يوم السبت التاسع من يوليو عام 2011 يوم عظيم في تاريخ شعب جنوب السودان إذ يرفع الجنوبيون راية استقلالهم ويعلنون مولد دولة ديمقراطية علمانية تكلل كفاحا طويلا ومعاناة مريرة وتضحيات جسيمة. وإن كان استقلال الجزائر تحقّق عقب مجزرة كبرى راح ضحيتها مليون مواطن فإن استقلال الجنوب تحقق عقب مجزرة أكبر راح ضحيتها مليونا مواطن.

ويأتي استقلال الجنوب ليس كتعبير عن إرادة النخبة التي حملت السلاح ووّقعت اتفاقية السلام فحسب وإنما أيضا، وهو الأهم في ميزان التاريخ، كتعبير عن إرادة المواطن الجنوبي العادي الذي ظلّ يتوق لاستقلاله وحريته منذ عام 1956 عندما وجد نفسه يعيش في بلد مستقل لا يستطيع أن يسميه وطنه.

لقد وجد هذا المواطن نفسه ومنذ استقلال السودان أسير وضع تاريخي لا يستطيع الفكاك منه سواء هرب لاجئا إلى دول الجوار أو هرب للشمال، فهو في الجنوب ضحية دائرة العنف التي بدأت تنداح منذ تمرد حامية توريت في أغسطس 1955 وهو في الشمال ضحية تهميش يمتد لكل مناحي حياته ويجعله طريدا شريدا كل الوقت.

ولكن هذا التاريخ الذي حكم على المواطن الجنوبي أن يرسف طويلا في أغلاله أتاح له أخيرا أن يقول كلمته عبر استفتاء حرّ تأخر عقودا، وهاهو يدفع عجلة التاريخ في اتجاه جديد ليخلق واقعا جديدا يذوق فيه طعم المواطَنة القائمة على المساواة والحرية.

هذه المواطنة القائمة على المساواة والحرية ظلت وماتزال هي قضية القضايا منذ الاستقلال سواء كان ذلك تحت ظل الأنظمة النيابية أم الأنظمة العسكرية. والتفريط في حماية حقوق هذه المواطنة حماية حقيقية وما ترتّب عليه من تكريس واقع السيادة العرقية والثقافية والدينية الماثل في السودان ظل منذ الاستقلال ديدن كل الأنظمة حتى في العهود الديمقراطية، إذ أن النخية الشمالية ذات التوجه الإسلامي والعروبي والتي ظلت ممسكة بمقاليد الأمور آلت على نفسها إعادة صهر مكونات السودان وصياغته لتصبح كل الأطراف صورة من المركز أو على الأقل مستسلمة لهيمنته (باستثناء فترة قصيرة أعقبت اتفاقية أديس أببا في عام 1972 أعقبها تبني خطاب رسمي عن التنوع والوحدة).

ولم ينفصل الواقع السياسي بعد الاستقلال بالطبع عن واقع استغلال اقتصادي جديد أتاح للطبقة السائدة الهيمنة على الموارد والفرص (وهي طبقة تجارية وزراعية وصناعية شمالية التكوين). وبلغ الإهدار للمواطنة القائمة على المساواة والحرية قمته في ظل نظام النخبة الإسلامية الحالية.
وهو أمر يعود لسببين : فهناك من ناحية الطبيعة الاستبدادية للنظام، وهناك من ناحية أخرى فكر النظام وضوابطه الشرعية التي ترفض مفهوم المواطنة وخاصة أنه مفهوم يساوي بين الرجال والنساء ويساوي بين الأديان ويضع الإسلام في مرتبة واحدة ليس مع المسيحية فقط وإنما أيضا مع الأديان المحلية (وهي أديان لا يعترف الإسلام ولا تعترف المسيحية أصلا بها وتعتبران أتباعهما مجرد مادة للتبشير).

وهكذا صنعت النخبة الشمالية (وخاصة في تجليها الإسلامي) وطنا طاردا، وكان من الطبيعي أن ينتهي الأمر بانفصال الجنوب عن ذلك الجسد المريض علّ استقلاله يحقّق آمال شعبه. وفي تقديري أننا نحن أهل الشمال مطالبون بشيئين : مطالبون بالترحيب الفرِح والحقيقي باستقلال جنوب السودان ومطالبون بالاعتذار لأهل جنوب السودان عن كل الجرائم التي أرتكبها جيش الشمال ومدنيو الشمال الذين جيّشتهم حكومات الشمال بحقهم.

لا بد أن نفرح باستقلال جنوب السودان لأنه يعبر عن إجماع شعب الجنوب على الانعتاق من الوضعية الاستعمارية التي ظل يرزح تحتها منذ 1956 (نعم، علاقة الشمال بالجنوب كانت في جوهرها علاقة استعمارية، ونعم، من الممكن أن يستعمر الأفارقة بعضهم، فقد استعمر الأثيوبيون الإرتريين وشاركت مصر في استعمار السودان).

