قد أثبت الشعب السوري، في جمعة أسرى الحرية، إن الوعي التاريخي المتوارث إليه منذ عدة آلاف سنة مازال ينبض في عروقه وفكره ووجدانه، فالحضارات القديمة التي تعاقبت على هذه الجغرافية الرائعة، تركت بصماتها الخالدة وطابعها الحضاري والمدني على كل شريان ووريد في المنطقة. وأمتحت مدى تعلقه بالزمان والمكان ومفهوم التطور من المعنى الحضاري لوجوده الخاص والمميز. وحينما تلفح رياح الحرية والكرامة تلك الوجوه الغارقة في الشموخ، في الإباء، في التسامي، وهي تهتف بحنجرة واحدة، وبجسد مشترك، وبروح وحيدة يتيمة، فإن الشر وأزلامه ومقدماته، ترتعد أوصالها، وتقشعر أبدانها، وترغد هودجها، وتزبد ثعابينها، ويستشاط غيظها حنقاُ. هذه الرؤيا بدت لكل متتابع للأحوال السورية على حقيقتها التاريخية الأصلية في التفاعل الجاد والفعلي ما بين آدمية الأنسان وجوهر الروح والغاية من مفهوم الديمومة، لذلك فإن الشعب السوري وبكل ألوانه وفئاته وشرائح مجتمعه بادر إلى تحقيق أجمل صور الطبيعة في مفهوم الحرية والديمقراطية، والتآلف والأخوة، والشعارات السلمية، والرمزية العفوية، والحناجر الهاتفة المعبرة عن قاسم مشترك وهو إن الألم والوجع هو لكل الشعب السوري، كما إن الحرية والرخاء والرفاهية هي أيضاُ لكل فرد سوري، لكل بقعة سورية، لكل زاوية من زوايا هذا الوطن الحبيب. وهذه النقطة في غاية الأهمية والروعة لإن شعارات المتظاهرين أسقطت مفهوم السياسة والسياسة التقليدية، وكل من سومت له نفسه الولوج في متاهاة سراديب قاتمة دامسة، وأعفته مشقة عناء تجشم البحث عن الفراغ، التنقيب عن أمجاد سرابية، التهافت على رعونة باتت من ثنايا وبقايا العهود الغابرة والأزمنة البائدة. ورحب هذا الإئتلاف الأخاذ الفريد الأستثنائي بمفهوم الأنسان أولاُ كجوهر، كروح، كأخوة، وبفهوم الولاء للوطن بنفس الدرجة كمعطيات أساسية في العلاقة ما بين الفرد والجماعة، وبفهوم الحرية ثالثاُ كوحدة في العلاقة ما بين الأنا والأنت بعيدأ عن المضامين التقليدية في الإقصاء والألغاء، وبمحتوى الديمقراطية كأتحاد في التعامل والرؤيا المتعددة الجوانب، على ضوء إن التعددية هي إغناء مسندي عضدي للجميع، وعلى قاعدة إن الفردية ضمن صيغ التماهي الحقيقي ما بين إئتلاف الخاص والعام ليست في النهاية إلا إحدى أشكال التعددية، والمنطوق الجوهري لحركة وتحرك المجموع ضمن المختبر الواحد الذي لايقبل القسمة بطبيعته بذاتيته، وبطبيعته الأحادية، وليس قسرياً، أو تسويفياُ، أو تعسفياُ. وهذه الطبيعة أخترقت التاريخ والمجد، وكل الحدود المألوفة، ونصبت خيمة واحدة وحيدة في كبد السماء، على سقف القمر، على كوكب لاينتمي إليه إلا الخير والمطر وأوراق الشجر، على مجرة هي عنوان المستقبل، هي نبض الروح الأولى، ففي البداية كان اللوغوس وكان الشعب الحر، وفي البدء كان اللوغوس وكانت الحرية، وفي البدء كانت الكلمة وكانت الكرامة، فعلى مياه دجلة وفرات وبردى والعاصي رأيت بأم عيني صورة خارقة للوصف متحدية التعبير كاسحة للزمان والمكان. وهذه الطبيعة وهذا الإئتلاف الموضوعي العلمي المعرفي هو عنوان وسيد المسطحات التالية. المسطح الأول : برزت على خارطة التاريخ والسياسة معادلة جديدة لاتتقوت من الماضي ولا من حيثيات القوة الغاشمة وفيزياءها العاطلة، إنما تتجذر وفقاُ لخصوصية تجربة معطياتها جديدة، ملامحها أصيلة، أبعادها محلية، جوهرها سورية. كما إن محركها الأساسي هو الشعب السوري وعلتها الفاعلة، تلك العلة التي تلغي آلياُ وقبلياُ وبعدياُ كافة المصوغات ndash; التقليدية في المحتوى والسياسة - التي