ما أن يأتي موعد الإنتخابات حتى يهرول الساسة العراقيون أصحاب ربطات العنق نحو مدينة النجف ليلتقوا مراجع الدين الكبار هناك. فمنهم من يحظى بلقاء أولئك المراجع ومنهم من يلتقي رؤساء المكاتب والسكرتارية فقط بعد إعتذار المراجع عن لقائهم. كل حسب سمعته وقربه من المؤسسة الدينية وأداءه في المرحلة السابقة. فتحولت تلك المدينة التي يرقد بها الإمام علي بن أبي طالب إلى مدينة فاعلة في الحياة السياسية العراقية بعد أن كانت مدينة مهملة عن عمد في عهد النظام السابق. إن كبار الشخصيات السياسية والدينية تزور النجف بإنتظام للقاء المراجع الكبار وعلى رأسهم السيد علي السيستاني، إبتداءا ً من نوري المالكي وأياد علاوي إلى الباطريارك عمانؤيل دلي الكاردينال في الفاتيكان ورئيس الطائفة الكلدانية في العراق. ورحم الله الشاعر الكبير أحمد الصافي النجفي الذي وصف المدينة قبل أكثر من نصف قرن من الزمان ببيتين من الشعر ولم يرها حالها وأحوالها الآن، فهو يقول:
أعيش في مدينة تليق أن
يعيش فيها الشيوخ والعجائز
فصادرات بلدتي عمائم
وواردات بلدتي جنائز
وهنا يشير إلى أن في النجف واحدة من أكبر المقابر في العالم.
لقد كان ومازال دور الحوزة العلمية في النجف إيجايا ً لحد كبير بحيث ساهم في إطفاء الفتنة الطائفية التي كادت أن تودي بالعراق وأهله. حيث تحولت العمامة من زي ديني إلى رمز مقدس من رموز السياسة في العراق والناطق بإسم الحوزة العلمية. وهنا أقصد الحوزة العلمية كمؤسسة بمواقفها الرسمية وليس رجال الدين الذين يلبسون العمامة أو ينزعوها لأغراض سياسية. السؤال المهم والواجب طرحه هنا وهو، هل ستبنى الدولة ومؤسساتها من قبل صاحب العمامة، بعد أن تفككت وأنهارت بعد الغزو الامريكي، أم لابد من مشروع متكامل يتعاون فيه الجميع لبناء تلك المؤسسات والذي لابد أن يقوم به رجال التكنوقراط من أصحاب ربطات العنق. بالتأكيد سوف لن تبني الحوزة العلمية وأصحاب العمائم فيها مؤسسات الدولة فذلك ليس من وظيفتهم، ولكن ومن جانب آخر، لانجد مشروعا ً واضحا ً لبناء دولة مؤسسات على أساس واضح ومتين. فالدولة ترفع شعار الديمقراطية بالرغم من عدم وجود مشروع ديمقراطي حقيقي لأسباب عديدة منها أن مشروع الدولة الديمقراطية لم يكن موجودا ً قبل دخول الأمريكان إلى العرق عدا بعض الأفكار والتصورات السياسية عن الليبرالية والفيدرالية والديمقراطية والتي كانت متداولة بين بعض أطراف المعارضة الليبرالية والعلمانية. أما الإسلاميون فقد أقتنعوا بالديمقراطية كتحصيل حاصل وطريقة للوصول للسلطة فقط، والدليل على ذلك أن تلك الأحزاب تفتقد آلية العمل الديمقراطي في الأنظمة الداخلية فيها والتي يدار بها الحزب أوالمنظمة الفلانية، أو تخلط بين ماهو ديني وسياسي في أداءها السياسي، ناسية أو متناسية بأن الدولة في العراق دولة ليست بالدينية.
مع الأسف الشديد، لانستطيع أن نصف العراق بالبلد الديمقراطي، حسب قاموس علم السياسة، بل هو بلد شبه ديمقراطي حاله كحال باكستان وروسيا وتركيا الأمس حين كان العسكر يسيطر على العملية الديمقراطية وإدارتها. فتلك الدول ليست دكتاتورية ولا ديمقراطية ولكنها شبه ديمقراطية حيث تسعى للوصول إلى الديمقراطية. ففيها تلعب المؤسسة الدينية كما في العراق والمؤسسة العسكرية كما في باكستان وتركيا الأمس أو المافيا وأصحاب النفوذ في روسيا دورا ً كبيرا ً في رسم صورة وشكل وطبيعة نظام الحكم في البلد. فمجموعات الضغط وأصحاب المصالح هم الذين يصوغون الخطاب السياسي في المجال العام في تلك الدول وفي العراق أيضا ً، وليست صناديق الإ قتراع، وإن كانت هناك إنتخابات حرة ونزيهه.
أذن، لابد لأصحاب ربطات العنق من مشروع لبناء دولة مؤسسات قائمة على أسس ديمقراطية حديثة بعيدا ً عن دعم المؤسسة الدينية. دولة يكون فيها المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات بغض النظر عن اللون والجنس والدين والعرق والطائفة. دولة تقوم على أساس القانون ويتم فيها فصل السلطات وتنشط فيها مؤسسات المجتمع المدني. إن التخبط الذي تعيش فيه الدولة العراقية بكافة مؤسساتها في غياب استراتيجية سياسية واقتصادية واجتماعية واضحة ناجم عن غياب المشروع الديمقراطي الحقيقي لكل الكتل السياسية من حكومة ومعارضة في تشابك عجيب بين العمامة وربطة العنق. فالكل يعمل عكس الديمقراطية في وقت ترفع فيه الشعارات الديمقراطية. فلاديمقراطية في دعم واضح للمؤسسات الدينية من خزينة الدولة، وقمع الحريات الفردية، وتقييد حرية الصحافة والإعلام، وعدم تفعيل الدور الرقابي والقانوني في مؤسسات ينخر فيها الفساد. ولايوجد هناك مجتمع ديمقراطي في غياب مؤسسات المجتمع المدني والتي تعتبر ركيزة أساسية من ركائز الديمقراطية. ولاديمقراطية يتدخل فيها رجل الدين في صياغة السياسة العامة للبلد متجاوزا ً الدستور.
إن أكثر الدول ديمقراطية في العالم لديها مؤسسات، حكومية ومنظمات مجتمع المدني، لدعم الديمقراطية وذلك لأن الديمقراطية عبارة عن حركة لابد من السعى لديمومتها وضبط إيقاعها مع الواقع، ولهذا السبب تناقش الديمقراطية في تلك المؤسسات وفي المؤتمرات والندوات في الاكاديميات للحفاظ عليها وتطويرها. أما في العراق، فسيظل صاحب ربطة العنق يستجدي التأييد من صاحب العمامة مادام هو نفسه لا يؤمن بالديمقراطية فضلاً عن إمتلاكه مشروعا ً ديمقراطياً.
- آخر تحديث :
التعليقات