لا بد أن نفرح باستقلال جنوب السودان لأنه يعني إسدال الستار على الحرب الأهلية ويضع حدا لنزيف الدم. لا بد أن نفرح باستقلال جنوب السودان لأن المواطن الجنوبي قد أصبح، أخيرا، ذا وطن حقيقي ينتمي إليه ويفخر به. لا بد أن نفرح باستقلال جنوب السودان ولا نحزن على واقع الأمس لأن واقع الأمس لم يكن واقع وحدة حقيقية وإنما كان واقع بلد مصطنع ورثناه عن الاستعمار ولم نجهد في توحيد وجدان أهله بل أفسدناه بتحيزات العرق والدين والاختلال الدائم لميزان السلطة والثروة.

لا بد أن نفرح باستقلال جنوب السودان لأن طموح الدولة الجديدة هو أن تكون دولة ذات نظام ديمقراطي علماني ينضم لباقي الأنظمة الديمقراطية في القارة، الأمر الذي يعزّز آمالنا في الشمال لاستعادة ديمقراطيتنا السليبة.

ولكن فرحنا نحن أهل الشمال باستقلال الجنوب لا يكفي. نحن، من دون الآخرين في باقي إفريقيا وباقي العالم، مطالبون بما هو أكثر من الفرح والترحيب بالوطن الجديد. نحن مطالبون بالاعتذار لأهلنا في الجنوب. لن نستطيع إعادة الموتى ndash; من جنوبيين وشماليين ndash; ولكن أفضل ما نقدمه لذكراهم هو الاعتذار عما ارتكب في حقهم.

إن الاعتذار هو اللبنة الأولى والأساسية التي من الممكن أن نضعها ليس فقط لبناء علاقة جديدة وصحية مع أهلنا في الجنوب ولكن أيضا لبناء علاقة أكثر صحية مع أنفسنا ولتحرير الواقع الشمالي من بعض أمراضه وأوهامه. إن الاعتذار سيرسي دعامة هامة من دعامات الديمقراطية القادمة إذ أنه سيضعنا في مواجهة تلك التحيزات التي قادت لإقصاء الجنوبي والعنف ضده، ولعل هذا يعيننا وبشكل جاد على الحفاظ على ما تبقى من وطن رغم الإقصاء والعنف الحالي في دارفور وجنوب كردفان الذي ربما يمتد غدا لمناطق أخرى. لا أتوقع بالطبع أن يعتذر النظام الحالي عن جرائمه.

إلا أن ما أتمناه، هو أن يشعر كل مواطن شمالي بأنه لا يستطيع أن يتجرّد تجردا كاملا من مسئولية ما حدث. ما أتمناه هو أن نناقش أنفسنا ونتناقش مع الآخرين حول ما حدث ومشاعرنا بإزاء ما حدث وما نستطيع أن نفعله الآن ومستقبلا. ما أتمناه هو أن يكون هذا هو موضوع الساعة بين الأفراد ووسط منظمات المجتمع المدني والأحزاب ومختلف التشكيلات. لا أقترح كيفية معينة للاعتذار والأمر متروك لمبادرات الأفراد والجماعات، ولكن لا بد أن يصل صوتنا قويا واضحا بالاعتذار لمواطنينا في الجنوب.

ومثل فرحنا الذي لا يكفي فإن اعتذارنا، على أهميته، ليس بكاف أيضا. نحن مطالبون، علاوة على ذلك، بالمساهمة الحقيقية والنشطة في إعمار الجنوب الذي شاركنا في قتل مواطنيه وإرعابهم وتشريدهم وتدمير سبل كسب عيشهم وشاركنا في تدمير بنيات قراهم ومدنهم من طرق ومدارس ومستشفيات.

لا بد أن نساهم في بناء الجنوب الجديد أفرادا وجماعات. لا بد من أن ينظّم الشماليون قوافل سلام يساهم فيها كل من يستطيع المساهمة حسب طاقته وقدرته، يساهم فيها المعلمون لمحو الأمية، ويساهم الأطباء البشريون والبيطريون لمواجهة المرض، ويساهم المهندسون في إعمار وتأهيل مختلف البنيات الخ. ولا بد من قيام صندوق يساهم فيه كل مواطن حسب طاقته للتبرع لمختلف المشاريع، ومثل هذه المساهمات حتى وإن كانت زهيدة لها أهميتها.

لا بد أن تعرف الأجيال القادمة من أطفال الجنوب والشمال أننا عشنا زمن الحرب والجنون والدمار والكراهية والخراب وأن خيارنا كان إدانة ما حدث وتحمّل مسئولية ما حدث وأننا اعتذرنا وساهمنا في إعادة إعمار ما خرّبناه، لا بد أن يعرفوا أننا فعلنا ذلك على أمل أن يرثوا عالما أكثر سلاما وحرية.


* أستاذ سابق في جامعة الخرطوم وجامعة تفتز بأميركا ويقيم حاليا في المملكة المتحدة

[email protected]