في الآية 92 من سورة يونس يقول الله تبارك وتعالي مخاطبا فرعون quot;فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك أية، وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلونquot; تذكرت هذه الآية الكريمة وإنا أتابع مع الزملاء صباح الأربعاء الماضي الجلسة الأولى من محاكمة الرئيس المخلوع quot;حسني مباركquot;، الرجل يرقد على سرير متحرك داخل قفص الاتهام لكنه يعي كل ما يدور حوله، فرعون كتب له الله النجاة ببدنه فقط بعد أن عرف الحق وندم في وقت لا ينفع فيه الندم، ومبارك أراد الله أن يظل ببدنه وروحه ليشاهده العالم ذليلا في قفص الاتهام، وفي مساء ذلك اليوم يتلو أئمة المساجد في القاهرة والعواصم العربية في صلاة القيام الآية 26 من سورة آل عمران quot; قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير انك على كل شيء قديرquot; الجزء الثالث من القرآن الكريم، انتابتني كما كثير من المصريين مشاعر مختلطة، مبارك في قفص الاتهام في سابقة هي الأولى في تاريخ مصر التي قدست منذ خمسة آلاف عام حاكمها quot;فرعونquot; وقتلت في مطلع الثمانينات رئيسها quot;أنور الساداتquot; هل مصر تغيرت حقا نعم مصر بعد 25 يناير لا تقدس الحاكم ولا تقتله، تنظر إلى الحاكم كموظف عام تخضعه للقانون إذا اخطأ، وتشد على يديه إذا أحسن، نفضت مصر المنهكة الغبار عن كاهلها لتعود فتية قادرة على أن تأخذ مكانها الطبيعي بحكم التاريخ والجغرافيا.

من الضروري قبل أن تخطو مصر على أعتاب مرحلة جديدة في تاريخها، أن تطوي صفحة الماضي، من حق شعب مصر أن يحاكم رئيسه المخلوع وأركان نظامه على ما اقترفوه من جرائم الفساد وسوء الإدارة، وتزوير إرادة الشعب في الانتخابات، وتهيئة البلاد لتمرير مشروع التوريث،وإفساد الزراعة والتعليم والإسكان والصحة، والتعالي والاستكبار واحتقار الشعب، وقبل ذلك قتل الشباب الطاهر شباب ثورة الخامس والعشرين من يناير الذين حملوا أرواحهم على اكفهم وضحوا بحياتهم من اجل أن تحيا مصر، ونصل إلى هذه اللحظات الفارقة في تاريخ المصريين، الشعب اليوم يقول كلمته ويحاكم رئيسه محاكمة وطنية مصرية خالصة دون ضغوط من الخارج بفضل ثورة 25 يناير التي لا تزال مصدر الهام للعالم.

من حق عائلات الشهداء أن يقاضوا مبارك على موقفه المشين من ثوار 25 يناير بإعطاء الأوامر بقتل المتظاهرين، ومن حقهم أن يطمئنوا إلى أن دماء أبنائهم لن تذهب هدراً، وقد شاهدنا مبارك بنفي التهم الموجهة إليه ويقول quot;أنكر تماما كل هذه التهمquot;، لكن عليه أن يواجه في ساحة العدالة أدلة الاتهام التي سوف توجه إليه، وأن يقنع المحكمة بأنه بريء، وهذا قد يكون أشبه بالمستحيل، فقد سبق وأدلى رئيس مخابراته quot;عمر سليمانquot; بتصريحات أكد فيها أن quot;مباركquot; كان على علم بكل ما يجري في ميدان التحرير والميادين الأخرى، وكان يحاط علما بكل أعداد الشهداء الذين يسقطون برصاص الأمن، بل أن بعض المقربين من quot;مباركquot; قالوا إنه أعطى أوامر للجيش بتصفية الاحتجاجات.

وربما تقلب شهادة رئيس الاستخبارات السابق quot;عمر سليمانquot; والمشير quot;حسن طنطاويquot; الأمور رأسا على عقب إذا استدعتهم المحكمة للشهادة أمام القاضي، وفي نهاية المطاف ستكون الكلمة الأخيرة للقانون، الم يقل مبارك في خطاباته إن كل المصريين أمام القانون سواء، الم يقل في حديثه لقناة quot;العربيةquot; قبل خمس سنوات quot;إن الشعب لو مش عايزك لن تستطيع البقاء في منصبك، وانه لو استقال ستقوم القيامة ولن يرضى الشعب وسيطالبه بالبقاءquot;، اعتاد quot;مباركquot; المخلوع أن يسخر من الشعب معتقدا انه يضحك على المصريين معتقداً أن شعبه لم يبلغ سن الرشد، لكن انقلب السحر على الساحر.

لقد شهد العالم محاكمات كثيرة لرؤساء سابقين، في العالم العربي مثلا شاهدنا محاكمة الرئيس العراقي الراحل quot;صدام حسينquot; 2005 أمام quot;محكمة عراقية خاصةquot; في بغداد بتهم quot;إبادة جماعيةquot; لأهالي بلدة quot;الدجيلquot; في عام 1982 بعد تعرض موكبه لعملية اغتيال فاشلة نظمها حزب الدعوى الإسلامية، غير أن هذه المحكمة تشكلت من مجلس حكم يخضع لحاكم العراق quot;بول بريمرquot;، قبلها شاهدنا محاكمة الرئيس اليوغسلافي السابق quot;سلوبودان ميلوسفيتشquot; عام 1999 أمام المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة وكلا المحاكمتين كان لهما بعدا دولياً، أما محاكمة مبارك فجاءت استجابة لثورة الشعب أي محاكمة وطنية مصرية خالصة.

ربما النموذج الأقرب لمبارك هو quot; سوهارتوquot; الذي حكم اندونيسيا نحو30 عاما في الفترة من عام1968 حتى عام1998، عانى خلالها الشعب القمع والاستبداد، ووصل ببلاده إلي حالة من الفقر المدقع، بعد أن نهب أموال الشعب هو وأسرته، وقد قدرت ثروته بنحو ستة عشر مليار دولار. وحين أعاد انتخاب نفسه رئيساً عام1998 للمرة السابعة، اجتاحت البلاد مظاهرات رافضة له وأجبرته علي التنحي وتقديمه للمحاكمة علي جرائم الفساد والاستبداد في عهده، لكنه توفي بسبب حالته الصحية المتدهورة عام 2008 قبل أن يقول القضاء الاندونيسي كلمته.

لا يغرنكم منظر مبارك في قفص الاتهام، وفريق دفاعه وكلاهما يسعى إلى الوقيعة بين الجيش والشعب، المحامي quot;فريد الديبquot; طالب شهادة المشير quot;حسين طنطاويquot; رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وقد أبدى الرجل استعداده للشهادة، بعد أن جرى حديث عن أن المشير كان ضمن لجنة اتخذت قرار قطع الانترنت، مبارك لا يهتم سوى بالخروج من هذه المحنة، حتى لو على حساب مصلحة مصر، فمصالح مصر لم تكن يوماً محل اهتمام مبارك ونظامه، ولن تنطلي الأعيب مبارك وفريق دفاعه على المحكمة ولا على الشعب، وكل ما يتمناه المصريون أن يعيش quot;مباركquot; حتى تنتهي محاكمته، وينال الجزاء العادل في الدنيا قبل أن يلحق به الخزي في الآخرة، ليتحقق فيه قول الله تعاليquot;وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمونquot;.
إعلامي مصري