أصابت صحيفة quot;دي تسايتquot; الإسبوعية الألمانية كبد الحقيقة حين وصفت الرئيس السوري بشار الأسد بـquot;طبيب العيون الأعمىquot;. منذ اندلاع شرارة الثورة السورية في الخامس عشر من مارس الماضي، يثبت الأسد كلمةً إثر أخرى، وتصريحاً وراء آخر، قولاً وفعلاً، بأنه quot;أعمىquot; لا يرى ما يجري في سوريا، من شبيحة تقتل المواطنين العزّل، وحصارٍ للمدن، وقصفٍ لها بالدبابات والمدفعيات والرشاشات، وأمنٍ دمويّ كثيرٍ يعتقل الناس فرادى وجماعات.

بعد مرور أربعة أشهر ونصف بالتمام والكمال، على الدم السوري المراق وثورة أهله المنتفضين، أثبت الأسد، لكلّ العالم من حوله، قريبين وبعيدين، أصدقاء وأعداء، بأنه ليس أعمى البصر، لا يرى فحسب، وإنما أعمى البصيرة لا يتعلم من أخطائه وخطاياه، وأعمى القلب أيضاً.

هو، كلما خرج علينا بكلامه الطويل الثقيل، يثبت بأنه يتكلم كثيراً، ولا يستمع إلى أحد؛ ويقول كلّ شيء، دون أن يفعل شيئاً؛ ويعد الجمهور السوري بكلّ شيء، دون أن يفي بأيّ شيء، اللهم سوى صناعة القتل وحمامات الدم والمجازر، على طول البلاد السورية وعرضها.

بعد كلّ هذا الخراب المنظّم الذي تمارسه شبيحة نظامه وأجهزة أمنه، بحق الشعب السوري الأعزل، خرج الأسد أمس، بمناسبة الذكرى ال66 لتأسيس الجيش السوري، عبر وسائل إعلامه المتعامية، بكلامه المكرور ذاته، قائلاً، بأنه(مع quot;جيشهquot;) quot;لعلى يقينٍ تام بأنّ تمسكهم بثوابتهم الوطنية والقومية يزيد من حقد الأعداء عليهمquot;، مؤكداً في الوقت ذاته بquot;انهم على ثقة مطلقة بأنهم قادرون بوعي شعبهم وبوحدتهم الوطنية أن يسقطوا هذا الفصل الجديد من المؤامرة التي نسجت خيوطها بدقة وإحكام بهدف تفتيت سورية تمهيدا لتفتيت المنطقة برمتها إلى دويلات متناحرةquot;.

إذن، الأسد، الرئيس الأعمى، الذي لم يعد يرى شيئاً مما يجري حوله، سوى المؤامرات الخارجية التي تحاك ضد سوريا(ه)، هو quot;على يقينٍ تام، وثقةٍ مطلقةquot; بأنّ لا صحيح خارج quot;صحيحهquot;، ولاثوابت وطنية وقومية، خارج quot;ثوابتهquot;. على أساس هذا العقل الغارق الميت في quot;نظرية المؤامرة الأزليةquot;، يبني الأسد كلامه quot;المطلقquot; وquot;العابر لكل اليقينquot;، في المطلقات واليقينيات، التي يسند إليه على الدوام، يقينه quot;الأعلىquot;، الذي لا يعلوه يقين، وثقته quot;الفائقةquot; التي لاتفوقها ثقة.

من يستمع لكلام الأسد هذا، أو يقرأه، سيفهم شيئاً واحداً لا شريك له، وهو أنّ الأسد المفرط في quot;يقينه التامquot; وquot;ثقته المطلقةquot;، مصابٌ بأكثر من عمى، فضلاً عن إصابته بنوع من جنون العظمة الفارغة، التي ما عادت تشترى وتُباع، في سوق السياسة، هذه الأيام، حيث الشعوب تصعد، يوماً إثر آخر، والديكتاتوريات تسقط كأحجار الدومينو، عاصمةً وراء أخرى.

بدلاً من أن يعتذر الرئيس الأسد لشعبه الذي يُقتل ويُذبح يومياً، على أيدي quot;جيش الشعبquot;، راح يخاطب جيش(ه) قائلاً: quot;لقد أثبتم للعالم أجمع بأنكم الأوفياء لشعبكم ووطنكم وعقيدتكم العسكرية. ويكفيكم فخراً أن دماءكم الطاهرة وجراحكم النازفة وصبركم وإقدامكم وتصميمكم على تنفيذ مهامكم المقدسة قد قطع الطريق على أعداء الوطن وأسقط الفتنة وحافظ على سورية وطنا أبياً عزيزاً يحتضن جميع أبنائهquot;.