تزعم، وتزمع الولوج في جيولوجية التجربة السورية، وتنفي عن نفسها بنفس الدرجة المسوغات التي تتهدل وتتدلى على مشانق لامناص من أن تكنس وتخنس ( بضم التاءتين ). المسطح الثاني : في لحظة تاريخية معينة، تراءت للإدارة الأميركية والفرنسية والأنكليزية ومضات خاطئة مفادها إن المنطقة العربية لامندوحة مقبلة على تكثيف سياسيي في الأسلام المؤدلج، فلما لايكون النموذج التركي، التجربة الأردوغانية وحزبه في العدالة والتنمية، نبراساُ وضاءاُ، وعلة فعلية في تجسيد الطموح الشعبي للحرية والعدالة الأجتماعية !! سيما وإن الليبراليين العرب ndash; الكردي في سبات لارقادي وفاقدي السمت الواعي وأستقراءات المنطق وأسباب نزوله، سيما وإن اليسار العربي ndash; الكردي لازال لينينياُ ستالينياً يتجوهر في كيمياء الأبعاد المائتة في العلاقات المتحركة، سيما وإن ما يسمى ( بضم الياء ) بالمثقف العربي ndash; الكردي يتوهم، أو بالدقة يظهر له التوهم، وكأنه يتوهم في تحديد وعيه وخطه البياني على ضوء حيثيات الأنتقال من مرحلة إلى أخرى !! لكن تلك الإدارة، الغربية الأميركية، أدركت بسرعة إن الشعب السوري له أحتسابات مستقلة، أحتسابات قائمة على فرضيات جديدة في مرحلة جديدة وتاريخ جديد، ولايمكن ولا بأي شكل من الأشكال إلا الرضوخ لهذه الأحتسابات، لهذه الوقائعية التي لاتقبل إلا بتطبيق القوانين الصحيحة والفعلية للتاريخ كما هو، كما هو عارياُ، كما هو بدون أحداث. المسطح الثالث : في لحظة تاريخية معينة، تراءت للإدارة الغربية الأميركية تهيؤات خاطئة مفادها إن أمن أسرائيل هو ضرورة ndash; سياسية غربية أميركية ndash; وحيثية قاهرة لكل الحيثيات الأخرى، بل إن أمن أسرائيل هو ضمانة ودالة فاعلية الغرب الأميركي في المنطقة، لكن تلك الإدارة أستفاقت على محتوى ثلاث مدارات متداخلة. المدار الأول : إن المنطقة العربية لاتأبه ولا تكترث بموازين القوى ولا بالتحليل على خلفية ndash; هات وخذ ndash; ولا على خلفية ndash; هذا صديق قد يفيد ndash; وأنها قد أحدثت ثورة حقيقية في تاريخها، وبالتالي لامحيص من إن تحدث الولايات المتحدة الأميركية ثورة في علاقاتها في الشرق الأوسط. المدار الثاني : إن الأقتصاد العالمي لم يعد يحتمل البقاء على العلاقات الأقتصادية والسياسية القديمة، وإن العلاقات الأقتصادية لاتلتزم بالعلاقات السياسية التي في معظم أحوالها تكبح وتلجم تقدمه، وإنه لايمكن أن يسمح لهذه العلاقات أن تقف عقبة كأداء كتدخل بليد وغبي في خصوصياته البنيوية، وفي محتواه ndash; الراسمال المالي القروضي الربوي البنوكي الذي يقتضي السلم ويزدهر فيه، ويتباغض وظروف الحرب وتساوقات العنف من جانبين، الجانب الأسرائيلي : القائم على جوهر معاد لأي تطور وتقدم ، ويقتات من القوة الحروبية . وجانب الأنظمة القمعية التوتاليتارية التي هي الأخرى تتقوت من العنف ومن حجم الدمار والتخريب. المدار الثالث : إن المسألة السياسية بمفادها الصرف لن تمنح الخيار لإدارة الولايات المتحدة الأميركية سياسياُ أن تتحابل على الوضع الأسرائيلي من جهة، ولا على المرتكز العربي القمعي في الحفاظ على السلطة من جهة ثانية، ولا على الديمقراطية الغربية وحقوق الأنسان في الشرق الأوسط ndash; الأصلاحات، الحوار، خارطة الطريق ndash; من جهة ثالثة، لأن هذه المسألة ستولد بالضرورة التاريخية فحواها السياسي المناسب، ودالتها الأقتصادية الموازية، ومدلولها المجتمعي المواكب، وإلا فأنها لن تولد، وإذا لم تولد لن يولد شيء، وهذا يناقض صيرورة وسيروة قوانين تاريخانية هذه الأنتفاضات وحيثياتها..