع ذا اساس سياسي أصبح واسعا على شتى الخيارات الشخصية، ابتداء من طريقة قص الشعر، وانتهاء بالملابس التي ترتديها النساء. وكان الثمن الذي دفع مقابل ذلك قتل الكثير من النساء في مدن مثل البصرة لعدم ارتدائهن الملابس quot;المحتشمةquot;، ومع غياب القانون تعرض البلد إلى كارثة فقدان أفضل كوادره من أطباء وعلماء وخبراء إما غدرا أو لمغادرتهم العراق إلى الأبد.
أسمع الكثير من المعارضين السوريين المقيمين في الخارج يقولون إن حركة الاحتجاج السائدة في سوريا الآن هي ذات طابع وطني يتجاوز الطوائف والاثنيات. لعل ذلك صحيح. لكنني اتخوف من أن من سيقرر المستقبل في بلد مثل سوريا(بعد حل الجيش والأجهزة الأمنية اللذين ثبت على عكس مصر وتونس أنهما جزء من النظام) هو ليس الأغلبية وما تريده بل تلك الأقليات الصغيرة والمتطرفة التي ستركب الموجة لاحتلال القيادة من خلال أعمال قتل مروعة لأفراد بارزين من هذه الطائفة أو تلك مثلما حدث في العراق ومثلما حدث في البوسنة ومثلما حدث في لبنان والجزائر وغيرها، لتدفع نحو حرب أهلية قصيرة او طويلة المدى لكن ما تتركه من آثار مخربة لروح الشعب ستحتاج إلى أجيال عديدة لتندمل، هذا إذا لم يترتب عليها نشوء دويلات شبيهة بتلك التي تشكلت في البوسنة والهرسك بعد سقوط المعسكر الاشتراكي في أوائل التسعينات من القرن الماضي.

لم يعرف العراق منذ نشوء دولته عام 1921 أحزابا دينية أو طائفية حتى عام 2003. وظل قادته وأعضاؤه في أغلب الأحيان من فئات اجتماعية شتى. فحزب الاخاء الوطني الذي تأسس عام 1931 ترأسه شيعي وسني هما جعفر أبو التمن وياسين الهاشمي، وكان فؤاد الركابي أول زعيم لحزب البعث الذي تأسس في أوائل الخمسينات من القرن الماضي شيعيا من مدينة الناصرية. في الوقت نفسه كان يوسف سلمان مؤسس الحزب الشيوعي العراقي مسيحيا. لذلك فإن بروز الأحزاب الطائفية بعد الغزو الأميركي للعراق كان خرقا كاملا لمسار الحياة السياسية في العراق الحديث، وأخطر ما ترتب عليه هو حالة التشرذم على أساس طائفي لمؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، ومعها شلت خدمات الدولة بشكل مفجع وحلت محلها مافيات طائفية أو اثنية ترتبط بهذا الحزب أو ذاك، وهنا أصبحت أعداد هائلة من أقارب الشخصيات البارزة تحتل الوظائف على أساس المحسوبية بدلا من أن تكون محصورة بعائلة وأقارب طاغية واحد.

مما حدث في العراق خلال السبع سنوات الأخيرة، أظن أن أخطر ما ترتب عليه الغزو الأميركي للعراق هو تدمير تلك اللحمة التي تجمع أبناء البلد الواحد من شيعة وسنة ومسيحيين وغيرهم. فبغداد التي تشكل العائلات المسلمة ذات الاختلاط المذهبي فيها أكثر من 50% قد وجدت نفسها ضمن انقسام طائفي لم يعرف له مثيل في ذاكرة عدة أجيال من العراقيين الأحياء.