أيّ جيشٍ للشعب، هو هذا الذي يقتل شعبه؟
أيّ وفاءٍ للشعب والوطن، هو هذا، حيث quot;الأوفياءquot; هؤلاء، يدكون الوطن بالدبابات والمدفعيات، ويقتلون أبناء الشعب فرادى وجماعات؟
أيّ فخرٍ هو هذا، حيث الدم السوريّ يُهدر تحت أقدام quot;الفخورين المفتخرينquot; هؤلاء؟
أيّ quot;مهامٍ مقدسةquot; هي تلك، حيث المقدس على أيدي القائمين عليها يُدنس، والأعراض والحرمات تُنتهك وتُستباح؟
أية quot;سوريا أبية عزيزةquot; هي هذه، حيث كلّ أبيٍّ فيها هو quot;خائنquot;، وكل عزيزٍ حرٍّ، ليس له إلا أن يُقتل ويُعتقل؟

لا يهم الأسد إذن، ما يجري من قتلٍ وخراب ودم مسفوكٍ في الشوارع والأزقة والحارات، ولا يهمه الشعب، كيف يُقتل ويُذبح يومياً تحت قصف الدبابات، وعلى أيدي القناصة من شبيحة نظامه، ولا يهمه أمن الوطن في الداخل وأمن الموطنين المهددين، على مدار الساعة، وعلى امتداد سوريا، بالقتل والإعتقال وإهدار الدم والكرامة. هذا كلّه ليس من مهام بصر الرئيس الأسد وبصيرته، وإنما ما يهمه ويراه فقط، كما دائماً، هو quot;الفتنة التي أسقطها الجيش الوفي لعقيدته العسكريةquot;.

الرئيسُ، لا يرى quot;حماة الثانيةquot;، كيف تقصف على أيدي quot;حماة ديارهاquot;، ولا يرى دير الزور والبوكمال ودرعا، كيف تجتاحها كتائب وفرق الموت، وتهدد السكان بالتي هي أسوأ.
هو، لا يرى في سوريا إلا ظلّه على الأرض؛ ظله وظلّ والده وعائلته وشبيحته، وكأن سوريا ولدت معهم، وستموت(أو لا بدّ لها أن تموت) من بعدهم.
الرئيس quot;الفائق الثقةquot; بنفسه وجمهوريته وquot;ثوابته القومية والوطنيةquot;، الخارجة على كلّ القوميات وكلّ الوطنيات، لم يكتفِ بذلك وإنما عاد من جديد لإسطوانة نظامه المشروخة، ليؤكد على quot;ثباتquot; عداوته لإسرائيل، وثبات quot;جولانquot;(ه)، قائلاً: بquot;أنه (أي الجولان) سيبقى عربياً سورياً وسيعود إلى حضن الوطن الأم سورياquot;.

منذ أكثر من أربعين عاماً، ونحن نسمع هذا quot;الجولان العائد عاجلاً أو آجلاًquot;، وquot;جولان اللاعائدquot; لا يزال.
منذ أكثر من أربعين عاماً من quot;العداوة المعتدلةquot;، وهذا النظام يتخذ من أمن إسرائيل أمناً له.
منذ أكثر من أربعين عاماً، وهذا النظام يعد السوريين، بألاّ يتنازل عن شبرٍ من أرضه، وهو يقدّم التنازل تلو التنازل، من لواء إسكندرون إلى الجولان.

الرئيس، يرى الجولان في هدوئه quot;الرومانسيquot; القريب على بعد شبر، والبعيد كبعد حكاية، من إسرائيل إلى إسرائيل، لكنه لا يرى حماة ودرعا ودير الزور والبوكمال وحمص وإدلب وريف دمشق وسائر المكان السوري، كيف يكتوي ويحترق بنيران الجيش وأجهزة أمن نظامه وشبيحته، من سورية إلى سورية.

الرئيس، يرى القاتل كيف يقتل الشعب(quot;شعب المؤامرةquot;)، ويبخره ببخور ثقته quot;العاليةquot; ويقينه quot;المطلقquot;، لكنه لا يرى المقتول والمذبوح والمخطوف والمعذّب والمشوّه والمهدور الدم والكرامة، كيف يُصفى ويُعدم ويمحى عن بكرة أبيه.

الرئيس، يرى نفسه في quot;سوريا الأسدquot;، ولا يرى أحداً سواه.
هو، يرى ظله على الأرض، يساوي كلّ الخريطة، وما عليها من بلادٍ وعباد.
هو، مستعدٌ أن يسقط( أو ينسى كما قال وزير خارجيته) قارةً بكاملها كأوروبا من الخريطة، كي يبقى هو.
من يسمع الرئيس الأسد، سيقول في قرارة نفسه، أنه ليس رئيساً يساوي سورية، فحسب كما تريد له ديكتاتوريته أن يكون، وإنما هو quot; رئيسٌ يساوي العالمquot;، كما خرف أحد أعضاء مجلسه ذات كلامٍ طويل.

ربما من هنا تأتي quot;ثقته التامةquot; بنفسه، وينبع quot;يقينه المطلقquot; بما يقول ويفعل.
الرئيس الأسد، طبيب العيون الفاشل بإمتياز، لا يرى.
هو، لا يرى سورية الديكتاتورية التي يحكمها بالحديد والنار، كيف تنهار من تحت أقدامه، ولا يرى العالم من حوله.
هو، لا يرى سورية، إلا جاريةً تحت قدميه.
هو، لا يرى العالم، إلا مؤامرةً ضده.

الرئيس الأسد، لا يرى، لا يبصر ولا يستبصر.
أنه الرئيس الطبيب..طبيبٌ عيونٍ متخصص في علاج عيون الآخرين quot;المتآمرينquot;، قولاً، لكنه يحتاج إلى من يداوي عيونه فعلاً.
الأسد رئيسٌ طبيب..طبيب عيون، بلا عيون.


[email protected]