بإجراء مقارنة ما بين سوريا اليوم ودول شرق أوروبا عشية وقوع التغيير في تركيبة سلطاتها، نجد عدة نقاط متشابهة. فإذا كان غورباتشوف قد أعلن عن سياسة quot;البيروسترويكاquot; عام 1987 والتي آلت إلى إصلاح الأنظمة quot;الاشتراكيةquot; من quot;استبداديةquot; إلى quot;ديمقراطيةquot;، فإن هناك شوطا كبيرا سبقه، وجرى خلاله تفكيك بطيء للديكتاتورية في هذه الدول. فبعد موت ستالين عام 1953 وانتقاد خروشوف الشهير لسلفه عام 1956 بدأت صفحة جديدة، استردت بها هذه الدول أنفاسها من سطوة الأجهزة الأمنية والمخابراتية المطلقة على الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وبفضل تراكم هذا الانتزاع البطيء للحقوق الشعبية من أنياب هذه الأنظمة توفرت الأرضية للانتقال السلمي إلى النظام الديمقراطي. وإذا نظرنا اليوم إلى سوريا فسنجد الكثير من التحولات الصغيرة المتراكمة قد حدثت ابتداء من عام 1991(انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة) في المجال الاقتصادي والثقافي والاجتماعي. هناك أعداد كبيرة من الكتب تصدر كل سنة وحجم الرقابة أصبح يوما بعد يوم أخف واقل. هناك الانترنت والفضائيات والجوال والبنوك والاستثمارات الخارجية والداخلية وتوسع السياحة وبروز عدد ليس كبير لكنه معتبر من منظمات المجتمع المدني وتشكل عدد محدود من جمعيات معنية بحقوق الانسان مع جمعيات أخرى معنية بتقديم خدمات اجتماعية وانسانية عامة. بل حتى تحول العسكريين الكبار إلى البزنز هو علامة على اختفاء أهمية الموقع العسكري لمنح السلطة للشخص بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء عصر تلك الدول التي ظلت تدور في فلكه وتكسب حمايته الكاملة. بالتأكيد كل هذه الانجازات لا تستجيب مع الهدف الأساسي المتمثل بإقامة النظام الديمقراطي الحقيقي( الضمانة الوحيدة لتحقق الشفافية في أداء مختلف مؤسسات ومنع تنامي خلايا الفساد السرطانية )، لكنها أساسية كي يمكن إقامة هذا النظام. فالنظام الاستبدادي الذي يتم إسقاطه بالقوة من دون تلك الفترة الانتقالية سينشأ فوقه نظام استبدادي آخر قد يكون أسوأ من سابقه، وبالتلفت حولنا إلى التجارب الثورية سنجد العشرات من هذه التجارب التي انتهت بأنظمة استبدادية أعتى من سابقتها.

يمكن القول إن قبول النظام السوري بإجراء الاصلاحات الأساسية المتمثلة بتبني الشروط الأولية لأي دولة حديثة هو لصالح الأفراد المنضوين فيه. فبإيجاد جسور مع قطاعات شعبية جديدة قد يكون ممكنا أن يلعبوا دورا مع الكثير من الفئات المعتدلة لخلق مجتمع تحكمه مؤسسات منتخبة ينفصل فيه الدين عن الدولة.

بالمقابل سيضمن قبول أطراف المعارضة بالحوار مع النظام وإيجاد أرضية إصلاح مشتركة عبور هذه المرحلة بسلام وتحقيق بديل مثالي لكل منطقة الشرق الأوسط. فالحالة المدنية والمدينية المتقدمة في سوريا (ضعف البنية القبلية وانتشار المدن العريقة فيها) غير متوفرة في العديد من البلدان المجاورة. وبالتأكيد فإن التنوع الاثني والديني والمذهبي هو ظاهرة صحية لغنى المجتمعات إذا وافق الجميع على التعايش والتفاعل الحرين في ما بينهم.

باختصار: إذا كان الجيشان المصري والتونسي مستقلين عن النظام فإن هذه الحالة في بلدان تشبه في تكوينها الدول الاشتراكية (سابقا) غير متواجدة وهذا ينطبق على سوريا. إسقاط النظام يتطلب اسقاط الجيش والأجهزة الأمنية، وهذا يعني فتح الطريق لخلايا المجتمع كي تدمر نفسها بنفسها، مثلما شاهدناه في العراق ومثلما يجري أمامنا الآن في ليبيا واليمن.
لا بديل عن الحوار غير الانتحار طوعا.

*روائي عراقي مقيم في لندن